غزة ــ رائد لافي
قرار الحرمان من الرواتب، الذي أراد الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس حكومة الطوارئ سلام فياض، استخدامه للضغط على حركة «حماس»، تجاوز بتأثيره مناصري هذه الحركة، ليطال عائلات عاشت أشهر الحصار الخارجي، وباتت اليوم تعيش حصاراً داخلياً


عندما تزوّج الشاب محمد توفيق (24 عاماً) قبل نحو عام، عقب حصوله على وظيفة في مؤسسات السلطة الفلسطينية، اعتقد أن الوظيفة «دائمة». كان يحلم بحياة جديدة مستقرة وهانئة، لكن طموحاته اصطدمت بأزمة الرواتب في ظل الحكومة العاشرة التي ألّفتها حركة «حماس» في شهر آذار من العام الماضي.
وكانت سعادة محمد، الحاصل على الشهادة الجامعية الأولى في المحاسبة، غامرة مع أول «سلفة مالية» يتلقاها، ما دفع والده إلى السعي لإكمال سعادته بإتمام مراسم زواجه بابنة عمه. ويروي قائلاً: «لم تكن السلف المالية التي نتلقاها مناسبة وكافية لشاب في مقتبل العمر ومتزوج حديثاً، لكنها كانت تفي إلى حد ما بمستلزمات الحياة الأساسية».
ويتابع محمد، الذي يُعَدُّ واحداً من بين آلاف الموظفين في القطاعين المدني والعسكري، المحرومين الرواتب الشهرية بناء على قرار الرئيس محمود عباس، «أما الآن فلا رواتب ولا سلف مالية تساعدنا على مصاعب الحياة التي تزداد تعقيداً يوماً بعد الآخر».
وكما هي حال محمد، لم يتسلّم أكثر من 23 ألف موظف رواتبهم الشهرية، معظمهم من الذين جرى توظيفهم في عهد حكومة «حماس» وحكومة الوحدة الوطنية.
وقال محمد، المعروف بولائه لحركة «حماس»: «لقد استخدم عباس وفياض رواتبنا سلاحاً لمحاربة حركة حماس وزيادة الضغوط عليها لإجبارها على التراجع عما جرى في غزة». لكن هذا السلاح «قذر في معركة غير شريفة»، متسائلاً: «كيف لرئيس دولة أن يحارب مواطنيه في أرزاقهم ولقمة عيشهم، أياً كانت انتماءاتهم السياسية والعقائدية».
وأشار محمد إلى ابنته التي لم تتجاوز عامها الأول من العمر، وقال: «كيف لعباس أن ينام مرتاح الضمير، وأنا والآلاف من أمثالي لا نمتلك ثمن علبة الحليب لأبنائنا وأطفالنا». ورأى أن عباس يحاول من خلال ممارسة المزيد من الضغوط المالية والسياسية على حركة «حماس» أن يكسب «أوراق قوة إضافية لتحسين موقفه التفاوضي في المستقبل»، مشيراً إلى أن حركة «حماس» تدرك ذلك، وتعمل على كسب أوراق قوة أخرى.
وفيما يبدو محمد متمسّكاً بوظيفته في القوة التنفيذية، فإن آخرين من زملائه يفكرون في البحث عن وظائف ومهن مؤقتة، إلى حين انفراج الأزمة، كي يتمكنوا من الإيفاء باحتياجات أسرهم الحياتية. ويقول الشاب عدنان أبو حجر إنه اضطر إلى العمل سائق سيارة أجرة، لتوفير احتياجات أسرته من الغذاء والدواء والمأكل والملبس.
وكان عدنان (32 عاماً)، الحاصل على شهادة في الكومبيوتر والبرمجيات، يحلم بأن يعمل في مجال تخصصه الذي يحبه، لكنه اضطر في ظل البطالة المتفشية وقلّة فرص العمل، إلى الالتحاق بالقوة التنفيذية في مدينة رفح (جنوب قطاع غزة).
ويحصل عدنان في اليوم الواحد من عمله كسائق سيارة على نحو 60 شيكلاً (ما يعادل 15 دولاراً أميركياً)، مشيراً إلى أنها بالكاد تكفي للإيفاء بالأساسيات، من دون الحاجة إلى الاقتراض أكثر وأكثر لمضاعفة الديون المتراكمة. ويتابع: «لست نادماً على عملي في القوة التنفيذية»، مشيراً إلى أنها استطاعت في وقت قياسي القضاء على الكثير من المظاهر السلبية والخطيرة في قطاع غزة، وهو ما لم تفعله الأجهزة الأمنية خلال عشر سنوات منذ تأسيس السلطة.
ويعتقد عدنان أن فترة عمله على سيارة الأجرة لن تطول، حيث سيتوصل الطرفان إلى حل للأزمة، مشيراً إلى أن عباس لن يستطيع الاستمرار في رفض كل دعوات الحوار من الدول العربية، وفي مقدمتها مصر والسعودية.
لكن عدنان لم يخف تخوفه من دخول قوى وجهات أخرى على خط الأزمة الداخلية، ودعم عباس وفريقه بالمال، كي يتمكن من الصمود في وجه الدعوات العربية إلى استئناف الحوار الوطني، الأمر الذي يهدد بانفجار داخلي في ظل تردي كل مناحي الحياة.
ولا يختلف الوضع المعيشي للشاب أياد عن سابقيه، بل إن معاناته أشد وأسوأ، لكونه يعول أسرة مكونة من أربعة أفراد، إضافة إلى ثلاثة من أشقائه الصغار بعد وفاة والده ووالدته.
أياد (33 عاماً) لا ينتمي إلى حركة «حماس»، لكن قرار الحرمان من الراتب الشهري طاوله، إذ إنه واحد من مئات الموظفين الذين يعملون بنظام العقود، والذين تم توظيفهم قبيل فوز حركة «حماس» في الانتخابات التشريعية الثانية مطلع العام الماضي.
وقبل تعاقده مع القوة الأمنية الفلسطينية العام الماضي، كان أياد يعمل بائع خضر لدى أحد التجار في مقابل مبلغ زهيد لا يتجاوز 30 شيكلاً في اليوم الواحد (أي ما يعادل 8 دولارات). ويقدّر أياد حجم الديون المتراكمة عليه منذ نحو 15 شهراً لم يتلق فيها راتبه الشهري كاملاً، بنحو ثلاثة آلاف دولار، ويقول: «عشنا خلال الفترة الماضية على الكفاف، لكننا سنموت جوعاً في الفترة المقبلة بفعل قرارات عباس الجائرة».
ويستعد أياد وأمثاله من المحرومين رواتبهم، إلى تشكيل ما يشبه «مجموعات ضاغطة»، لتنظيم مسيرات وفاعليات احتجاجية يومية على قرار أبو مازن وحكومة الطوارئ، لكونهم موظفين بشكل قانوني، وليسوا طرفاً في الصراع السياسي الدائر مع حركة «حماس». وقال: «سننظم فعاليات احتجاجية، ليس فقط ضد عباس وفياض، لكن للضغط أيضاً على حركة حماس التي أصبحت الآن بحكم الأمر الواقع الحاكم الفعلي لقطاع غزة، وعليها تحمل مسؤولياتها تجاه السكان والموظفين».
وكانت عشرات النساء من زوجات وأمهات الموظفين المحرومين من الرواتب قد خرجن في مسيرة احتجاجية، مساء الخميس (أول من أمس)، رفضاً لقرارات الحرمان من الرواتب بدواع سياسية.
وقالت أم أنس، بينما كانت تحمل ابنها الوحيد (عامان) بين ذراعيها: «عباس فقد صوابه، ولم يعد قادراً على التمييز واتخاذ قرارات صائبة»، مشيرةً إلى أن حرمانه الموظفين رواتبهم يزيد من عوامل الفرقة والانقسام في الساحة الفلسطينية.
وترى أم أنس، المتزوجة من أحد عناصر حركة «حماس»، الموظف في مؤسسة حكومية، أن «على عباس تقديم الشكر لحركة حماس التي خلصته من المفسدين في غزة، بدلاً من معاقبة موظفيها ومحاربتهم في أرزاقهم ورواتبهم».
وتدخلت أم محمود، التي يعمل اثنان من ابنائها في القوة التنفيذية، وقالت: «أبو مازن لا يتصرف من رأسه، ويتحرك بنصائح من حوله من الفاسدين». وأضافت: «الأرزاق بيد الله، ويكفي أننا نعيش منذ ثلاثة أسابيع في أمن وأمان، بعد هروب الخونة والعملاء من قطاع غزة»، مشيرةً إلى أنه «لو كان عباس حريصاً على الشعب لما استقبل الهاربين في رام الله، بعد الفساد الذي نشروه في غزة».