حسن شقراني
«المساجد ثكناتنا، القِباب خوذاتنا، منارات الجوامع حرابنا، مؤمنون جنودنا، هذا الجيش المقدّس يحرس ديني...». سعى رئيس الوزراء التركي المحافظ، كما يحبّ أن يسمّى، رجب طيّب أردوغان، من وراء هذه الأبيات المعدّلة لقصيدة «دعاء الجندي» للشاعر زيا غوكالب إلى أن يجعل لحجّته القائمة على أنّ «في تركيا معسكرين، العلماني الذي يلحق إصلاحات مصطفى كمال أتاتورك بعماء، والديني الملتفّ حول الشريعة الإسلاميّة»، وقعاً خلال خطاب ألقاه خلال لقاء عام في سييرت في شرق الأناضول في 12 كانون الأوّل من عام 1997 حين كان عمدةً لإسطنبول.
الأبيات المعدّلة للقصيدة الأساسيّة المنبعثة من روح حرب البلقان في عام 1913، لفظها السياسي الأكثر شعبيّة في بلاد أتاتورك العلمانيّة في مرحلة اتّسمت بحساسيّة تجاه قضيّة الأحزاب الإسلاميّة وصراعها لطرح رؤيتها برنامجاً سياسياً.
لم يكن لأردوغان وحزبه «الرفاه»، المنحلّ حينها، الرؤية البراغماتيّة لكيفيّة السطوع في بلاد تشوبها تناقضات الدين والهويّة القاريّة. إلّا أنّ تنقيح الخطوط السياسيّة والإيديولوجيّة التي حكمت مسيرة القيادي الإسلامي، الذي رأى في مرحلة من المراحل أنّ السلام باليد على الجنس الآخر مسألة شكليّة «استغفر الله مراراً بعده»، على مدى أكثر من 27 عاماً، دفعت الشعب التركي إلى تجديد الثقة بنهجه في الانتخابات الأحد الماضي، بعد ولاية أولى بدأت في عام 2002. لكن كيف كانت الرحلة؟
«الإمام بيكنباور» كان لقبه، نظراً لتعلّقه بالدين الإسلامي، ولهوسه بكرة القدم التي لعبها 16 عاماً حتى شبهوه بساحر اللعبة الألماني فرانتز بيكنباور. ولد في إسطنبول في عام 1954 من أهل ذوي أصول جورجيّة. قضى السنوات الأولى من طفولته في ريز، قبل العودة ابن 13 ربيعاً إلى مسقط رأسه، حيث نال تعليمه في مدرسة إسلاميّة، حاز بعدها شهادة في العلوم الاقتصاديّة والإداريّة من جامعة «مرمرا».
خلال التوتّرات السياسيّة في سبعينات القرن الماضي، التي كان أساسها الصراع الذي قادته التيّارات اليساريّة وأدّت إلى الانقلاب في عام 1980، كان أردوغان يعمل في شركة النقل العام في إسطنبول، ومنخرطاً في العمل السياسي في «حزب الخلاص الوطني»، الذي حلّ بعد الانقلاب واقتيد زعيمه نجم الدين أربكان إلى المحكمة العسكريّة.
لدى عودة النظام السياسي إلى العمل في عام 1983، رجع قياديو «الخلاص الوطني» إلى الساحة السياسيّة في كنف حزب «الرفاه». إلّا أنّ وصول أردوغان إلى البرلمان عن إسطنبول، بعد تخطّي حزبه نسبة الـ 10 في المئة الانتخابيّة المطلوبة في عام 1991، اصطدم برفض اللجنة العليا للانتخابات نظراً للنظام الانتخابي الذي كان قائماً.
انتقاه أربكان، «بناء على مهاراته الخطابيّة»، ليصبح عمدة إسطنبول في الانتخابات البلديّة في آذار عام 1994. «الرفاه» وصل في تلك الفترة ليصبح الحزب الأكثر شعبيّة في تركيا للمرّة الأولى.
إلّا أنّ عام 1997 شهد سحب البساط الدستوري من تحت «الرفاه» لـ«تهديده الأسس العلمانيّة». وفي العام التالي، وبعد إلقائه القصيدة المثيرة للجدل، حكم على أردوغان بالسجن 10 أشهر بتهمة «إثارته للكراهيّة الدينيّة»، خدم منها 4 أشهر.
عبر قيادة «تيار إصلاحي» في «حزب الفضيلة»، الاسم الجديد لـ«الرفاه»، الذي حُلّ على القواعد نفسها أيضاً، استطاع أردوغان تشكيل حزب «العدالة والتنمية» في آب عام 2001. ومنح الناخبون الأتراك في الانتخابات التشريعيّة من العام التالي 34.3 في المئة من أصواتهم للحزب الإسلامي ـــــ الإصلاحي.
بناء على قواعد دستوريّة منعته من الترشّح للانتخابات، بسبب حادثة القصيدة المعدّلة، بقي أردوغان خارج البرلمان، وبالتالي من دون منصب رئاسة الحكومة التي تسلمها رفيقه في الحزب عبد الله غول. وعمل البرلمان التركي في ذلك الوقت على استصدار قانون جديد أتاح لأردوغان الترشح للبرلمان من خلال انتخابات فرعية في سييرت، بعدما استقال أحد نوابها لإتاحة الفرصة له ليصبح مشرعاً. وهكذا، تسلم أردوغان رئاسة الوزراء، التي أثبت جدارته فيها من خلال إدارة اقتصاد البلاد بنجاح والمحافظة على الطابع العلماني للبلاد... محافظة قد تختلّ توازناتها في المرحلة المقبلة، ما يفرض على تركيا تحدّيات ضخمة، وعلى أردوغان مغامرات تتطلّب حنكة تمنع العسكر من تكرار السيناريو نفسه الذي واجه به أربكان وحزبه.