موسكو ــ حبيب فوعاني
يعتبر جلوس ممثلي «محور الشر» و«الشيطان الأكبر»، للمرة الأولى منذ عام 1979، عند اقتحام السفارة الأميركية في طهران وأزمة الرهائن الأميركيين، وراء طاولة المفاوضات نجاحاً كبيراً في فتح ثغرة، ولو صغيرة، في الجدار المسدود بينهما


تأتي مفاوضات واشنطن وطهران، عبر سفيريهما في بغداد الأميركي رايان كروكر والإيراني حسن كاظمي قمّي، في 28 أيار الماضي، بعدما كان أنصار الخط المتشدد في العاصمة الأميركية يعارضون طويلاً الحوار الثنائي، وبينما كانت الولايات المتحدة تتابع حشد سفنها الحربية في مياه الخليج العربي، حتى إن الخبراء العسكريين لصحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» الروسية رأوا أن نصف القوة البحرية الأميركية ــــــ الآسيوية قد انتقل للمرابطة في هذا الممر المائي الضيق.
وفيما صادق الرئيس الأميركي جورج بوش على خطة زعزعة النظام الإيراني لإرسال إشارات معينة إلى طهران، لم تقف السلطات الإيرانية مكتوفة الأيدي ولم يتأخر ردها كثيراً، فقامت باعتقال الجواسيس الأميركيين الإيرانيي الأصل على أراضيها.
وعلى أي حال، فقد زفّ المتحدث الرسمي باسم مجلس الأمن القومي الأميركي غوردون جوندرو قبل ثلاثة أسابيع خبر «مبادرة البيت الأبيض التاريخية» ببدء مشاورات مباشرة مع طهران، تهدف إلى «تأمين دور مثمر للإيرانيين في العراق». وقد قبلت السلطات الإيرانية الاقتراح الأميركي، لكنها وضعت شروطاً ثلاثة لذلك، تتلخّص في أن يقتصر الحوار على الشؤون العراقية فقط، وأن يتم في حضور المسؤولين العراقيين، وألّا يتطرق إلى البرنامج النووي الإيراني.
وبالرغم من أن الجانبين يؤكدان حرصهما على استقرار العراق، إلا أنهما يفهمان هذا الاستقرار بطريقة متناقضة؛ فإيران مهتمة بالخروج العاجل والكامل للأميركيين من العراق، بينما تسعى الولايات المتحدة إلى الحصول على ضمانات بألّا يتحوّل العراق بعد خروجها إلى دولة شيعية تحت النفوذ الإيراني. في حين أن القيادة العراقية، بشخص رئيس الوزراء نوري المالكي، لا تريد أن يتحوّل العراق إلى قاعدة لمنظمات إرهابية مثل «القاعدة»، وفي الوقت نفسه يجب حسب رأيه ألّا يُستخدم العراق كقاعدة للولايات المتحدة للهجوم على دول الجوار العراقي.
ويرى الخبراء الأميركيون إيران كأحد الشركاء الرئيسيين المحتملين للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، ولا ينبغي تجاهل ذلك. لكن هل سيستطيع الجانبان الاتفاق على أن يصبحا شريكين حقيقيين في أمن المنطقة الإقليمي؟.
الجواب عن هذا السؤال يتوقف بشكل مباشر على سؤال آخر: هل ستستطيع إيران والولايات المتحدة تجنّب «تضارب المصالح» الشامل. وبشكل عام، هل من تطابق حقيقي لمصالحهما؟
تلك مسألة معقّدة، تتطلب مقاربات استراتيجية تتبدل نتائجها بتبدل الزمان والمكان. ويميل بعض الخبراء الأميركيين إلى تفسير تحوّل الموقف الأميركي نحو إجراء المفاوضات مع الإيرانيين كهزيمة للسياسيين الأميركيين المعادين لإيران في البيت الأبيض، وفي مقدمتهم نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني، وانتصار «للثنائي السياسي»، الذي يمثّله وزير الدفاع روبرت غيتس ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس.
ومن ناحية أخرى، يبدو أن نقاشاً داخلياً حثيثاً يدور بين أركان السلطة في إيران حول العراق، ما يمكن أن يمهّد لتحولات إيرانية جديدة في التعامل مع الأزمة العراقية. وكان المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي، قبل ثلاثة أسابيع فقط، قد استبعد إجراء المفاوضات مع «الولايات المتحدة المستكبرة والخطرة والتوسعية». لكنّ إيران على أي حال قامت بذلك الآن. بل إن إيران، التي تلوّح بانتهاج سياسة جديدة في العراق، قد تلمّح أيضاً إلى إمكان تقديم تنازلات، ولو جزئية، بالنسبة إلى برنامجها النووي كما لاحت بوادر ذلك في المحادثات الأخيرة لأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني والمنسق الأعلى للسياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي خافيير سولانا.
وتجدر الإشارة إلى أن بدء الاتصالات الدبلوماسية والمفاوضات بين إيران والولايات المتحدة أصبح مفاجأة للمجتمع الدولي كله، مع أنه يمكن القول إن هذه «المفاجأة» كانت متوقعة، مهما بدا ذلك غريباً للوهلة الأولى. إذ نضج في الوقت الحاضر الكثير من الحيثيات، التي تسمح بجعل هذه الاتصالات وهذا التعاون حقيقة واقعية. وقبل كل شيء، انطلاقاً من السياسة الأميركية الداخلية، التي تطوّرت بشكل حاد في الأوقات الأخيرة: من تبجّح المحافظين الجدد بتحقيق المنجزات العسكرية والسياسية في العراق ونشر الديموقراطية في الشرق الأوسط الكبير إلى اشتداد المعارضة لذلك من جانب الحزب الديموقراطي، الذي اشتدّ عوده، والقوى المعتدلة في الحزب الجمهوري وحتى من داخل إدارة الرئيس جورج بوش.
وكذلك تعب المجتمع الأميركي من الحرب الطويلة الفاشلة. وذلك، في حقيقة الأمر، ما تنبّأت به القيادات الروسية والأوروبية قبل وقوعه. لكنّ الاعتراف بذلك، ولو بشكل غير رسمي، تطلّب وقتاً طويلاً من مسؤولي الولايات المتحدة، ودفعهم الآن فقط إلى البحث عن طرق للتعاون مع إيران في العراق.
ووفقاً لمصادر روسية مطّلعة، كانت القيادة السياسية الأميركية قد وضعت قبل أشهر خطة سمّتها «واحات الأمان» في العراق، وهي نسخة طبق الأصل عن الخطة الروسية، التي أثبتت نجاحها في الحرب الشيشانية، عندما قامت موسكو بنشر سلطة الدولة تدريجياً في مناطق منفصلة، وتخلّت عن دحر المقاتلين دفعة واحدة في جميع أرجاء الشيشان.
لكن الأمر مع ذلك مختلف في العراق، لأن الإدارة الأميركية، ووفقاً للمصادر نفسها، تريد شراء السلام في بلاد الرافدين. وسيذهب القسم الأكبر من المئة مليار دولار المعتمدة لنفقات الحرب الأميركية على العراق لرشوة الزعماء المحليين والدينيين، ومع ذلك فإن هذه الخطة لن تحلّ مشكلة انسحاب القوات الأميركية من العراق.
ولذلك توصّلت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ووكالة الأمن القومي الأميركي إلى استنتاج مفاده: «إن أي تكتيك في إدارة الحرب فاشل وأي سحب للقوات الأميركية مستحيل من دون تحييد إيران»، التي تموّل، بحسب هذه المصادر، الزعيم الشيعي مقتدى الصدر و90 ألفاً من أنصاره.
لكن ما يسمّى «التحييد»، لا يعني اتخاذ إجراء عسكري ضد إيران. ولذلك، فقد بدأت الاتصالات السرية بين إيران والولايات المتحدة في شباط الماضي لكي تؤمّن إيران انسحاباً مشرّفاً للقوات الأميركية من العراق من دون فرار أو إذلال، لأنه إذا لم يتم الانسحاب فسيستمر سقوط القتلى بين أفراد القوات الأميركية، وذلك ما لم يعد يتحمّله الناخب الأميركي.
ومن المعلوم أن طهران وضعت شرطاً أساسياً لذلك: أن تغادر قوات الاحتلال العراق خلال نصف سنة. وقد تم الاتفاق على تشكيل فريق عمل غير رسمي من الدبلوماسيين والعسكريين من البلدين لوضع برنامج للانسحاب. في حين أن طهران لا تخفي على الولايات المتحدة أنها ستصطدم في القريب العاجل بانتفاضة العراقيين الشيعة إذا لم يتم الاتفاق على برنامج الانسحاب. أما إذا تمّت المحادثات بنجاح، فإن طهران تضمن بأن يودّع الجنود الأميركيين بالورود.
ويبقى ديك تشيني واحداً من المعارضين القلائل لسحب القوات من العراق، لأنه يتخوّف، ولديه الحق في ذلك، من استبعاد الشركات النفطية الأميركية من الحقول النفطية العراقية الواعدة.
لقد أظهرت الإدارة الأميركية، لشعبها في الدرجة الأولى ولصانعي السياسة، أنها مستعدة للتحوّل من المواجهة الشرسة مع إيران إلى التفاهم والمفاوضات والسياسة المرنة، لأن الانتخابات الرئاسية الأميركية ستجري عام 2008 على خلفية الحرب على العراق.
وتطوّر الأمور بهذه الطريقة يرضي في الواقع السياسيين الإيرانيين أيضاً، لأن عزلة إيران والقيود المؤلمة على التجارة، التي فرضتها عليها الولايات المتحدة، والتوتر الدائم، الذي يجعلها على حافة الحرب مع الغرب، لا يمكن أن تمتد إلى ما لا نهاية من دون أن تنعكس، رغم تصريحات المسؤولين الإيرانيين المستخفة بآثارها، على الوضع الاقتصادي والحالة السياسة والتطور الاجتماعي للبلد. وهم باتوا يدركون الحاجة إلى إعطاء الناس فترة راحة لالتقاط أنفاسهم.
هذا بالطبع رغم أن كلّاً من الجانبين يفسّر بدء الحوار كانتصار له؛ فالإيرانيون يعلنون أن الأميركيين مُنوا في حربهم على العراق بفشل ذريع على الأقل، إن لم تكن «هزيمة نكراء»، وأنهم وافقوا على التعامل مع الإيرانيين وتقديم تنازلات لهم لأن سياسة إيران بدت أكثر واقعية.
بينما يؤكد الأميركيون من ناحيتهم أن سياستهم في العراق، إن لم تبلغ غايتها، فهي قد حقّقت نتائج فعلية، لذلك بالذات أصبح ممكناً التفاهم مع إيران، وهم يقومون بذلك من موقع القوة. ويرى الأميركيون أنهم أفلحوا في البرهنة لطهران على أن لا مستقبل لسياستها. رغم أنه لا بد من الملاحظة أن الولايات المتحدة هي التي قامت بالتنازلات في حقيقة الأمر؛ فإذا كانت قد أعلنت في السابق استراتيجية شاملة لتحويل الشرق الأوسط الكبير إلى واحة للديموقراطية على مثال أوروبا وأميركا، فالآن أصبحت أكثر تواضعاً وتميل إلى تحقيق «ديموقراطية» من الطراز الإسلامي المعتدل على مثال تركيا وباكستان.
لكن ينبغي عدم تجاهل محاولات إنشاء طوق سياسي وعسكري إسلامي سني تحت رعاية واشنطن حول إيران، حيث يمكن وصف المبادرة الأخيرة للرئيس الباكستاني برويز مشرف في شأن إدخال قوات عسكرية إسلامية إلى العراق كبالون اختبار له. وكذلك مناقشة الدول الأوروبية والولايات المتحدة لهذه المبادرة. وذلك ما يعدّ تطوراً خطيراً بالنسبة إلى إيران، لأنه يعيد سياسة الأحلاف إلى المنطقة، ويتراءى هنا مستقبل استراتيجي لإنشاء حلف إسلامي، إن لم يكن شبيهاً بحلف شمال الأطلسي، فسيكون تحت رعايته وشبيهاً بحلف بغداد، ولكنه موجّه هذه المرة ضد طهران.
ويفهم المسؤولون الإيرانيون أن نفوذ بلادهم، التي يرى الخبراء الروس المحايدون في الوقت الحاضر أنّها «زعيمة للشرق الأوسط بالفعل وربما للعالم الإسلامي»، سيتقلّص في حال إنشاء مثل هذه التجمّعات العسكرية والسياسية والاقتصادية. ولذلك، ترسل إيران إشارات إلى الغرب عن استعدادها للتعاون. ويلوّح لها الغرب بمغانم اقتصادية هامة، نتيجة للتعاون مع كثير من الدول، وليس فقط مع الغرب، بل ومع دول المنطقة النفطية، ما سيجلب الرغد الاقتصادي وبالتالي الاستقرار السياسي المنشود لشعبها.
ومع أن الصيغة الموضوعة في أساس بداية المفاوضات واعدة استراتيجياً ومرنة ومثمرة، إلا أن المسألة تبقى في كيفية تحقيقها. ذلك ما سيتوقف على اللاعبَيْن الأساسيَيْن في المفاوضات، لكن ينبغي عدم إغفال اللاعبين الآخرين، وخصوصاًَ تركيا، التي تطمح إلى أداء دور مهم في منطقة نفوذها التاريخية تحت غطاء حكومة رجب طيب أردوغان الإسلامية الجذور، وتنظر بحسد إلى الدور الإيراني، وكذلك السعودية وروسيا، اللتين ليس من مصلحتهما الاستراتيجية التحسن السريع والجوهري للعلاقات بين إيران والولايات المتحدة، لأن استقرارهما الاقتصادي استراتيجياً يعتمد على عدم استقرار هذه العلاقات، والذي تتوقف عليه أسعار النفط المرتفعة، ولا سيما أن الحكومة الروسية وضعت للمرة الأولى خطة ميزانية لمدة ثلاث سنوات، ووافق عليها مجلس الدوما، انطلاقاً من أسعار النفط الحالية المرتفعة. وإن ما يلاحظ في الأشهر الأخيرة من الانخفاض الضئيل، لكن المستمر، في أسعار النفط يمثل لروسيا خطراً استراتيجياً.
وقد كتبت صحيفة «نيزافيسيمايا غازيتا» مقالاً عُدّ في حينه تجديفاً خيالياً في شأن مصلحة روسيا الاقتصادية في اندلاع الحرب بين إيران والولايات المتحدة. ومن ناحية أخرى، ليس واضحاً حتى الآن مصير الحصة الروسية من الكعكة النفطية العراقية.
وعلى أي حال، فإن المفاوضات أو «المفاجأة المتوقعة» قد غيّرت شكل لوحة الشطرنج الأُممية، وقد اتفق الجانبان على متابعتها. ومن الواضح أن اللعبة تصبح أكثر إيجابية إذا امتنعت واشنطن نهائياً عن الخيار العسكري ضد إيران، ولم يقلب «شمشون» الأميركي الطاولة على رؤوس المتحاورين لتبرير عجزه والشروع بلعبة جهنمية أخرى لا يستطيع أي محلل سياسي التنبؤ بعواقبها.