باريس ـ بسّام الطيارة
عندما تتغيّر طبيعة «الإرهابيين» ووسائلهم ويصبحون جزءاً من نسيجهم الاجتماعي


تعيش بريطانيا حالة استنفار أمني مرتفعة بسبب محاولات التفجير الإرهابية الأخيرة في لندن وغلاسكو. وبعدما كشفت التحقيقات أن المتّهمين بالتحضير لها هم من العاملين في الحقل الطبي، وبينهم 4 أطباء على الأقلّ، بدأ القلق يساور العواصم الغربية من اتساع رقعة «الشرائح المنبتة للإرهابيين» في مجتمعاتها، وترابط هذه الشبكات عالمياً بعد انتقال التحقيقات إلى أوستراليا، التي أعلن رئيس وزرائها جون هوارد أوّل من أمس اعتقال طبيب مسلم من التابعية الهندية، مارس مهنته في مستشفيات بريطانيا وكان على علاقة بالمشتبه فيهم.
ويستند القلق إلى أن تحدّي التغيير في نوعية الإرهاب في أوروبا هو ذو وجهين: تغيير في «بروفيل» (شكل) الإرهابي من جهة، و«عولمة نشاط الإرهابيين» العاملين على الساحة الأوروبية من جهة أخرى.
فمن ناحية الـ«بروفيل»، لم يعد «إرهابي أوروبا» تنطبق عليه الصورة التي حملها الإعلام الغربي لسنوات عن «مهاجر ملتحٍ يرتدي السروال الأفغاني» ويعيش حياة اجتماعية هامشية، بل بات، كما أظهرته محاولات التفجير الأخيرة، «مواطناً مندمجاً» في المجتمع وذا مستوى تعليم عال ويمارس مهناً كان من الصعب تصوّر إمكان أن يكون من يمارسها إرهابياً، كما التصقت الصورة في المخيلة الغربية.
وكما تغيّر «مستوى» و«نوعية» الإرهابي من الناحية الاجتماعية، تغيّرت نوعية «وسائل التنفيذ» الفعليّة بكل جوانبها ودرجة التقنية العالية فيها، إضافة إلى آخر ما توصلت إليه فنون وسائل الاتصال والتواصل من الـ«إنترنت» إلى الهواتف الجوالة عبر الأقمار الصناعية مروراً بالرسائل المرقمة.
ومع تطوّر «الإرهاب» الإسلامي الأوروبي، تتطور وسائل محاربته أيضاً. ومن اللافت للانتباه اختلاف طرق مواجهته بين الدول الأنكلوساكسونية (التي تتحدّث الإنكليزيّة) والدول اللاتينية بوجه عام، وبريطانيا وفرنسا على وجه الخصوص.
والواقع أن طريقة محاربة «الإرهاب الإسلامي الوطني» في كل دولة تتعلّق بشكل كبير في فلسفة دمج المهاجرين، ففي حين أن بريطانيا تتبع سياسة «تعدّد الإثنيات» وتشجيع المحافظة على طابع كل طوائف المجتمع المهاجر وثقافاتها، سعت فرنسا دائماً إلى محاولة دمج أقليّاتها الطائفية في المجتمع ومحو التمييز الإثني واستيعاب ثقافة المُهاجر لتذويبها في الثقافة الفرنسية المهيمنة، واعتبار ما يعصى على التذويب «تنوّعاً ثقافياً» لا أكثر ولا أقل.
وعند بروز عامل الإرهاب في المجتمعين البريطاني والفرنسي، ظهرت أساليب محاربته مختلفة اختلاف التعامل مع الأقليات؛ فبريطانيا التي خبرت الإرهاب الإيرلندي سابقاً تعتمد بشكل قوي جداً على «العمل من خارج الخلايا الإرهابية» إما بواسطة التجسّس الإنساني (تنصّت ومراقبة أفراد) أو المتابعة التقنية (مراقبة الرسائل والمخابرات) التي تطوّرت بشكل مكثّف خلال السنوات الأخيرة باستعمال كاميرات الفيديو المثبتة في الشوارع مع قراءة رقمية لأرقام السيارات والتنصّت الإلكتروني الذي يعتمد على برامج مخصّصة لـ«متابعة ألسنية»، تقضي بتحليل كومبيوترات ضخمة عندما «تقنص مجموعة كلمات معينة»، المكالمات وجعل صاحبها تحت المراقبة الدائمة.
أما فرنسا، فمع استعمالها التقنيات المتوافرة للتجسس والمتابعة، إلا أنها اعتمدت مبدأ «العمل المنغمس» في داخل خلايا الإرهاب، أي استعمال العناصر البشرية من أصول مهاجرة في تتبّع نشاط الإرهابيين، وهو عمل طويل المدى يتطلّب من العناصر «المنغمسة» في الخلايا الإرهابية أن تكون على بيّنة من «فلسفة الطروحات الإرهابية» التي تعاشرها يومياً، وهي أقرب إلى المعالجة التي تقوم بها الأجهزة الأمنية العربية.
ومن هنا استطاعت فرنسا متابعة «تطوّر العمل الجهادي الإرهابي» وانزلاق نوعية العاملين فيه من شرائح المهاجرين إلى شرائح فرنسية، مع الإشارة إلى غياب الإرهاب من أصول آسيوية في فرنسا وانحصاره في حلقات من أصول مغاربية. بينما لم تنتبه بريطانيا لانتقال «عدوى الإرهاب» من الحلقات الشرق ـــــ أوسطية إلى الدوائر الآسيوية إلا عندما أفاقت على صدمة تفجيرات ميترو لندن في تموز من عام ٢٠٠٥. وأعادت التفجيرات الإرهابيّة خلط «أصول الإرهاب» بين الشرق الأوسط وآسيا وخصوصاً باكستان.
ولا يقف تفاوت المقاربة في محاربة الإرهاب عند الوسائل الأمنية الاحترازية، بل يتجاوزها إلى المسائل القضائية التي تأتي في مرحلة تلي الوسائل الأمنية القمعية. فالتشديد في فرنسا يكون بتسليم الشرطة القضائية قضايا الإرهاب حالما تنتهي مهمّات خلايا الشرطة المخصّصة بملاحقة الإرهابيين والقبض عليهم.
وتسعى السلطات الفرنسية إلى دمج التحقيقات في القضايا الإرهابية في إطار التحقيقات الجنائية العادية تحسباً للوقوع في شرك «القضايا الخاصّة» التي تؤجج الإعلام، ما يعطي «منبراً للإرهابيين»، وبذلك تبتعد عن «المحاكمات السياسية» التي تفتح الأبواب واسعة على الدخول في «أحد أهداف العمليات الإرهابية» وهو الإعلان السياسي.
وسعت فرنسا منذ شهدت حملة التفجيرات الإرهابية الأولى المتعلقة بالشرق الأوسط والجهاديين، إلى الابتعاد عن «الإجراءات الاستثنائية»، فلم تقرّ قوانين استثنائية لمواجهة الإرهاب، كما لم تميّز بين «إرهاب باسكي» أو «إرهاب كورسيكي» أو «إرهاب جهادي».
وتجري في فرنسا يومياً محاكمات لإرهابيين أو مشتبه فيهم من دون أن يلتفت إليها المواطن العادي المشغول بأمور حياتية أخرى مثل البطالة أو «العنف في الأحياء والضواحي» التي يرى أن «الشباب من أصول مهاجرة عربية أو إسلامية» وراءها.
وفي المقابل، لجأت بريطانيا في عهد رئيس وزرائها السابق طوني بلير إلى سن مجموعة من القوانين مسّت بشكل أساسي بالحريات المدنية المقدسة لدى البريطانيين، ووسعت من سلطات المحققين بشكل لم يسبق له مثيل من قبل في تاريخها. وأسهم هذا بدفع المواطن البريطاني لتحميل مسؤولية ما يحدث له لقطاع كامل من مواطنيه المسلمين.

تجري في فرنسا يومياً محاكمات لإرهابيين أو مشتبه فيهم من دون أن يلتفت إليها المواطن العادي المشغول بأمور حياتية أخرى مثل البطالة أو «العنف في الأحياء والضواحي» التي يرى أن «الشباب من أصول مهاجرة عربية أو إسلامية» وراءها