أربيل ــ وائل عبد الفتاح
الأمن في كردستان العراق مثير للاهتمام، ولا سيما أن الإقليم يعيش نوعاً من السكينة في بلد يسقط مواطنوه يومياً قتلى بالعشرات. العزلة الأمنية التي تعيشها تثير تساؤلات، تجد إجابتها في كلمة «بشمركة»

  • «البشمركة» لا تزال مقسّمة بين أربيل والسليمانية... رغم الاتفاق الثنائي

    «ممنوع»، قالها الشرطي مشيراً بيده لوقف التصوير. كرر الكلمة مرة أخرى. بدا ساعتها قوياً وحاسماً، رغم أنه يرتدي زي شرطة المرور وعليه رمز الدولة العراقية. كانت الصورة لامرأة تتسوّل وفوقها لافتة إعلان شركة «ويسترن يونيون» تقول: «هنا تحويل الأموال».
    الشرطي ضبط محاولة اقتناص مفارقة الفقر والأموال. ساعتها، كان في موقع سلطة متجبرة، لكنه على مقهى ديار بكر المتواضع جداً بدت معالم أخرى في شخصيته: ودود وطيب. ترك عمله الأصلي بائعاً في محل لقاء راتب أفضل قليلاً. كان في وقت الراحة يحتسي الشاي الكردي المميز وقطعة خبز. بدا توضيحه للمنع في صيغة اعتذار رقيق: «التصوير ممنوع، لأن البلد مستهدف. والإرهابيون يبحثون عن فرصة».
    تحدث الشرطي بالعربية، فهو من جيل قديم على عكس جوران، حارسنا وسائق سيارتنا في الجولة الرسمية. يقود السيارة بمهارة شاب في العشرينات، مليء بالثقة. ويتحرك بملابسه المدنية ومسدس يتدلى من جانبه. يبتسم كلما سمع اللغة العربية، وفي كاسيت سيارته يعلو صوت نجوم العرب الحاليين في الغناء، لكنه لم ينطق كلمة عربية واحدة. وهو مثل جيله الذي ولد في ظل قطع العلاقات مع «المركز» منذ سنة 1990، والذي أدى إلى تحول الدراسة إلى الكردية، وأصبحت العربية لغة هامشية في المدارس والجامعات، بل وعلى لافتات المحلات. انسحبت العربية تماماً كرد فعل على سنوات «فرض» اللغة العربية بالقوة.
    الكردية الآن هي اللغة الأولى، رغم أنها لغة محدودة بلا جغرافيا واسعة ولا امتداد يجعلها لغة حية لها مستقبل، أو كما قال شاب كردي فى بلدة عينكاوة على أطراف أربيل: «فرض اللغة الكردية نوع من الغباء. لن نجد بها عملاً». الشاب يعمل في مخبز يخدم البلدة ذات الغالبية المسيحية، بينما صاحب المخبز مسلم من أربيل. الشاب العامل يعيش مع والده بعدما سافر كل أشقّائه إلى ألمانيا بحثاً عن حياة جديدة.
    عينكاوة، أقرب إلى الضواحي النظيفة، على هامش مدينة محافظة مثل أربيل. تسير غالبية النساء فيها بحجاب أسود ينتمي كما عرفنا إلى تقاليد العشائر. قليلات يسرن من دون حجاب أو بحجاب يشبه الطراز المنتشر في البلاد العربية. مباني القرية مختلفة، وفيها بارات وملاهٍ ليلية، لكنها المكان الوحيد الذي كتب فيه على جدار كنيستها الشهيرة: «مبروك للشعب العراقي إعدام الطاغية صدام حسين».
    عينكاوة أقرب إلى السليمانية التي يعتبرونها «باريس» كردستان مقارنة بالعاصمة أربيل. السليمانية ثقافتها أكثر أوروبية. ورمزها الكبير الرئيس جلال الطالباني وزوجته هيروخان، ابنة العائلة الثرية التي تركت كل شيء ورحلت وراء زوجها في الجبال.
    أيّها العدو نحن هنا
    نشيد كردستان يقول: «أيها العدو. الكرد باقون. يا أيها العالم اسمع».
    الأغنية تلخّص عواطف محاربة تستحضر العدو بشكل دائم. وبقي الوعي متحفزاً على خط النار. لخص «كاك مسعود» (هكذا ينادون زعيمهم مسعود البرزاني) هذه العواطف حين قال: «الحرية أو الموت».
    و«كاك» معناها الأخ. وتقال في لحظات الحميمية والاحترام. بينما «مام»، التي تسبق اسم الطالباني فهي فريدة ولا تقال لأي شخص. تعني مباشرة العم، ويقصد بها في المعنى السياسي: الأب الروحي.
    مسيرة كردستان انتقلت من مرحلة النضال السري (في 1946 وحتى 1961)، حين أعلنت الثورة (معناها بالكردي شورش) على يد الملّا مصطفى البرزاني. ثم بدأت الحرب التي كانت على مستوى الجبهات إلى أن تحولت إلى حرب عصابات بداية من سنة 1976.
    في 1991 بدأت الانتفاضة. وأقيمت انتخابات برلمانية. وبداية من 2003، انتهت حرب أهلية بين البرزاني والطالباني عكست الاختلاف في الثقافة واللغة (لغة أربيل لا يفهمها أهل السليمانية والعكس)، لكنها كانت أساساً «صراعاً على السلطة»، كما قال مسؤول في «حزب الاتحاد الوطني»، مشيراً إلى أن الحل كان في التوافق أو تقسيم المناصب بالحصص. وهو الحل الذي وضع حجر الأساس ليكون إقليم كردستان «جزيرة الطمأنينة» وسط محيط الرعب الأسود.
    وهذه ليست معادلة سهلة، وخصوصاً أن في كردستان مجتمعاً مركباً من أقليات لا نسمع عنها في العالم العربي (يزيديين وأشوريين وسريان وغيرهم). الأقليات تعيش في سلام وتسامح في ظل السيطرة الكردية (يمثل الأكراد نحو 80 في المئة). لكن هذه ربما تكون «مرحلة الصمت المؤقت»، كما نبّه مثقف من خارج كردستان، فكل أقلية لها مطالب وأجندة استحقاقات تريد بها توسيع مساحتها في الإقليم.
    يحدث هذا على استحياء الآن أو عن طريق مواجهات كما يحدث مع التركمان في تلعفر. كما يظهر التوجّس بين الشيعة المدعومين من السيد مقتدى الصدر. إلا أن الخطر الحقيقي يأتي من الخارج وهدفه: إنهاء أسطورة الأمن الذي لا يقهر في كردستان.
    في 2004، فجّرت عملية «إرهابية» نخبة من المسؤولين في كردستان. كانت هذه إشارة الخطر الضخمة التي حوّلت الأمن إلى هاجس عنوانه الرئيسي هم: البشمركة.
    ليست بشمركة واحدة
    البشمركة هم الفدائيون. هذا هو معناها في اللغة الكردية. ويضاف إليها لوصف تاريخهم بأنهم الذين يضحّون بأرواحهم، والأوصاف السائدة تعتبرهم أشرس مقاتلين في العالم عاشوا سنوات طويلة في الجبال، يذوبون بين طياتها، لكنهم ساعة المواجهة يظهرون مثل الكائنات الخرافية، من أماكن لا يتوقعها الخصم، الذي عادة ما يحاربهم بأشرس التكنولوجيا.
    البشمركة الآن هم رعب العراق. ترفض السلطة المركزية إدماجهم بالكامل في الجيش العراقي، فاقتصرت مشاركتهم فقط على كتيبة من 1800 مقاتل. هي التي اتهمت بالمشاركة في عملية اقتحام الفلوجة والمذبحة التي ارتكبها الجيش الأميركي فيها. وردّ الأكراد: «المشاركون كانوا ضمن وحدات الجيش العراقي».
    لكن أين بقية البشمركة، التي يتراوح تقدير حجمها حول رقم مئة ألف؟
    يقول مسؤول في الأمن الكردي «حسب الاتفاق مع الحكومة العراقية، قسم من قدماء البشمركة تحوّلوا إلى قوات حماية البيئة، مهمتهم الحفاظ على الغابات والمحميّات الطبيعية. وقسم آخر يحمون مدينة أربيل من الخارج ويقيمون خارج المدن في كردستان، أي أقرب إلى حرس الحدود».
    لكن هؤلاء ليسوا كل البشمركة، فالغالبية تمثّل ما يمكن أن نسميه «جيش كردستان» تديرهم وزارتان للبشمركة: واحدة فى أربيل (يتبعها تقريباً 60 ألفاً) والباقي فى السليمانية. لم تتّحد الوزارتان حتى الآن، وهو ما يعني أن الوفاق السياسي بين البرزاني والطالباني لم يتم على المستوى العسكري، فلا تزال ميليشيا كل حزب تعمل وحدها وبوزارة مستقلة.
    هذه أسئلة لا يجيب عنها المسؤولون في كردستان. إنها أسئلة ممنوعة. يتوقف الأمر عند التلميح بالأمنيات: «ستتوحّد البشمركة قريباً. ننتظر هيكلة التشكيلات».
    أسئلة أخرى عن موقع البشمركة في تركيبة الحكم: هل هي جيش؟ حرس حدود؟ ميليشيات غير مفككة؟ مراكز قوى في الدولة الوليدة؟ حرس قديم يريد نصيباً في السلطة؟ حكام كردستان من الكواليس؟ أسئلة ممنوعة هي الأخرى ومسؤول الأمن اكتفى بتوضيح أن مهمات البشمركة غير مهمات الشرطة أو قوات الأمن الداخلي المعروفة باسم «الأسايش».
    الحكايات عن البشمركة مغطاة دائماً بنوع من السرية، وخباياها أيضاً ليست مكشوفة؛ فالصف الثاني من المقاتلين فوق الأربعين يذوبون الآن في أعمال بين السياسة والمجتمع. ويشير كاتب عراقي إلى أن مدرب فرقة بنات السليمانية للغناء، التي يرعاها الرئيس الطالباني، بشمركي قديم. قالها ولا أعرف لماذا ضحك أو بانت عليه علامات التعجب.
    تحت علم «البعث»
    البشمركة هم صنّاع أسطورة الأمن إذاً. والعلم الكردي المرفوع في كل مكان هو علامتها الأساسية. ألوان العلم الكردي ترمز إلى الشهداء (الأحمر) والسلام (الأبيض) وربيع كردستان (الأخضر) وتتوسطه الشمس الكردية ذات الـ 21 شعاعاً، والتي تظهر بكامل عزّها في شهر النيروز أول الربيع وبداية السنة الكردية.
    وجود العلم لافت للنظر. كأنه إعلان سيطرة، وخصوصاً في ظل غياب العلم العراقي نهائياً عن أربيل العاصمة.
    «السليمانية ترفع العلم العراقي ربما من الأحراج لأن الرئيس منها»، هكذا علق صاحب المكتبة الذي يبيع أعلام كردستان. لكن إجابة مسؤول في حزب «الاتحاد الوطني» أشارت إلى أن الموضوع أكبر من الخجل. قال: «اسألوا.. قادة الحزب الديموقراطي».
    هل هو موقف متعصب من حزب البرزاني؟ أم أنه جناح متشدد في «الدويكة» الكردية يميل إلى اجتثاث البعث وعلمه «الذي ضربنا بالأسلحة الكيماوية تحته».
    مسؤول في حزب الاتحاد قال «إنه ليس العلم الذي يمثل كل العراقيين». وشرح زميله فى الحكومة الكردية «في علم الملكية، كانت هناك نجمتان، تمثل واحدة العرب والأخرى الأكراد، الشركاء في هذا الوطن. وفي ثورة 1958، التي قادها عبد الكريم قاسم، تغيّر العلم لكن بقي فيه اللون الأصفر رمز الأكراد منذ أيام صلاح الدين. وهذا هو العلم الذي نريد عودته الآن. لكن البعث في 1963 غير العلم. وأضاف نجمة لتشير النجمات الثلاث إلى الوحدة العربية، ثم بعد ذلك صدر القانون رقم 34 ليحدد بأن النجمات الثلاث ترمز إلى الوحدة والحرية والاشتراكية. لم يعد العلم يعبر عن كل العراقيين. ولم يعد يهم النظام أن يرمز العلم إلى كل طوائف العراق، حتى أن صدام حسين أضاف بيده كلمة الله أكبر على العلم بعد حرب الكويت».
    وأكد مسؤول آخر «هذا علم لا يمثل العراق، لكنه يمثل أفكار البعث وصدام حسين». وأضاف: «هذا العلم لم يرفع في كردستان منذ 1991».


    ساقان وقلب!
    «ممنوع اصطحاب السلاح». أغرب الممنوعات في كردستان، لا تعبر فقط عن وضع غريب أو خوف تقليدي في بلد يعيش على بارود ساخن. لكنها تكشف أن كردستان الآن في مفترق الطرق. بلد غارق في الأسلحة الشخصية، ويريد أن يصنع الأمن العمومي.
    شعور طاغٍ بالانتصار وبأنهم صنّاع الجزيرة الآمنة. يتقاطع مع شعور بالرعب من تفجير الأسطورة، والرغبة في الخلاص من المحيط العربي الراكد الآن. يتضادّ مع هوس الذوبان في النظام الغربي تماماً. دولة حائرة وصراع بين أن تكون دولة شرقية أو دولة غربية. قال سياسي كردي «دولتنا ستكون في مصلحة العرب لأنها ستكون الجسر بينهم وبين أوروبا».
    يتصرف حكام كردستان بديموقراطية، لكن نظامهم السياسي قائم على التوافق والحصص، وهو ما يفجر أقوى ديموقراطية.
    صاحب محل يضع علماً في الصدارة قال «نشعر بالفرح طبعاً لأننا تخلصنا من رعب السنوات السابقة. لكن لا نحلم بالانفصال. لأن كردستان هي الساقان وبغداد هي القلب، هل رأيت الساقين تسيران من دون قلب؟».
    إلى أين ستذهب كردستان الحائرة؟ هذا في علم المستقبل.

    اجزاء ملف "كردستان العراق: الدولة الحائرة":
    الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالت | الجزء الرابع