strong>أرنست خوري
لا يصحّ الانطباع الذي يكوّنه المتابع عن بُعد لأحوال إسبانيا، لأن هذه الدولة الموغلة في التاريخ لم تستيقظ بعد من عصر القوميات الذي طبع القرن التاسع عشر في القارة العجوز، فالحركات الانفصالية لا تزال ناشطة، والمرحلة المقبلة تنبئ بتصاعد وتيرة المواجهات، مع إعلان حركة «إيتا» الباسكية في الخامس من حزيران الماضي إلغاء وقف إطلاق النار

  • تبنّت منذ نشأتها الفكر اليساري، ثم الانفصالي الاشتراكي، ثم القومي


  • لم تُفلح الديموقراطية الإسبانية الشابة في إيجاد الحلول الشافية لقوميات ثلاث من مكوّناتها التي تطالب بالاستقلال الناجز عن مدريد. والسبب بسيط، ففي حال رضوخ المملكة الدستورية الإسبانية لتلك المطالب، سيستيقظ الإسبان ذات يوم، ليلاحظوا أنهم باتوا يعيشون في ثلات دول مستقلّة: كاتالونيا والباسك وغاليسيا.
    وعلى الرغم من أنّ مشاكل إسبانيا لا تقتصر على قومياتها، وتمتدّ لتطال التاريخ الاستعماري ثمّ الفاشي مع عهد فرانكو، لتصل إلى الأزمة الاقتصادية التي تنحسر لكن ببطء، ومعضلة الهجرة غير الشرعية الى أراضيها، التي تجلب معها العديد من خلايا تنظيم «القاعدة»، بالإضافة إلى مشاكل آخر مستعمراتها في القارة الأفريقية.
    غير أنّ أزمة «وجودية» لا تزال تضرب عمق المجتمع الإسباني، وتهدّد بانقسام عمودي بين مكوّنات الشعب؛ فإقليم الباسك الذي تتقاسم إسبانيا وفرنسا السيطرة عليه، تحوّل بفضل منظّمة «إيتا» الانفصالية، إلى كابوس حقيقي، أطاح العديد من الحكومات المتعاقبة منذ استتباب الديموقراطية في البلاد عقب وفاة الجنرال فرانكو عام 1975. فـ«إيتا» ليست بمنظّمة استقلالية «عادية» أبداً.
    «أوسكادي» جزء من «أمة الأمم الإسبانية»
    يقع إقليم الباسك، أو أوسكادي (بلغة «اليوشكيرا» أقدم اللغات الحيّة في أوروبا وأصعبها بحسب علماء اللغة)، شمال إسبانيا على الحدود مع فرنسا مطلّاً على المحيط الأطلسي، ويمتدّ على أربعة أقاليم إسبانية (بيسكاي وغيبوزكوا وألافا ونافار)، و3 فرنسية (لابور ونافار المنخفضة وسول) وهي الأقاليم التي تشكل «محافظة» البيريني الأطلسية في التقسيم الإداري الفرنسي).
    وتبلغ مساحة الإقليم ما يقارب 20000 كيلومتر مربع. وعدد سكانه 3 ملايين نسمة من أصل تعداد الشعب الإسباني البالغ نحو 40 مليوناً.
    في 31 تموز 1959، انشقّ طلاب قوميون تأثّروا بالتيار الماركسي اللينيني، عن الحزب القومي الباسكي (بي أن في)، الذي تأسس عام 1885 تحت شعار «شعب أوروبي متميز يتكلم لغة أوروبية مختلفة»، وهو استقلالي يرفض النضال المسلّح ويحكم في بلاد الباسك منذ 1980.
    أسّس الطلاب منظّمة «إيتا» الانفصالية (الحروف الأولى لكلمات Euskadi Ta Askatasuna «وطن الباسك والحرية»)، متّهمين حزبهم السابق بـ«مهادنة» نظام فرانكو. ومنذ نشأتها حتى اليوم، تبنّت «إيتا» الفكر اليساري التحرّري ضد حكم فرانكو، ثم الانفصالي الاشتراكي، ثم الانفصالي القومي، وذلك على امتداد نحو نصف قرن من حرب العصابات.
    وعام 1968، قامت «إيتا» بالعملية الأولى، حيث اغتالت مدير مكتب الاستخبارات الإسبانية في مدينة سان ساباستيان في إقليم الباسك، ميليتون مانتاناس، الساعد الأيمن لفرانكو، وهو الذي عُرف بتعذيبه للآلاف من الباسكيين.
    أمّا أقوى ضربة وجّهتها المنظمة إلى الحكومة الإسبانية، فكانت عام 1973، حين اغتالت رئيس الوزراء لويس كاريرو بلانكو، بواسطة سيّارة مفخَّخة وسط مدريد. وخلال النضال ضدّ حكم فرانكو، كانت «إيتا» واحداً من التنظيمات القليلة التي تجرّأت على محاربة النظام. واغتيال بلانكو مهّد بشكل أساسي للتخلّص من الحكم الديكتاتوري.
    وبعد عام واحد من إقرار أوّل دستور ديموقراطي في إسبانيا عام 1978، نُظّم استفتاء شعبي، أُعطيَ لأقاليم عديدة (كاتالونيا وغاليسيا والباسك) حق الحكم الذاتي الواسع جدّاً، في السياسة واللغة والضرائب والمؤسسات الدستورية والشرطة.
    ومنح قانون الحكم الذاتي إقليم الباسك وضعية متساوية مع مدريد. وبموجبه، أصبح «أوسكادي» جزءاً من «أمة الأمم الإسبانية». ورغم ذلك، رأت «ايتا» أن القانون الشبيه بالاستقلال بمثابة «تطبيع وتعايش مع ملكية فرانكو، حيث لا وجود للديموقراطية»، إلا أنّ انتهازيتها دفعتها إلى عدِّ نفسها صاحبة الفضل في نيل الحكم الذاتي بسبب نشاطها المسلّح منذ عام 1968.
    ومنذ عام 2005، تُدرِج الولايات المتحدة المنظمة المذكورة في قائمة المنظمات الإرهابية، بينما سبقها الاتحاد الأوروبي إلى ذلك عام 2001.
    ومنذ بدء «إيتا» كفاحها المسلّح عام 1968، أدّت عملياتها إلى مقتل نحو 900 شخص، علماً بأنّ وتيرة عملياتها العنفية انخفضت بشكل ملحوظ بعد عام 2003. ويُعتقد أنّ أسباب ذلك تتعلّق بكل من انحسار شعبية الحركة من جهة، والتضييق الأمني والمخابراتي على حركة مناضليها في الجزءين الفرنسي والإسباني، وأخيراً بسبب انعدام الموارد المالية. وبفضل تعزيز الشرطة الإسبانية لإجراءاتها الأمنية واستمرار مقاومة المواطنين الباسكيين والإسبان لنهج «إيتا»، في السنوات الأخيرة، استنفد التنظيم موارده المالية تدريجياً. وفي الوقت نفسه، أصبحت اتصالات «إيتا» بالمنظمات الانفصالية الدولية، أصعب فأصعب، ما جعلها معزولة في القارة الأوروبية.
    الاستقلال عن «الاستعمار» الإسباني
    حالها كحال كل منظّمة انفصالية، يبقى استقلال إقليم الباسك الهدف المركزي الأول بالنسبة لـ«إيتا». كذلك تضع شرطاً معلناً لا يمكن التنازل عنه قبل التفاوض مع السلطات، وهو تحرير الأسرى المعتقلين لدى مدريد وباريس (الذين يبلغ عددهم اليوم نحو 500 فرد، غالبيتهم الساحقة في إسبانيا)، وتؤكّد تقارير المنظّمات الإنسانية والحقوقية، تورّط أجهزة الشرطة والحكومة بتعذيبهم بشكل رهيب، وخصوصاً خلال الحقبات السابقة.
    وتشترط «إيتا» في مرحلة أولى، نقل الأسرى إلى الإقليم، ليكونوا في سجون قريبة من ذويهم. ويمكن القول إنّ هذا الموضوع يبقى حتّى اليوم، العامل الأهم الذي يؤمّن لـ«ايتا» التفافاً شعبياً حولها.
    وعلى الرغم من وجود العديد من نقاط الشبه بين الحركات الانفصالية المسلّحة في العالم، وخصوصاً بين «إيتا» والجيش الجمهوري الإيرلندي، غير أنّ فوارق نوعية لا تزال تميّز بين الفصيلين من النواحي التكتيكية والاستراتيجية؛ الانفصاليون الايرلنديون زاوجوا بين العمل العسكري والسياسي في آن، بينما أبقت «يتا» على أسلوبها العسكري ذاته من تأسيسها، ما أدّى، ولا يزال، إلى خسارات سياسية كبيرة بحقها وبحق القضية الباسكية بشكل عام، من خلال التسبب بالمزيد من العزلة المحلية (حتى داخل الاقليم) والدولية.
    وعلى الرغم من أنّ إسبانيا تعاني من حركات انفصالية عديدة، فإضافة إلى الباسك هناك غاليسيا وكاتالونيا، إلا أن وضعية «إيتا» تبقى الأخطر، وفشلت الحكومات المتعاقبة منذ استتباب الديموقراطية عام 1979 في حلّ المعضلة لأسباب عديدة:
    ـــــ لعب الحركة على وتر الشعور القومي الذي يجد ما يغذّيه عند الباسكيين في التاريخ؛ فعند تأسيسها كحركة مقاومة لفاشية فرانكو، وصفت «إيتا» في أدبياتها الوضع في إقليم الباسك، بأوضاع المستعمرات العالم ثالثية. وكانت أحوال الجزائر تُعتمد دائماً للمقارنة مع أحوال الإقليم، وهنا تكمن الخطورة في فكر وعقيدة التنظيم، لأنها تعدُّ نضالها حرباً استقلالية ضدّ عدوّ محتلّ ومستعمر اسمه إسبانيا. لكنّ الحقائق الاقتصادية والاجتماعية تكذّب هذه الادعاءات، فإقليم الباسك هو أغنى إقليم إسباني على الإطلاق من النواحي الاقتصادية والمعيشية، حتّى أنه تتحقّق فيه إحدى أدنى نسب البطالة، ليس في إسبانيا فحسب، بل أيضاً في سائر الدول الأوروبية.
    ـــــ ركونها إلى ايديولوجيا صلبة تاريخية وقومية، قائمة على استحضار تاريخ المنطقة وشعبها، المختلفين جذرياً عن تاريخ إسبانيا وشعبها ولغتها؛ فيعتقد الانفصاليون الباسكيون بأنّ أجدادهم حكموا أنفسهم بشكل مستقل طوال قرون حتى عام 1200، بالتالي يصوّرون نضالهم بأنه حرب لاستعادة «المجد الضائع» لدولتهم أوسكادي، في شقّيها الإسباني والفرنسي.
    ـــــ اقتناع قطاع واسع من الشعب الباسكي بشرعية جهاده ضد الدولة الإسبانية.
    ـــــ اعتمادها أسلوباً شبيهاً بنشاط العديد من المنظّمات المسلّحة، وهو نمط استفزاز السلطات من خلال عمليات عنفية تدفع هذه الأخيرة إلى ردّة فعل قوية تبرّر بدورها للمنظّمة رفع مستوى عملياتها العسكرية «كون السلطة نزعت من خلال ردة فعلها، القناع الديموقراطي الذي ترتديه حكومات فيشي». وبحسب معظم من درس حالة «إيتا»، فإنّ الحركة نجحت جزئياً في دفع السلطات الإسبانية إلى «تجريم» الكتلة الاجتماعية التي تمثّلها المنظّمة أمام المجتمع الإسباني والدولي، ما سمح لها بامتلاك عذر «شرعي» للتفلّت من كل القيود التي كانت تمنعها من القيام بعمليات تصفية واسعة النطاق لـ«رموز الفاشية الإسبانية» كما تسمّيها أدبياتها.
    ـــــ نجاحها في الاستفادة من قانون الحكم الذاتي إلى أقصى الحدود، فأنشأت مجتمعاً كاملاً خاصاً فيها، له لغته (اليوشكيرا)، وحزبه السياسي (هيري باتاسونا)، ونوّابه في البرلمان المحلّي، ونواديه الرياضية والاجتماعية، ونقاباته، ووسائل إعلامه المكتوبة والمسموعة والمرئية، ونظام ضرائب خاص به. وهو ما جعل السلطات، التي يتمتّع بها إقليم الباسك الإسباني (إلى جانب إقليم كاتالونيا وغاليسيا)، تفوق تلك التي تتمتّع بها الولايات الألمانية على سبيل المثال، على الرغم من أنّ ألمانيا دولة فيدرالية، بينما إسبانيا دولة موحّدة.
    ـــــ الأخطاء «القاتلة» للحكومات الإسبانية، وهي من الأسباب التي تقف وراء فشل الحكومات المتعاقبة في إنهاء الحالة الانفصالية في الباسك؛ ففي تعاطيها مع الحالة المستعصية، اعتمدت سياسات الحكومات نهجاً يرى أن «إيتا» منظمة غير شرعية، وخارجة عن النسيج الاجتماعي والسياسي الإسبانيين، وتوسّلت جميع الوسائل لتحظرها. في المقابل، كان التعاطي مختلفاً جذرياً في حالات أوروبية انفصالية أخرى؛ فلندن لم تحظّر أبداً الـ«شين فاين» (الجناح السياسي للجيش الجمهوري الايرلندي)، كما أنّ المحكمة الألمانية لم تحظّر الحزب النازي الجديد. والتجربة البريطانية أثبتت نجاحاً كبيراً مقارنةً مع الحالة الإسبانية.
    وحزب «هيري باتاسونا»، الجناح السياسي لـ«إيتا»، الذي تأسّس عام 1978، اضطرّ إلى تغيير اسمه ثلاث مرّات، تهرّباً من الملاحقة الحكومية، وهو لا يتمثّل حالياً إلا بـ7 نواب في برلمان الحكم الذاتي الباسكي، أي يمثّل 10 في المئة من ناخبي الأقاليم الـ 4 الإسبانية. وبات حزباً محظوراً بقرار من المحكمة العليا الإسبانية عام 2003، إلى جانب الصحيفة الوحيدة الناطقة باللغة الباسكية «إغونكاريا» (Egunkaria)، والتابعة لـ«إيتا».
    وعلى الرغم من إدراك قادة «إيتا» لحقيقة عدم تجسيدهم إرادة الغالبية من مواطني الباسك، فإنهم يبرّرون سياساتهم وتصفياتهم الجسدية بكونهم «الطليعة الثورية الموكَل إليها توعية الشعب». وتجدر الاشارة إلى أنّ «إيتا» وجناحها السياسي باتاسونا، خسرا جزءاً كبيراً من مناصريهما بعد إلغاء جولات وقف إطلاق النار العديدة.
    ـــــ موجة السياسات الأوروبية بعد أحداث 11 أيلول، المستوحاة من تعميم «إيديولوجيا» الحرب على الإرهاب، التي انزلقت فيها الدول الأوروبية لتصفية حساباتها مع كل الحالات الاعتراضية المستعصية تاريخياً على أراضيها، وللتضييق على الحريات. وكانت الحكومة الإسبانية المستفيد الأكبر في هذا المجال لتساوي بين «القاعدة» و«إيتا». ولم تطل القرارات السلطوية لحكومة خوسيه ماريا أثنار السابقة، «إيتا» فحسب، بل تجرّأ وزير الداخلية في آذار 2003 أنجيل أسيبيس، على منع التظاهرات ضد الحرب على العراق.
    لتلك الأسباب جميعها، أصبح واضحاً أنّ السلطات الإسبانبة عاجزة عن القضاء على «إيتا» عسكرياً، بما أنها ليست خليّة صغيرةً معزولة، بل هي جزء أساسي من المجتمع الباسكي الذي يمتدّ على مساحة مضاعفة لمساحة دولة كلبنان، ويقطنه ملايين السكان. بالتالي أوضحت الأيام أن لا قيمة للخطابات التي أطلقها رئيس الحكومة الإسبانية السابق أثنار عندما كان يردّد أنه «سيجتثّ الإرهاب في غضون سنوات»، لأنّه، في الدول الديموقراطية، عندما تدّعي مجموعة من المواطنين أنها تشعر بالغبن والإحباط من السلطة الحاكمة وترفض الاعتراف بالشرعية، تعجز حينها السلطات عن إنهاء الحالة عسكرياً، ولا بدّ حينها من الجلوس إلى طاولة المفاوضات.

    معجم «إيتا»
    يمكن فهم الخلفية الفكرية التي تعمل على أساسها «إيتا» من خلال متابعة المصطلحات الخاصة التي تكتب فيها أدبياتها؛ فعلى سبيل المثال، في كانون الثاني عام 2003، راسلت الحركة قائد الثوار الزاباتيين في المكسيك، ماركوس، طالبةً منه التوسّط في المحادثات مع الحكومة الإسبانية. في تلك الرسالة، شبّهت «إيتا» مقاومتها لتلك التي يمارسها «الشعب الأصلي ضدّ المستعمر الأوروبي». وقد يظنّ قارئ الرسالة، التي نُشرت في ما بعد، أنّ فرانكو لا يزال حيّاً حتى اليوم ولم يمت منذ عام 1975.
    أما «إرهاب القلم»، فهو التسمية المعتمدة عند أعضاء «إيتا» لكلّ الصحافيين، حتى الباسكيين الاستقلاليين منهم، الذين لا يؤيّدون أسلوب الكفاح المسلّح لبلوغ الاستقلال.
    و«حكومات فيشي» (الحكومة الفرنسية المتعاملة مع النازية أثناء الحرب العالمية الثانية)، هي تسمية «إيتا» لكلّ الحكومات التي تعاقبت على الحكم في مدريد