برلين ــ غسان أبو حمد
«أنا أوروبي... إذن أنا موجود»؛ هذه هي خلاصة مضمون المباحثات في «قمة الاندماج» الثانية التي عقدتها القيادة الألمانية في شهر حزيران الماضي، بغياب الجمعيات والروابط الأجنبية الكبرى، وخصوصاً الجمعيات التركية، التي يتألّف منها النسيج الاجتماعي في ألمانيا

  • الاتحاد الأوروبي ينظر إلى اللاجئين كخطر لا كبشر بحاجة إلى الحماية


  • هدف قمّة الاندماج كان البحث في وسائل وسبل الاندماج الاجتماعي وتوحيد المجتمع وتحديد حقوق المواطنين وواجباتهم تجاه السلطة وإدارات الدولة. هذا يبدو واضحاً في العناوين التي تزيّن بطاقات الدعوة الرسمية، إنه تحديد لـ«الهوية الألمانية»، وبالتالي الأوروبية. فلماذا تخاف الجمعيات الأجنبية من هذا الهدف؟
    واقع الأمر، أو «القطبة المخفية» في حياكة جدول أعمال «قمة الاندماج»، هدف إلى ما هو أبعد من ثالوث «الثورة الفرنسية» المرتكز على «الحريّة والأخوّة والمساواة». لقد كان الهدف الحقيقي، ولا يزال، ينحو باتجاه البحث في تنظيم «الهجرة واللجوء والنزوح»، أي تحديد الأنظمة التي ترعى شؤون العمل والتربية والضمانات الاجتماعية.
    تعتقد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن تحديات المرحلة تقتضي «القفز درجات عديدة» على طريق الاندماج، خلافاً لاعتقاد الجمعيات والروابط الأجنبية، بأن مسيرة الاندماج الاجتماعي هي «مسيرة الألف ميل»، ولا يجوز القفز فوق التراث والتقاليد والعادات والديانات والطقوس والشعائر، دفعة واحدة.
    موقف الجمعيات الأجنبية واضح: «نرفض أن نكون أوروبيين في الواجبات والالتزامات وأجانب في الحقوق والضمانات. ونطالب القيادات الأوروبية، وتحديداً الألمانية، بمراعاة قواعد المساواة في جميع الأمور. نرفض الخضوع لامتحانات الولاء ولا نقبل بهوية أوروبية خاضعة للمراقبة الدائمة وعدسات التصوير السرّي وشمشمة الكلاب البوليسية».
    وفي المقابل، ترى السلطة الألمانية، وتحديداً وزارة الشؤون الاجتماعية الراعية لأعمال قمة الاندماج الثانية، أن أبسط قواعد الاندماج تتجلّى في المساواة تجاه القوانين، وبالتالي إتقان لغة البلد كحدّ أدنى، وقبول العادات والتقاليد السائدة في بلدان اللجوء والنزوح...
    وفي مواجهة قواعد الاندماج التي تطرحها وزارة الشؤون الإجتماعية، تؤكد الروابط والجمعيات الأجنبية أن الاندماج الاجتماعي لا يعني «الذوبان» بل يعني تكوين «مجتمع ثالث» غني بالتراث المنوع، ويعني احترام التقاليد والعادات التي يحملها اللاجئون والنازحون الأجانب، تماماً كما في المدارس والمعاهد التربوية، التي تشهد حالياً، نمو «جيل ثالث» يحمل مواصفات الاختلاط والتنوّع.
    وتذهب التحليلات في وسائل الإعلام الألمانية إلى زاوية أخرى من الخلافات التي أدت إلى تعطيل قمة الاندماج الثانية، وهي تتجلّى في تمسّك أطراف الحوار، وهم الألمان والأتراك، بهويتهم القومية. وهنا تتعقّد الأمور، عند طرح قواعد التخلّي عن الأصول القومية والذوبان في «شخصية ثالثة» من دون تراث، لا بل مفبركة ومصنوعة «للتسويق فقط».
    هكذا، بدا واضحاً أن الخلاف بين السلطة الألمانية والجمعيات والروابط الأجنبية على قوانين اللجوء والهجرة يذهب إلى أعمق من «تفاصيل» السفر وجمع شمل العائلات والضمانات الصحيّة ومكافحة الأميّة، ليطال في جوهره «الهوية القومية الاجتماعية»، التي تحدّد معاني «الهوية وشخصية المجتمع الأوروبي» في هذا الزمن التقني الفسيفسائي.
    واجهت ميركل معضلة فشل القمة وأعلنت تفهمّها، وأعربت عن رغبتها في مشاركة الجميع، لأن «الحوار» هو الطريق الوحيد للتفاهم والاتفاق، لا المقاطعة والغياب.
    الهوية الأوروبية
    كيف تحدّد ألمانيا «الهوية الأوروبية»؟ وكيف ترسم خطوات الاندماج الاجتماعي؟ وهل هناك هوّة ساحقة بين المقيمين الأصليين واللاجئين والنازحين الأجانب، إلى حدّ يسمح بتقسيم المواطن في أوروبا إلى أصلي وتقليد؟ وما هي أبرز النقاط الشائكة في قوانين الاندماج الاجتماعي؟
    تتجلّى المواضيع العالقة بالتباين الفاضح في الحقوق والواجبات بين الطرفين. تبدأ بخطوة حرية الحركة والانتقال والسفر، وحرية القول والعمل وصولاً إلى خطوة حرية ممارسة العقائد السياسية والانتماء الحزبي وانتخاب القيادات السياسية والإدارية المسؤولة وخطوة حرية التمتع بالضمانات الصحية والاجتماعية، والأهمّ حرية ممارسة الشعائر والطقوس الدينية المذهبية، من الزواج والطلاق، وسواها من الأشكال والعادات والتقاليد والطقوس والأعراف بما فيها حق الختان والطهارة إلى شعائر الدفن وحقوق الغسل وأشكال المقابر.
    في مواجهة هذه التعقيدات، يتمسّك الجانب الألماني بالقوانين الصادرة التي تحدّد شروط النزوح والهجرة وشروط جمع شمل العائلات وما يتبعها من مواصفات تعجيزية في بعض جوانبها، وأبرزها القوانين التي تلزم الأشخاص الراغبين في الالتحاق بشركاء حياتهم في ألمانيا بإثبات إجادتهم لأساسيات اللغة الألمانية وتشترط أيضاً ألّا يقل سن الزوجين عن 18 عاماً.
    وترفع الحكومة الألمانية في دفاعها عن قوانين النزوح والهجرة عن كاهلها تهمة «العنصرية والطبقية». وتشير مصادرها إلى ضرورات خارجية أوروبية، فرضتها خمسة معايير أو شروط حدّدها الاتحاد الأوروبي وهي:
    أوّلاً: خلق تجانس في شروط الإقامة داخل الاتحاد الأوروبي وتسري هذه الشروط على مواطني الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (مثل الباحثين والطلاب الجامعيين).
    ثانياً: مكافحة الهجرة غير المشروعة إلى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
    ثالثاً: تسهيل حرية الحركة لمواطني الاتحاد الأوروبي.
    رابعاً: خلق تجانس في حق اللجوء إلى الاتحاد الأوروبي.
    خامساً: تنظيم حقّ الإقامة.
    في المقابل، تتمسك الجمعيات والروابط الأجنبية بمطلب المساواة في جميع الشؤون وترفض التشكيك الدائم في ولائها لـ«الوطن الأوروبي الجديد»، والتعامل المتواصل والدائم معها، على قاعدة «مواطن قيد الدرس والتجربة».
    ويرى عدد كبير من ممثلي جمعيات وروابط المسلمين في ألمانيا أن مواد القانون الجديد تتنافى مع توجهات الحكومة في تعزيز الاندماج والتعايش المشترك. وفي هذا المجال، وصف الأمين العام للمجلس الأعلى للمسلمين أيمن موزايك القانون الجديد بأنه «ينتهك مبدأ المساواة بين المواطنين». كما انتقد كينان كولات، رئيس الجالية التركية في ألمانيا، تشديد إجراءات لحاق أحد الزوجين بشريك حياته في ألمانيا وإلزام الراغبين في الالتحاق بأزواجهم أو زوجاتهم بإثبات إجادتهم لأساسيات اللغة الألمانية قبل السفر. ووصف هذه الإجراءات بأنها «تمييزية».
    اللاجئون... خطر أم بشر؟
    في هذا الإطار، تتوافق وجهة نظر الجمعيات والروابط الأجنببة مع وجهة نظر منظمة العفو الدولية في انتقادها لمعايير الاتحاد الأوروبي حول النزوح والهجرة، ويجري تقويمها على أسس ومعايير مخالفتها للأنظمة والقوانين الدولية، التي رسمتها منظمة الأمم المتحدة.
    وكانت منظمة العفو قد اتهمت الاتحاد الأوروبي بالتخلي عن حماية اللاجئين. وقالت مصادر المنظمة في برلين، لمناسبة اليوم العالمي للاجئين، إن الاتحاد الأوروبي ينظر إلى اللاجئين «كخطر لا كبشر بحاجة إلى الحماية».
    وقالت خبيرة شؤون اللاجئين في منظمة العفو، يوليا دوخروف، «إن سياجاً يبلغ ارتفاعه ستة أمتار ودوريات مراقبة قبالة سواحل أفريقيا إضافةً إلى الإجراءات القانونية الأخرى تهدف إلى إبقاء الناس بعيدين عن أوروبا». وأضافت إن اللاجئين الذين ينجحون في الوصول إلى أوروبا لا يتمتعون غالباً بفرص عادلة أثناء إجراءات اللجوء، مشيرة إلى أن دول الاتحاد الأوروبي «تخرق بهذا القانون الدولي وخصوصاً قواعد حقوق الإنسان الأوروبية ومعاهدة جنيف للاجئين».
    خلاصة قمة الاندماج
    على الرغم من مقاطعة أربع جمعيات أجنبية كبرى لأعمال قمة الاندماج الثانية، فقد خرجت بمجموعة توصيات لإقرارها بعد متابعة «الحوارات والمشاورات»، بينها:
    أولاً: يحصل المُمْهَلون لسنوات طويلة (مدرجون على قوائم الترحيل) على الحق في الإقامة ما دام بإمكانهم توفير نفقات معيشتهم بشكل مستقل. أما في حالة عدم توافر هذا الشرط فإنهم يحصلون على تصريح إقامة تحت الاختبار، حيث سيكون لديهم الوقت حتى نهاية عام 2009 كي يقدموا ما يثبت أنهم قادرون على توفير نفقاتهم.
    ثانياً: لا يتمتع الأجانب الذين حصلوا على «مهلة انتظار»، بحق الإقامة القانونية، وبالتالي يجب عليهم المغادرة. وفي حال عدم استجابتهم لأمر المغادرة يحق للدولة ترحيلهم إذا ما توافرت الشروط.
    إن تنظيم حق البقاء في ألمانيا يتيح الفرصة أمام الذين حصلوا على مهلة انتظار في ألمانيا لسنوات عديدة لدخول سوق العمل. وقالت وزيرة الدولة الألمانية، ماريا بومر، التي تتولّى حقيبة الشؤون الاجتماعية، «عندما نفتح أبواب سوق العمل أمام الذين حصلوا على مهلة انتظار في ألمانيا لسنوات عديدة، فإننا بذلك نتبع بحزم قاعدة تنص على أنه يجب على كل شخص أن يؤمِّن متطلبات حياته عن طريق العمل». وأضافت «أناشد أرباب العمل أن يتعاملوا مع المتقدمين للحصول على وظائف ممن لهم حق البقاء في ألمانيا كما يتعاملون مع المتقدمين الآخرين للحصول على وظيفة».
    ثالثاً: جلب الزوج أو الزوجة (لم الشمل). هنا يدخل في نطاق التعديلات الأخرى رفع الحد المشترط لسِنّ الزوج أو الزوجة إلى 18 عاماً في حالة جلب أحد الطرفين للطرف الآخر بغرض جمع شمل الأسرة، وكذلك تقديم ما يثبت وجود معرفة بسيطة باللغة الألمانية قبل دخول ألمانيا. ويبدو واضحاً أن الغرض من هذه التعديلات هو منع الزواج القسري أو الزواج الصوري بغرض الحصول على حق الإقامة.
    كما قضت التعديلات الجديدة بمعاقبة الأجانب الذين رفضوا المشاركة في دورات الاندماج الإجبارية بدفع مبلغ ألف يورو. أمّا من يعرقل عملية اندماج طرف آخر، عضو آخر في الأسرة على سبيل المثال، فتتهدّده عقوبة الترحيل. كذلك رفعت التعديلات الجديدة الإعفاء الذي كان يتمتع به من هم دون عمر الثالثة والعشرين ممن يتقدمون للحصول على جنسية، حيث أصبح من الضروري أن يكون لديهم عمل إضافةً إلى شرط معرفتهم باللغة والقيم الألمانية معرفة جيدة قبل الحصول على الجنسية.

    «أجانب» ألمانيا


    يعيش في ألمانيا سبعة ملايين شخص من أصول غير ألمانية. ويمثّل الأتراك أكبر جالية أجنبية، حيث يصل تعدادهم إلى أكثر من أربعة ملايين، لكن 20 في المئة منهم فقط يحملون الجنسية الألمانية.
    ربع الأجانب في ألمانيا تتحدّر أصولهم من دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، فقوانين الاتحاد تسمح لمواطنيه بحرية التحرك والإقامة. وثلث الأجانب في ألمانيا يعيشون فيها منذ 20 عاماً، وأكثر من نصفهم يقيم منذ 10 سنوات، وواحد من بين كل خمسة مولود في ألمانيا.
    بدأت أولى موجات الهجرة الحديثة إلى ألمانيا في خمسينات القرن الماضي، حيث أدت جهود إعادة الاعمار بعد الحرب إلى نمو اقتصادي كبير. وبدءاً من الستينات، اتجهت ألمانيا إلى فتح الباب أمام العمالة التركية. وأُطلق وقتها على العمال اسم «العمال الضيوف». وتم اختيار الاسم عن وعي حيث كان من المخطط أن يعود العمال إلى أوطانهم بعد فترة عملهم، وهو ما فعله بعضهم بالفعل، لكنّ كثيراً منهم أعجبته الحياة في ألمانيا وقرر البقاء فيها. هؤلاء الذين بقوا لم يعد يطلق عليهم العمال الضيوف بل «المهاجرون».
    لكن الفروق الثقافية بين المهاجرين الأتراك، والمسلمين بشكل عام، وبين المجتمع الألماني لم تحظَ باهتمام الساسة الألمان لمدة طويلة، ولم يضطلعوا بجهود مكثفة لتعزيز عملية الاندماج إلا أخيراً، بعدما أصبح المجتمع ينظر إلى مهاجريه المسلمين نظرة الشك والريبة، ولا سيما بعد أحداث الحادي عشر من ايلول.
    لذلك تمثّل قمة الاندماج الأولى التي عُقدت العام الماضي خطوة جريئة لكسر أجواء عدم الثقة، وفتح حديث مباشر وصريح بين كل الأطراف.