القاهرة ــ وائل عبد الفتاح
لندن هي عاصمة الموت الغامض لمشاهير مصريين، تجمعهم علاقة بجهاز المخابرات المصرية، اختاروا العاصمة البريطانية في سنوات غروب العمر، بعد زوال سنوات العز والقوة والنجومية، ليأتي الموت فى لحظة تعيد كلاً منهم إلى دائرة الاهتمام قبل أن يُغلق ملفه كما فُتح... غامضاً

  • رواية مقتل أشرف مروان والليثي ناصف وعلي شفيق... بعدما خرجوا من عالم المخابرات

    باستثناء النجمة السينمائية الشهيرة سعاد حسني، فإن أبطال حكايات «شرفات لندن» جميعاً ينتمون إلى ما يمكن أن نسميه «أبطال الظل»، الذين يديرون، بحكم مواقعهم، شبكة علاقات بين السر والعلن، وموقعها دائماً في الخطوط الخلفية للسلطة.
    علي شفيق، مدير مكتب المشير عبد الحكيم عامر، قائد الجيش المصري في 1967، لم يكن الأول، لكن قتله بعد الهزيمة بعشر سنوات عام 1977، أعطى قصة مقتل الليثي ناصف، رئيس الحرس الجمهوري في الساعات الأولى من نهار 24 آب عام 1973، إشارات إلى أيدٍ خفيّة وراء الحوادث التي تسجل في ملفات سكوتلانديارد ضد مجهول.
    موت أشرف مروان أكد أن هناك علاقة بين 3 أشياء؛ أولاً الشخصيات التي لها شبكة علاقات متعددة ولها شهرة في الاقتراب من أجهزة المخابرات. وثانياً، طريقة الحياة في لندن التي تعدّ مركز تقاطع أجهزة ومراكز صراع بين العرب وإسرائيل. وأخيراً: الشرفات، التي كانت مسؤولة عن موت 3 مصريين مشاهير في لندن: اشرف مروان والليثى ناصف وسعاد حسني، وذلك حسب تقارير أجهزة الأمن في لندن.
    العملية بالنسبة إلى جمهور عمومي مجرد روايات محبوكة تخفي جرائم تصفية من النوع الشائع فى أفلام الجاسوسية. والمجرم في قصص القتل من الشرفات غير محدّد: إنه عميل مخابرات محترف. وتختلف التكهنات: هل يتبع المخابرات المصرية او مثيلتها في دولة عربية أخرى أو «الموساد»؟
    الموساد هو المتهم الأول في لغز اشرف مروان. لكنه ليس الوحيد. هناك المخابرات المصرية.
    التفسيرات الأولى لتصريحات الرئيس المصري حسني مبارك بأن اشرف مروان رجل وطني، أنها «إعلان تبرئة للرجل» بعد مرور ما يقرب من 5 سنوات من اتهامه بأنه «عميل مزدوج»، وهي التسمية الأنيقة لتهمة الجاسوسية.
    لكن هذه التفسيرات لا تنفي التهمة تماماً عن الجهاز المصري بل قد تشير إلى أن التصريحات هدفها الوحيد إبعاد الشبهة عن المخابرات المصرية لا تبرئة الرجل الغامض.
    وترى المصادر المنحازة لهذه التفسيرات أنه قد يكون أشرف مروان تجاوز خطوط التعامل مع المخابرات المصرية وأصبح مركز التقاء أجهزة أخرى تتقاطع كلها في لندن، هي التي تحميه وتجعله مطمئناً للإقامه وحده من دون عائلة في لندن، رغم أنه يقول للمقربين منه: «سيقتلونني».
    علي شفيق
    لم تكن هناك نهاية متوقعة لأشرف مروان غير تلك النهاية الغامضة، التي تشبه نهاية علي شفيق، الذي عثر الأمن البريطاني على حقيبة تحتوى على مليون دولار إلى جانب رأسه المضروب بآلة قوية. أي إن كل عناصر صفقة السلاح، التي اختلف عليها، كانت موجودة في مسرح الجريمة.
    وكان شفيق قد نقل نشاطه من مكتب أهم رجل ثان في مصر إلى تجارة السلاح، بعد اعتراض عبد الحكيم عامر على زواجه بنجمة التمثيل والغناء وقتها مها صبري.
    ورغم ان عامر يشترك مع مدير مكتبه في عشق النجمات، فهو تزوج برلنتي عبد الحميد، إلا أنه أجبر شفيق على الاختيار. فاختار النجمة، وترك بعض أصابعه في عالم قريب من المخابرات التي تربى فيها، لكنه عالم خطر لا مكان فيه لرجال بطيبة وسذاجة رجل «بدلاً من أن يعشق النجمات في السر... يتزوجهن»، كما كانت صورة علي شفيق وقتها.
    الليثي ناصف
    علي شفيق سافر إلى لندن، ولم يتعلم من درس الليثي ناصف الذي ذهب للعلاج في لندن ومنها إلى اميركا، إلا أن القاتل انتظره في محطة لندن.
    وأقام ناصف في شقة تابعة للمخابرات المصرية، وبالتحديد رجلها محمود نور الدين، الذي اتهم في اوائل التسعينات بقيادة تنظيم «ثورة مصر» الذى دبر عمليات ضد رجال اسرائيل في مصر بعد توقيع معاهدة كامب ديفيد. وكان نور الدين قد انتقل من الالتزام بشرعية الرئيس أنور السادات إلى الخروج على نظامه بعد زيارة السادات للقدس المحتلة.
    نور الدين مات فى السجن منذ سنوات، لكن بعدما دارت حوله تهمة التورط في قتل الليثي ناصف، وذلك ضمن رواية زوجة الليثي للصحافي عادل حمودة على صفحات أسبوعية «روز اليوسف».
    رواية الزوجة كانت تلمّح إلى أن الرئيس السادات هو صاحب المصلحة الأولى في اختفاء الرجل الذي كان وراء تثبيته على مقعد الرئاسة.
    الليثى كان عسكرياً ملتزماً الشرعية. والسادات أقنعه بأن هناك مؤامرة عليه ليلة 14 ايار 1971، حين فكر رجال الزعيم الراحل جمال عبد الناصر في عزل السادات داخل بيته وإحداث فراغ سياسي بالاستقالة المفاجئة، ما عرف في حينه باسم «انقلاب مراكز القوى».
    الليثي حرّك الحرس الجمهوري وأكمل انقلاب السادات وفي ظنه أنه يحمي نظام الحكم من المشاغبين المتطاولين على الرئيس الشرعي. لكنه اكتشف انه كان أداة في لعبة صراع على السلطة.
    دارت اللعبة عليه وبدأ السادات محاولات التخلص منه أولاً بإزاحته إلى أعلى حتى وصل إلى منصب المستشار العسكري للرئيس، وهو منصب شرفي اكتشف الليثي ناصف أنه يشبه الفخ الذكي لإبعاده، لكي لا يكون له شركاء يظنون أن لهم حقوقاً في الحكم.
    زوجة الليثي عاشقة لعبد الناصر، ورأت أن المؤامرة على زوجها بدأت من توريطه في الصراع على السلطة، ولم تنته بالاختفاء الغامض حين خرج من غرفة نومه إلى الحمام بلباس النوم. وفوجئت بضابط سكوتلانديارد يطرق باب بيتها ليخبرها أنه سقط من الشرفة.
    رغم أن الشرفة ضيقة لا تتسع إلا لبعض أواني نباتات الظل، ولا يمكن القفز منها. ورغم ان ابنتهما كانت تنام على سرير يمنع الوصول إلى الشرفة أساساً الا بعد إيقاظها.
    لكن الرواية الرسمية للامن البريطاني قالت إنه سقط من الشرفة بسبب دوار يحدثه المرض الذي أتى الليثى ناصف للعلاج منه في لندن. واضطرت الزوجة إلى الرضوخ للرواية الرسمية لكي تخرج بزوجها من لندن إلى القاهرة. وظلت حكايتها مختفية إلى أن فتحت ملفها بعد أكثر من 18 سنة.
    أشرف مروان
    كان أشرف مروان أحد المتهمين بتنفيذ القتل، باعتباره شريك الليثي ناصف في عملية تثبيت السادات على مقعد عبد الناصر. ورغم أن مروان خارج من عائلة عبد الناصر إلا أنه قرر لعب اللعبة بشكل مختلف عن التوقعات. أيّد السادات ورفض تسليم محتويات خزانته الا إلى الرئيس الجديد.
    كانت هناك علاقة ما تنسج بهدوء بين الرئيس و«الطفل المعجزة»، كما كان مروان يسمى من جانب صحافة قريبة من السادات نفسه. انتقاله من الولاء لعبد الناصر إلى السادات منحه «سلطة خفيه» غير محدودة في العهد الجديد؛ فوجوده يضمن عدم توحيد أسرة عبد الناصر في مواجهة السادات. كما أن مهارة مروان في غزل ونسج العلاقات وضعته في تقاطع العمليات السرية لدول عربية، أهمها ليبيا التي كانت الممول الاول للهيئة العربية للتصنيع، آخر جهة رسمية تولاها مروان قبل رحيله نهائياً إلى عالم الشركات والأعمال الواسعة المدى والثروات.
    ثروته اسطورية، رغم أنه مجرّد فرد من «العائلات المستورة»، كما يطلق على الطبقة الوسطى في مصر.
    التقديرات ترجّح أن تكون نحو 800 مليون دولار، إلى جانب شركات تغطي أنشطة وعمليات سياسية. وهي تثير السؤال حول توقيت موته: هل أعمال مروان الاستخباراتيه استمرت حتى موته الغامض؟
    الحكايات كثيرة وتدور بشكل متناقض إما عن ارتباطات بمخابرات عربية حاولت إخافة نظام مبارك من الاستمرار في كامب ديفيد أو أداء أدوار للمخابرات المصرية في ملعب لندن ملتقى خطوط المخابرات في العالم كله.
    هكذا بدأت قصة أشرف مروان وانتهت في لندن. النهاية أعلنها ضابط سكوتلانديارد عندما صعد بناية «كارلتون هاوس» الفخمة في شارع سان جيمس، حتى الدور الخامس وضغط على جرس البيت. وفوجئ بملامح الخادمة البلغارية، التي بدت هادئة رغم أن الخبر حمله اليها عن طيران صاحب البيت من الشرفة إلى حديقة المبنى، بينما كان ينتظره موعدان. الأول اجتماع فى المبنى المقابل مع مجلس ادارة إحدى شركاته في لندن. والثانى مع اهارون برغمان المؤلف الاسرائيلي، الذى فجّر أول كلمة علنية عن الدور الذي لعبه اشرف مروان بين مستويات عليا في الموساد والمخابرات المصرية.
    الخادمة تلقّت الخبر بمشاعر أقرب إلى البلاهة، وكأنها لم تصدق أن الرجل الجبار، الذي يعاني ضموراً في عضلة القلب ومن خلايا في الدم تلتهم شرايينه، يموت هذه الميتة الغريبة. لكنها تعوّدت حياة أقل ما توصف به أنها غامضة.
    غموض بدأ فى القاهرة وتشكلت ملامحه الأولى في لندن. وحسب الرواية الشهيرة، طلب اشرف مروان عام 1968 (فى روايات اخرى 1969) مقابلة مسؤول «الموساد» في لندن. وفي اللقاء قال له: «عندي لكم صفقة لن تصدقوها».
    ضابط «الموساد» يعرف من هو أشرف مروان، الضابط الشاب الذي قفز من موقعه العادي في سلاح الحرب الكيميائية إلى قصر الرئاسة من بوابة العائلة حين تزوج منى ابنة عبد الناصر. وأصبح على بعد خطوات من سامي شرف، كاتم أسرار الرئيس والرئاسة.
    الصفقة كانت: معلومات من قلب بيت الرئيس في مقابل ثروة من المال «ستحبون ان تدفعوها»، كما قال أشرف للضابط وهو يضع شروطه: «لا اريد تغيير ضابط الاتصال معي».
    كان «الموساد» يبحث وقتها عن بديل لإيلي كوهين، العميل الذي زرعه في أعلى مستويات سوريا وكاد ان يصل إلى منصب وزير الدفاع في حكومة الوحدة المصرية السورية لولا صدفة ساذجة جعلت ضابط مخابرات يتعرف إلى زميله اليهودي في مدارس القاهرة وسط قادة الجيش السوري الذين استقبلوا عبد الناصر.
    لكن هل كان اشرف مروان هو ايلي كوهين؟ ام نسخة جديدة من رفعت الجمال، الذي زرعته مخابرات عبد الناصر في اسرائيل؟
    السؤال مستمر ومقلق لأكثر من جهة في مصر، وخصوصاً أن مصادر في الأمن المصري روّجت إلى احتمال ان تكون تصفية أشرف مروان قد تمت عن طريق قرص ابيض دوار يسبب اختلال التوازن ولا يحتاج التخلص من الضحية الا إلى دفعها بجوار الشرفة.
    الأسئلة لم تنته رغم تصريحات الرئيس مبارك، ورغم تصريح اخر خطير لوكيل سابق في المخابرات المصرية قال إن «مروان لم يكن عميل مخابرات بل ضابط مخابرات».
    هذا يعنى ببساطة أن مروان خاض بهذه الصفه حروبه الأخيرة في عالم تجارة السلاح والمنافسة التجارية، كما حدث مع الملياردير المصرى محمد الفايد، الذي ساهم في حصوله على متاجر «هارودز»، ثم انقلب عليه وحاول انتزاعها منه.
    الانقلاب هل هو شخصي أم توجيه مخابراتي؟ وهل كان مروان في الخدمة أم خارجها؟ وهل المخابرات لا تزال موجودة في شرفات لندن؟

    المذكرات القاتلة

    موت أشرف مروان، من شرفة بيته، أعاد فتح ملف مصرع سعاد حسني من جديد، وخاصة أنها كانت تسكن البناية نفسها (ستيوارت تاور) التي سقط رئيس الحرس الجمهوري من إحدى شرفاتها.. كما إن هناك رواية انتشرت ساعة موتها من أنها قتلت بيد المخابرات... لماذا؟ لأنها كانت تكتب مذكراتها.
    هذه الرواية، التي نظر وقتها على أنها خيالية، باتت صالحة للتصديق الآن بعدما تردد أن السبب وراء التخلص من أشرف مروان كان المذكرات التي أسرّ بها صحافي مصري يعيش فى لندن، هو منير مطاوع، أنه «سأل مروان عنها في حوار شخصي وأخبره أن مشروع المذكرات بدأ لديه منذ عامين (المقابلة كانت قبل قليل من الموت) وأن صحافياً بريطانياً يكتبها».
    ويمكن أن تكون مذكرات مروان خطيرة. لكن ما هو المزعج في مذكرات سعاد حسني والدافع إلى قتلها بالطريقة الغامضة...؟ أصحاب الرواية يربطون بين المذكرات وشائعة انتشرت عن مؤامرة على النجمة الشهيرة من المخابرات المصرية أيام صلاح نصر بعد رفضها أداء بعض المهمات القذرة». ولكي تجبرها المخابرات، صوّرتها مع مترجم دسّته عليها. الحكاية وردت ضمن حكايات في كتاب صدر في الثمانينات عن اعترافات «اعتماد خورشيد» وهي زوجة مصوّر شهير في السينما اشتهرت بأنها كانت الوسيطة بين صلاح نصر والنجمات.
    رفض الكتاب من قبل أهل الفن والسياسة، واعتبر أنه كتاب فضائح ضمن سلسلة كتب استهدفت تشويه المخابرات في زمن جمال عبد الناصر.
    لكن رواية الكتاب تعتمد بالفعل على بعض تفاصيل واقعية، حيث كانت تجند نجمات سينما في عمليات كانت تشرف عليها شخصية هامة جداً الآن في رجال الرئيس حسني مبارك... وجاء اسم هذه الشخصية في الحكاية التي رفضت انتحار سعاد حسني، وقالت إن طيرانها من الشرفة اللندنية كان بفعل فاعل دفع له سيد في القاهرة يخاف من الفضيحة.