بغداد ــ الأخبار
لعلّ الشيء الأكثر إرهاقاً للعراقيين، بعد الموت المتربّص في كل زاوية وفي كل ثانية، هو موضوع الكهرباء، الذي بات يمثّل معاناة تقارب الموت البطيء، ولا سيما مع حرارة الصيف العراقي اللاهبة، وانعدام أيّ فسحة للترويح عن النفس في أماكن كانت تسمّى متنزهات وحدائق وإطلالات على مياه النهر، بما تبعثه من رذاذ رقيق ونسائم مترفة

مع اختناق الناس بين المكعّبات الإسمنية التي تغلق الشوارع والأزقّة، وجدران البيوت المعتمة، أصبحت الكهرباء من الأحلام التي كانت حقيقة، كالعراقيين أنفسهم. لا أحد يستطيع الإجابة عن السؤال الكبير المحيّر: أين ذهبت الكهرباء؟ وكيف تبخّرتقد تكون الإجابة عن هذا السؤال صعبة، ومن غير اليسير العثور على الرد الشافي له. لكنّ أحد المدرّسين المتقاعدين، يعلّق ساخراً «ربما تريد الرأسمالية التي يبشّر بها الاحتلال تذكيرنا بمساوئ الاشتراكية، عندما أوضحت ثورة أكتوبر 1917 في بداياتها أن الأولوية للخبز والكهرباء. فانطلقت آنذاك أوسع حملة لكهربة عموم الاتحاد السوفياتي. وها هم الآن في العراق الجديد يريدون إثبات «هذا الخطأ اللينيني القاتل»، بحرمان الناس الكهرباء والخبز، كخطوة في الطريق نحو عراق رأسمالي».
الكفاءات البديلة
هناك من يقول إن الأعمال التخريبية هي التي «ضربت الكهرباء»، لكنّ سائق سيارة الأجرة كامل الطائي يرى غير ذلك؛ فالمسؤولون أنفسهم يعترفون بأجزاء من الحقيقة، عندما يتبادلون التهم بينهم، فتقول وزارة الكهرباء إن وزارة النفط لم تزوّدها بالوقود لتشغيل المحطات الكهربائية، وتردّ وزارة النفط بأن وزارة الكهرباء لم تزوّدها بالطاقة لتشغيل المصافي. وتقول الوزارتان إن المحافظات تستحوذ على القسم الأكبر من الطاقة، بينما تقول المحافظات إن بغداد متخمة بالكهرباء على حساب المحافظات، حيث يصل نصيب العاصمة أحياناً إلى أربع ساعات يومياً، وهو أكثر من ضعف ما تحصل عليه أي محافظة.
ويقول الطائي «هناك مواقع إلكترونية معروفة، تنشر بلاغات وبيانات الجماعات المسلحة. ولم تذكر أي منها في يوم من الأيام، أنها استهدفت الكهرباء أو أعلنت مسؤوليتها عن ذلك، بينما أكدت الحكومة مسؤوليتها من خلال التصريحات الكثيرة التي تحدثت عن استشراء الفساد الإداري والمالي والسرقات والإهمال، والاستعاضة عن الكفاءات الفنية بالكفاءات الطائفية، وما إلى ذلك من عيوب».
ومن صور الكهرباء المأساوية، قول السيدة رفل عبد الخالق، التي كان طفلها يصرخ ويتلوّى بين يديها من شدة الحر، «أقبّل قدم الشتاء ليأتي». وتتساءل بحُرقة «هل نستحق كعراقيين كل هذا العذاب؟ ونحن البلد الغني الوفير الماء، وكل الخيرات. وها نحن محرومون الكهرباء التي عرفناها قبل كل دول المنطقة. والماء الذي لا تطلقه الحكومة لنا إلّا سُوَيعات قليلة في الأسبوع».
والكهرباء عنصر أساسي أيضاً في عملية البيع والشراء، التي تعاني أساساً التفجيرات والأوضاع الأمنية. ويقول عبد الهادي سمير، صاحب محل في السيدية، «كنا نشتري ونبيع أنواع البضائع والأغدية واللحوم المجمّدة. وكانت مخازننا عامرة، أما الآن، فينبغي لنا شراء المواد السريعة الاستهلاك وبيعها فقط. ويوماً بيوم، بسبب انقطاع الكهرباء، حتى هذه الموادّ لا نستطيع في أحيان كثيرة جلبها بسبب تصلّب الشرايين في الطرق، وصعوبة الانتقال من منطقة إلى أخرى، فضلاً عن المخاطر التي نتعرض لها جراء عمليات الابتزاز والخطف والقتل والمفخّخات والاشتباكات المفاجئة».
دوائر لا عمل لها
حسب المهندس الكهربائي جمعة توفيق السعدي فإنه «إضافةً الى معاناة المواطنين، فإن الكهرباء هي عصب الحركة في المجتمع. كما أن انقطاعها يصيب الدوائر الحكومية بالشلل، التي لا عمل لها الان». ويضيف «سئم الناس أكاذيب المسؤولين، الذين يعرفون أن الناس لا تخفى عنهم الحقائق، ولا سيما عندما يصرح بعضهم أن إنتاج الطاقة الكهربائية وصل الى المعدلات نفسها التي كانت قبل الحرب. فإذا كان أولئك القادمون من الخارج يصدّقون أكاذيبهم، فلا أحد غيرهم يصدق ذلك. لأن الكهرباء كانت متوافرة في السنوات الأخيرة قبل الحرب بمعدل 20 إلى 22 ساعة في اليوم للمواطنين».
ويوافقه الرأي سوادي عبد المحسن، أحد العاملين السابقين في قطاع الكهرباء، ويقول «عيب، عندما يضطروننا إلى المقارنة بين النظام السابق والوضع الحالي الذي يدّعون أنه عهد الحرية والازدهار».
ويضيف سوادي «عندما نوجّه أي نقد للأوضاع يكون الرد جاهزاً: أنت صدّامي تكفيري إرهابي. ولهذا السبب فقدت عملي بجرّة قلم عندما قلت إن المنظومة الكهربائية لم تتأثر في الحرب الأخيرة، بينما تم تدميرها في حرب 1991».
قوانين الاحتلال
ويتحدث العسكري المتقاعد صباح طه عن هموم الكهرباء قائلاً: «نحن في العراق الغني المتطور، لا في بلد متخلّف. وها قد أصبحنا أكثر تخلّفاً من أي بلد بسبب الاحتلال والنزاعات الطائفية التي جلبها معه، وبسبب برامجه المسبّقة لتدميرنا اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وفي مختلف المجالات. إنهم يتحدثون عن الديموقراطية وعن العراق الجديد بصفاقة. فأي ديموقراطية بائسة هذه المبنيّة على الجثث، وأي عراق جديد، وهم أعادونا إلى القرون الوسطى، وربما إلى العصر الحجري». ويرى أن «الكهرباء اغتيلت لسبب معلوم، هو تدمير البنى التحتية، ومن ثم إعادة صياغة البنى الارتكازية وفق ما تشتهيه الشركات المعنية بغزو العراق».
ويقول الصحافي الاقتصادي غيث الجابر «هل فكر المسؤولون كيف يعيش الناس من دون كهرباء. وكيف تعمل دوائر ومؤسسات الدولة، وكيف يمكن أن ينهض أي مشروع صناعي أو زراعي؟. إن كارثة العراقيين مع الكهرباء أكبر من حجم التصوّر، وخصوصاً مع أزمة الوقود الخانقة وتدهور الوضع الأمني، ما يجعل من المستحيل إيجاد متنفّس خارج الجدران، التي لا تحمي هي الأخرى من المخاطر». ويتابع الجابر «كانت الكهرباء شبه مجانية في العراق، وهذا يتنافى مع شروط البنك الدولي الذي يتحكم في اقتصاد العراق حالياً. وبعد الإحصائية المذكورة، سيكون المواطن العراقي راضياً، لو وفرت له الحكومة او الشركات الخاصة الكهرباء المنتظمة بربع أو أقل من ربع التكلفة الحالية. أليس هذا السبب كافياً لقطع الكهرباء عن العراقيين؟».