موسكو ــ حبيب فوعاني
حسم سيد الكرملين خياره وقرر، على ما يبدو، المواجهة المفتوحة مع واشنطن، من دون إغلاق باب الحوار. مواجهة أولى بوادرها إعلان موسكو تعليقها العمل بـ«معاهدة القوات التقليدية» في أوروبا

أعلن مكتب الكرملين الإعلامي أمس أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقّع أوّل من أمس، مرسوماً «حول تعليق الاتحاد الروسي نفاذ مفعول معاهدة القوّات التقليدية في أوروبا والمعاهدات الدولية المرتبطة بها».
وعزا المرسوم الإقدام على هذه الخطوة إلى «حيثيّات استثنائية» تهدّد أمن روسيا وتتطلّب اتخاذ إجراءات عاجلة. ويرى الكرملين في عداد هذه الحيثيات تهرّب أعضاء «حلف شمال الأطلسي» الجدد (بولونيا وهنغاريا وتشيكيا) من تنفيذ متطلّبات المعاهدة، التي وقّعت في باريس بين «حلف وارسو» والـ «الأطلسي» عام 1990، وعدم المصادقة على اتفاق تعديلها، الموقّع في اسطنبول عام 1999.
وينصّ التعديل، إلى جانب النواحي التقنيّة المتعلّقة بالعديد والعتاد، على التزام الدول الأعضاء سياسياً عدم نشر قوّات عسكرية أساسية (جوهرية) على أساس دائم على أراضي الأعضاء الجدد في «الأطلسي». ولم تصادق على اتفاق التعديل سوى روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا وكازاخستان، بيد أنّ دخوله حيّز التطبيق يستوجب توقيع الأطراف جميعهم.
وأشار البيان الملحق بمرسوم الرئيس الروسي إلى أنّ «تأثير خطة نشر قوات مسلّحة تقليدية للولايات المتحدة على أراضي بلغاريا ورومانيا سلبي على الوفاء بالالتزامات المنبثقة عن المعاهدة».
ويأتي المرسوم في سياق إعراب موسكو غير مرة عن عدم رضاها عن المعاهدة، التي لا تلحظ الظروف الجديدة الناشئة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ولا تأخذ في الحسبان ازدياد عدد قوّات دول الـ«الأطلسي» المطّرد في أوروبا ووجود قوات «الأطلسي» في كوسوفو، إلى جانب المستجدّ من النيات الأميركيّة نشر منظومة درع صاروخية في أوروبا الشرقية، وتحديداً في تشيكيا وبولندا.
وكان بوتين قد أعلن للمرّة الأولى رسمياً في 26 نيسان الماضي في خطابه أمام الجمعية الفدرالية (مجلسي الدوما والاتحاد) نية موسكو «إعلان تعليق تنفيذ روسيا لهذه المعاهدة على أقلّ تقدير إلى حين مصادقة جميع دول الأطلسي عليها من دون استثناء».
وبعد انتهاء الاجتماع الطارئ لأعضاء «المعاهدة»، الذي عُقد في فيينا بين 11 و15 حزيران الماضي، من دون نتيجة، وبعدما امتنعت الدول الغربية عن أخذ مخاوف موسكو بالاعتبار، رفضت روسيا السماح لوفدين عسكريين من هنغاريا وبلغاريا بزيارة القطعات العسكرية الروسية.
وسرّبت مصادر من وزارة الدفاع الروسية إلى صحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» الروسية بعد أسبوع من القمّة، معلومات عن الانتهاء من إعداد المرسوم المذكور في الكرملين، وأنّ البحث جرى آنذاك في توقيت إعلانه ليتمّ عشية لقاء بوتين مع نظيره الأميركي جورج بوش في 1 - 2 تمّوز الجاري، أو يؤخّر ذلك إلى ما بعد اللقاء في حالة عدم التوصّل إلى اتفاق مع الجانب الأميركي بخصوص المعاهدة والدرع الصاروخية.
ويثير سخط روسيا بشكل خاص عدم مصادقة أيّ من دول «الأطلسي» على اتّفاقيّة تعديل «المعاهدة». ومع أن موسكو عبّرت عن ذلك دبلوماسياً إلّا أن استياءها بدا جليّاً في مؤتمر فيينا المذكور، حيث تقدّم الروس بعدد من المطالب، وأهمّها المصادقة على الاتفاق في موعد أقصاه 1 تموز الجاري، والبدء بخفض بعض المقدرات العسكرية لـ«الأطلسي» في أوروبا كتعويض عن المقدرات العسكرية الإضافية، التي نالها الحلف بانضمام دول البلطيق الثلاث، لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، إلى معاهدة القوّات التقليدية. واقترحت موسكو إجراء مفاوضات في شأن تحديث المعاهدة المعدّلة وتحديد مصطلح «القوّات العسكرية الأساسية» قانونيّاً؛ فقد سمحت «ضبابية» هذا المصطلح للولايات المتحدة مثلاً بنشر 5 آلاف عسكري على أراضي رومانيا و5 آلاف آخرين على الأراضي البلغاريّة، وقيام «الأطلسي» بنشر 19 ألف عسكري من قوات «كفور» في كوسوفو، باعتبار أن مصطلح «القوات العسكرية الأساسية» لا ينطبق عليها.
وعلى الرغم من عروض موسكو للتعاون في مسألة منظومة الدفاع الصاروخية، تصرّ واشنطن على نشر عناصر هذه المنظومة في بولندا وتشيكيا، ما يخفض من فعّاليّة المقدرة العسكرية الروسية.
ولا يأخذ «الأطلسي» وواشنطن بمخاوف موسكو، ولا يريدان الانتظار، وعلى العكس من ذلك، يطلبان منها استناداً إلى معاهدة اسطنبول عام 1999، سحب الجنود الروس الـ900 الذين يحرسون مستودعات الذخائر الروسية في جمهورية «ترانس ـــــ دنيستريا» (بريدنيستروفيا) المنفصلة عن مولدوفا، متجاهلَين ليس فقط مواطني هذه الجمهورية، الذين يرون في المجندين الروس صمام أمان أمام تكرار مجازر التسعينات، بل أيضاً الاتفاق بين روسيا ومولدوفا الذي وقّعه رئيسا البلدين في 21 تموز 1992 في شأن مبادئ التسوية السلمية للنزاع المسلح بين ترانس ـــــ دنيستريا وكيشينوف.
لذلك كله، وجّهت موسكو إنذارها وهدّدت بالانسحاب من «المعاهدة»، ولكي لا يظن أحد ما أن موسكو تلقي الكلام على عواهنه، أقدم سيّد الكرملين على الخطوة الأولى قبل الانسحاب الكامل، وهي تعليق مشاركة الجانب الروسي في «المعاهدة» إلى أن تقوم دول الـ«الأطلسي» جميعها بالمصادقة على اتفاقية تعديلها. وذلك يتضمّن إيقاف زيارات المفتشين العسكريين الأجانب إلى روسيا، وكذلك إيقاف إطلاع الشركاء في «المعاهدة» على تحرّكات التشكيلات والتقنيات العسكرية الروسية في الجزء الأوروبي من البلاد.
ورغم أن وزارة الخارجية الروسية أكّدت أن «التعليق الروسي لا يعني صفق الأبواب أمام الحوار اللاحق» الذي سيستمرّ في المبدأ 5 أشهر قبل تطبيق الإجراء الروسي، إلّا أن ذلك لا ينفي أن بوتين، وبعد النتائج المتواضعة لقمّته مع نظيره الأميركي جورج بوش في «كينيبانكبورت» في ولاية ماين، قد اختار المواجهة مع البيت الأبيض. مواجهة عبّر عنها الجانب الأميركي و«الأطلسي» بـ«خيبة أمل» من مفاعيلها.