حيفا ــ فراس خطيب
جاء الروس اليهود إلى الدولة العبرية بحثاً عما قيل
لهم إنها «أرض الميعاد»، غير أنهم اكتشفوا أنهم «وصلوا إلى دولةٍ صغيرة، تفتقر إلى الأهمية، فيها مساجد وجمال وطقسها حار، ومسرحها بائس. بحثوا عن أرض الميعاد، ووجدوا المقاهي في شارع شينكين في تل أبيب»

  • ميولهم «يمينية» ويجتاحهم شعور بـ«الندم»... وبالتفوّق على «الإسرائيليين»


  • الليل يخيم على أرجاء حيفا ليشدّ الساهرين نحوه. المقاهي والحانات الحيفاوية على أهبة الاستعداد لاستقبال القادمين. ليلة اعتيادية، ستنتهي في ساعة متأخرة. وبين هذه الأماكن، لا بدَّ من وجود محال ومتاجر روسية؛ فيها الطعام روسي، والموسيقى روسية والأجواء أيضاً. الدخول إلى مثل هذه الأماكن الواقعة في البلدة السفلى مثلاً، يعني أنْ تعيش هوية المكان.
    أنت في مكان «روسي». في الخارج شارع يسمونه «للعرب فقط»، فيه مقاهٍ عربية وواحد يهودي، وتاريخ الحي فلسطيني يعود أصله للألمان. فكرة تأتيك للحظة، تحاول عدم الخوض في غمارها، كي تصمد؛ ففي كثير من الحالات، الصمود لا يأتي من القوة، بل من النسيان. هناك، في الأماكن المعدّة للروس، تحاول جاهداً أن تكون روسياً لتحدثهم، لتخترق هذا الجسم الكبير، لكنك لا تستطيع، لا يمكن أن تشاركهم الموسيقى، ولا أن تأكل أنواع الأسماك المالحة المتعفنة «فناً» كما يقولون. ولا الحديث بصوتٍ عالٍ.
    على طرف الحانة السوداء، التي تكسرها الأضواء الزهرية المعجقة، يجلس ثلاثة شبان روس ضخام البنية. يتحدثون عن كل شيء بروسية ثقيلة. «عندما نشرب»، يقول بوريس، «نحب دائماً أن نتعرف». ويسترسل في الحديث، عن إسرائيل التي شاهدها في مخيلته ولم يجدها هنا. ويتابع، في موضوع يجهله ربما، «أنتم العرب (فلسطينيي 48) عليكم أن تقرروا ماذا تريدون»، يقولها بعبرية غير متقنة.
    حين تسأله عن آرائه اليمينية المتطرفة، يقول إن «الشيوعية في روسيا هي السبب»، موضحاً «لقد علمونا، من خلال صحفهم المسمومة في الاتحاد السوفياتي أنَّ العرب جيدون واسرائيل هي الشريرة. ورد فعلنا الطبيعي اليوم، اذا كنا ضد الشيوعية، أن نقول إن العرب هم سيئون وإسرائيل هي الضحية. هذا هو الوضع اليوم. من الصعب تغييره».
    دايفيد، مهاجر نادم من جورجيا، حين يحدثك عنها، تلمس اشتياقاً من حديثه. «هناك نفط وذهب وطعام ولحوم. كنا نطعم الروس. جئنا هرباً من الحروب في تلك المنطقة وبقينا هنا». يرتشف دايفيد الجعة، وينظر إلى النساء من حوله، ويعود الى سيرته المفتوحة «نحن والعرب دين واحد. الفتاة عندنا لا أحد يلمسها قبل الزواج»، يقول خالطاً الحابل بالنابل.
    في هذا المكان الروسي لا يحضرك شيء سوى العودة إلى دروس «الأدب العالمي»، حين تدرس جاهداً للامتحان، وتخوض أجواء الحانات الروسية: «السيدة والكلب» و«المعطف» وقصص عن ديمتري غوروف. كل هذا الأدب، يعود إليك على شاكلة حانة روسية مزروعة بين المقاهي العربية، أو اليهودية في حيفا العربية، في أقدم الأحياء الفلسطينية.
    «تعرف، بماذا أشعر عندما أسمع أن فلسطينياً فجّر حافلة. أشعر بأن مكانكم ليس هنا»، يقول أحد المترنحين. وحين تسأله بماذا يشعر حين يسمع عن اسرائيلي ألقى قنبلة على أطفال غزة؟ لا يقول شيئاً.
    إلى اليمين
    الصفة اليمينية تميّز غالبية الروس. لكنَّ الأمر ليس أبيض أو أسود. هناك، من الروس، من يعي جيداً الحال السياسية في المنطقة. وتشير إحدى الناشطات في إحدى حركات السلام الاسرائيلية، إلى أنَّها كانت تطلق على نفسها اسم «قادمة جديدة»، لكنّها تعي اليوم أنَّها «مجرد مهاجرة إلى بلاد ليست لها». وهي أيضاً لا تؤمن بـ «التعايش العربي ـــــ اليهودي». بالنسبة لها «على العرب أن يعيشوا أولاً قبل أن يعايشوا أحداً. يحق لهم العيش».
    ديما والعجوز
    في أحد الحوانيت الواقعة في منطقة «الهدار» الحيفاوية، يعمل رجل روسي، اسمه ديمتري، ويلقبونه ديما، تجاوز الخمسين من عمره، هاجر إلى إسرائيل في بداية التسعينيات. يتحدّث العبرية بصعوبة. عبرية تسيطر عليها اللهجة الروسية، وبين الجملة والأخرى، هناك خطأ، مثير للضحك أحياناً والفضول أيضاً.
    يأتي في ساعات الصباح الباكر، قبل افتتاح الحانوت. يجلس إلى جانب صناديق الحليب والخبز، ممسكاً بيده كتاباً، يقرأ لساعتين على الأقل. هدوء مفعم بالثقافة. حتى قدوم صاحب المكان بسيارته الضخمة، وجسده الضخم أيضاً. هو أيضاً مهاجر جديد، من جورجيا، قبل عشرات السنين. لا يمكن احتسابه مهاجراً ولا اسرائيلياً. فيه خليط، من النوعين، لا يقرأ من الصحيفة سوى صفحة الرياضة، يتحدث العبرية بطلاقة، آراؤه يمينية، يحب العرب «الصالحين». الاثنان جاءا إلى «أرض الميعاد»، أحدهما عايش الحياة، وصار «ملاكاً» وصاخباً مثل الاسرائيليين، والثاني لا يزال «روسي الطابع»، يقرأ كثيراً بالروسية، لا يكثر من الحديث، يتجنب النقاش عن السياسة، لكن حين تلح في السؤال، كيف يرى حياته، تكون الإجابة: «كل شيء افضل من الشيوعية»، التي عايشها في روسيا.
    الاثنان، لا يمكن اعتبارهما جزءاً من المجتمع الاسرائيلي، لكنهما بالطبع ما يميز المجتمع الاسرائيلي، المتوحد، حالياً، على رأي سياسي واحد أيضاً، إنه مهدد، وعلى العرب «أن يقرروا».
    وتروي الروسية ايلانو غومل، في كتابها «انتم ونحن»، قصة الروس، من وجهة نظر مجردة. تقول إن «الروس، جاؤوا إلى دولة اليهود، واكتشفوا، لخالص البؤس، أنهم وصلوا إلى دولةٍ صغيرة، تفتقر للأهمية، فيها مساجد وجمال وطقسها حار، ومسرحها بائس. بحثوا عن ارض الميعاد، ووجدوا المقاهي في شارع شينكين (في تل أبيب)».
    وتضيف غومل «أكثر من سدس سكان إسرائيل يتحدثون الروسية. الروس موجودون في كل زاوية. وبدل أن ينادوا البائعة باسم «تسيبي» أو «دفورا» (أسماء اسرائيلية) تحمل البائعات في المتجر الكبير أسماء مثل «سفيتلانا» أو «لوبا». الصحف الروسية تملأ البسطات في المقاصف، و«معاريف» و«يديعوت أحرونوت»، الصحيفتان الكبيرتان في اسرائيل، تنظران بخجل من تحت الفوضى. في بداية سنوات الثمانين من القرن الماضي، تحدثت إلي والدتي بالروسية أثناء مرورنا بالشارع حتى لا يفهمنا المارة. اليوم، أتحدث العبرية أحياناً، للسبب نفسه».
    في كل مكان
    ينتشر الروس في كل أرجاء المدينة. بدأ حضورهم يتجلّى، قبل السياسة، في الشوارع والمقاهي والمتاجر. لغتهم ثقيلة، سحنتهم بيضاء فاتحة. مستقلون في كل شيء. وأحياناً يلمح المار في مراكز المدن الكبرى، لافتات بالروسية فقط، الروس هم الجمهور الهدف. يتجندون لحساب الجيش الاسرائيلي، لكنَّ الجيش لم يجعل منهم «وطنيين اسرائيليين». رفعوا منسوب كل شيء في اسرائيل: الثقافة ازدادت، والتكنولوجيا ازدهرت، والطب تقدم، وإلى جانب هذا، الإجرام ازداد، وبيوت الدعارة انتشرت، وعدم الأمان ايضاً. ودخلت تعابير المافيا الى المجتمع الاسرائيلي. هم يؤمنون بأنهم يحملون ثقافة تجمعهم، الطعام والكتب والصحافة، لكنَّهم متوحدون بلغتهم. هم اسرائيليون. لكنهم مستقلون في أبسط الاشياء. لهم مقاهيهم وموسيقاهم ومتاجرهم الخاصة. لا مشكلة في تمييزهم عن غيرهم. لغتهم الروسية، مهما كانوا ملمين بالعبرية، تطغى على أبسط الكلمات.
    إلا انَّ هذا الحضور لم يجعلهم حتى الآن جزءاً من المجتمع الاسرائيلي، بل هم شق من الشقوق في اسرائيل. غالبيتهم يقرأون كثيراً ويتحدثون قليلاً. وصل عددهم إلى اكثر من مليون روسي في اسرائيل، لكنَّهم لم ينخرطوا في المجتمع، ولم يناضلوا من أجل الانخراط. بنوا مجتمعاً خاصاً بهم، يرونه أرقى من المجتمع الاسرائيلي العادي. الأبحاث الصادرة عنهم، تشير إلى استعلاء على الثقافة الإسرائيلية.
    هاجر مع بداية التسعينيات أكثر من مليون روسي إلى إسرائيل مع انهيار الاتحاد السوفياتي.
    وصلوا إلى هنا، بعدما سعت الوكالة اليهودية إلى تشجيعهم على الهجرة. وروى شاب فلسطيني، درس في الاتحاد السوفياتي، أنَّ اسرائيل كانت تعرض دعايات تجارية، مغرية ووردية، هي أقرب إلى الخيال من الواقع. كان الاسرائيليون يشددون على ما ينقص الروس في روسيا. على المطاعم، وخصوصاً مطاعم الشاورما، والشمس المشرقة والشواطئ الجميلة. هذه الدعايات التجارية، اضافة إلى مخططات ثانية، استطاعت أنْ تجلب الكثيرين إلى اسرائيل. لكن الدولة العبرية، لم تتوقع أنَّ نسبة كبيرة منهم ستكون من المسيحيين.
    نهاية الكتاب
    في نهاية يوم العمل الشاق، يجلس عامل الحانوت ديمتري، يتصبب العرق على سحنته البيضاء، حاملاً الكتاب مرة أخرى. يضع نظارة القراءة، يفتح على العلامة التي وضعها في الكتاب. بالكاد يرى الحروف من الشمس المشرقة. ينتظر قليلاً، ربما كثيراً، حتى ينهي مشغله الضخم الحسابات اليومية. يفتح ديمتري زجاجة ماء، ويرتشف القليل منها، إلى حين وصول جاره.
    جاره عجوز آخر، أسمر اللون، شارباه أسودان يكسرهما صفار من دخان الغليون الذي لا يتوقف. يرتدي بذلة سوداء قديمة جداً، كان لها مجد من الماضي. يتكئ على عكازة، يمشي ببطء باتجاه ديمتري. يتحدث العبرية بلهجة مغربية. يشدد على «الحاء» و«العين». يجلس الى جانب ديمتري، ساعة او اثنتين، بالكاد يتبادلان جملة واحدة. لا يربطهما شيء، لا ثقافة ولا حضارة، لا طعام ولا دخان ولا شراب. كل ما يربطهما، أنهما تقدما بالسن، ربما كثيراً. يعيشان في اسرائيل، واحد يحلم بالمغرب، والثاني بروسيا. ولعل اكثر ما يربطهما أنهما لا يفصحان عن هذا، إلى حين يفضحهما المشهد. والمشهد فاضح بوضوحه؛ ينتظران شيئاً ليس مفهوماً.

    مهاجرون في البرلمان!

    استطاع المهاجرون الروس أن يبنوا قوة سياسية في البرلمان الاسرائيلي منذ عام 1996. بدأت هذه القوة بحزب «يسرائيل بعلياة» بقيادة نتان شيرانسكي، الذي حصل في عام 1996 على سبعة مقاعد في الانتخابات. لكن حزبه تراجع إلى حد الاختفاء لمصلحة حزب «يسرائيل بيتنا» برئاسة اليميني المتطرف أفيغدور ليبرمان الذي حصل في الانتخابات الاخيرة على 11 مقعداً. في عام 1999، حصل حزب «يسرائيل بعلياة» على ستة مقاعد، وحصل حزب «يسرائيل بيتنا» الروسي على 4 مقاعد. وصار شيرانسكي وزيراً للداخلية في حكومة إيهود باراك. بدأ حزبه يتفكك في اعقاب انسحاب نائبين وتشكيلهما الحزب اليساري «الخيار الديموقراطي». كان هذا الانشقاق علامة على بداية نهاية «يسرائيل بعلياة». انسحب الحزب من حكومة باراك في اعقاب قمة «كامب ديفيد» الثانية مع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. وفي عام 2003، انضم شيرانسكي إلى الليكود برئاسة أرييل شارون، وانتهى حزبه.

    30 % من المهاجرين الروس مسيحيون أو مسلمون
    يشير كتاب البروفيسور ماجد الحاج من جامعة حيفا، «الهجرة والتكوين الإثني لدى اليهود الروس في إسرائيل»، إلى أنّ المجموعة الروسية في إسرائيل باتت تؤلف أكبر جالية روسية في العالم، نظراً لمحافظتها على ثقافتها ولغتها الأم، مُنهية بذلك عهد القطبيْن الاجتماعييْن داخل إسرائيل: اليهود الغربيين «الإشكناز» واليهود الشرقيين «السفراديم»، بعدما أضافت قطبا ثالثاً يُعدّ الأكثر تماسكاً وتبلوراً.
    إلا أنّ 50 في المئة من المهاجرين الروس، الذين قدموا إلى الدولة العبرية منذ عام 2000، هم من غير اليهود. ويُظهر البحث أنّ ما يزيد على 30 في المئة من المهاجرين الروس هم من المسيحيين والمسلمين، مما يكشف حقيقة ضعف الهجرة من روسيا إلى إسرائيل إلى حدّ التوقف. فتراجعت السلطات الإسرائيلية في الآونة الأخيرة عن عمليات استقدام المهاجرين، بعدما صارت تخشى على الهوية اليهودية لإسرائيل، جراء قدوم «غير اليهود».