برلين ــ غسان أبو حمد
ما هي عقيدة «حزب الثماني»؟ طرحت السؤال على صديقي الدبلوماسي الألماني المشارك في تنظيم جدول أعمال قمة الدول الصناعية وترتيبه، فابتسم واكتفى بجواب سريع وبلغة فرنسية «من يوزّع... يأمر». وما سيجري اليوم في «هايليغندام» يندرج ببساطة في إطار «عولمة» جديدة، يرسمها الصناعيون الكبار بحرّية تامة، ويتقبّلها المستهلكون الصغار مجبرين، مغلفة بأوراق العيد المزيّنة بشعارات «العولمة»


الحقّ المكتسب للمالكين في صوغ «عولمة ترضي أسواقهم» ليس جديداً، بل هو يستمدّ شرعيته من حركة التاريخ العالمي، حيث تسود قاعدة «من يملك المال والسلاح يملك القرار»، وبالتالي يرسم حركة الأسواق ويقرّر مصير العالم ومستقبله وفق قواعد الاحتكار وزيادة الأرباح.
أما المستهلكون، وهم المادة الأساسية لصياغة «العولمة» الجديدة، فلا تملك غالبيتهم الساحقة على كوكب الأرض سوى «حقّ التنفيذ». إنهم محرومون من أبسط الحقوق الإنسانية، وهي هنا حقّ المشاركة في صوغ قرار «عولمتهم»، إن لم يكن مناصفة، وهذا مستحيل التطبيق، فعلى الأقل، بـ «الثلث الضامن»، وهو هنا، مشاركة رمزية لرجال الدين والمؤسسات الاجتماعية.
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي ترأس بلادها «الدورتين» (دورة رئاسة الاتحاد الأوروبي ودورة رئاسة اتحاد الصناعيين الكبار)، ردّت قبل أسبوعين طلباً لرفع عدد الدول الصناعية من ثماني دول إلى 13، مثلما رفضت مشاركة ممثلين عن رجال الدين والتنظيمات، خوفاً من تحوّل «الثلث الضامن» إلى «معطّل». وبذلك لم يعد أمام شعوب الأرض «المعولمة» سوى حق اللجوء إلى الشارع والاحتجاج.
«عالم أجمل وأفضل»
في الأهداف المعلنة، فإن قمة الدول الصناعية الثماني، التي تنعقد اليوم في «هايليغندام» الألمانية، تسعى إلى «عالم أجمل وأفضل»، فلماذا الاحتجاج؟ ولماذا الإجراءات الأمنية المشدّدة التي حوّلت مكان الاجتماع من منتجع سياحي جميل إلى قلعة محصّنة بجدران الأسمنت والأسلاك الشائكة وخاضعة لأعلى درجات الرقابة البرية والبحرية والجوية؟ لماذا، وممن يخاف قادة العالم الصناعي؟ من هم هؤلاء الثمانية «الكبار». وماذا يريدون؟
وأكثر من ذلك: إذا كان شعار القمة الرئيسي «نحو عالم أجمل وأفضل»، يحتوي مضمونه على هذه الدرجة الإنسانية العالية من اللمعة والبريق في أفعال التفضيل، فلماذا حركات الاحتجاج الشعبي تعمّ المدن الألمانية؟ لماذا التظاهرات وأعمال التخريب؟
وربما، أكثر من ذلك أيضاً، لماذا التشكيك الدائم بغاية القادة الصناعيين؟ هل فعلاً «أعمالهم حسنة، لكن سمعتهم سيئة»، كما يدافعون هم عن أنفسهم؟ ولماذا يستند المحلّلون السياسيون والمراقبون لسير التحوّلات الاجتماعية في تفسيرهم لحركة التاريخ إلى قاعدة «صراع المصالح»، حيث تزداد الهوة بين «كبار» يزدادون كبراً، و«صغار» يزدادون صغراً؟ لماذا هذه النظرة السوداوية المسبقة إلى هذا النوع من القمم وتجريد مقرّراتها من القيم الإنسانية والتعامل معها باستمرار، انطلاقاً من قاعدة «حوار العقارب والحفاة؟».
ولماذا لا ينظر المحلّلون السياسيون بموضوعية إلى حجم التحديات التي تواجه الدول الصناعية، فيكتفون بالنظر إلى «النصف الفارغ» من الكوب، عوضاً عن تحليل حجم التحديات التي قامت الدول الصناعية بتحجيمها والقضاء عليها؟ وهل من الجائز، التشكيك دوماً واعتبار الأنشطة الاقتصادية والمساعدات التي تقدمها الدول الصناعية الكبرى للإنسانية، سواء في مجالات مكافحة الأمراض ووقف النزوح والهجرات السكانية أو في مجالات الفقر والعوز، بأنها أنشطة «كلامية إعلانية؟».
جدول الأعمال
يستند جدول أعمال قمة مجموعة الثماني إلى مجموعة عناوين تطال أبرز المشاكل التي يعانيها العالم، ومنها ملف سلامة البيئة في الدول الصناعية ومدى تأثيرها على الطبيعة والكائنات الحيّة، وملف تغييرات المناخ وانعكاسها السلبي على صحّة الإنسان وتشويه بعض الحيوانات وانقراضها، والهجرة والنزوح الإنساني من مكان إلى آخر، بالإضافة إلى ملف حالات الفقر والاستبداد والقمع في بعض الدول.
وكانت هذه العناوين مدار بحث وتحليلات علمية مخبرية وميدانية مطوّلة، وهي خلصت إلى نتائج، من المتوقع، في حال حسن نيات قادة الدول الصناعية المؤتمرين، أن تساهم في التخفيف من حجم ونسبة المشاكل التي تعترض الإنسان ويتعرض لها كوكب الأرض.
وكان وزير الصناعة الألماني فرانز مونتيرفيرينغ، قد رفع شعاراً برّاقا للواجب الألماني هو «النمو والمسؤولية». ومهّد لانعقاد قمة «الكبار» في مدينة «هايلينغدام» بوضعها في إطار إنساني جميل تضمنته كلمة الترحيب بنظرائه وزراء خارجية الدول الصناعية الذين التقوا في قمة تحضيرية مصغّرة في مدينة دريسدن: «العولمة ليست فقط جنياً للإرباح، بل هي واجب ومسؤولية اجتماعية ملقاة على كاهل الدول الكبرى والمطلوب من الدول الصناعية تحملها».
حاضرون وغائبون
الجديد اللافت للنظر في قمة الصناعيين هو طبيعة وهوية المشاركين فيها والغائبين عنها. إنها المرة الأولى التي يشارك في أعمالها البنك الدولي إلى جانب ممثلين عن المفوضية الأوروبية ومنظمة العمل الدولية ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وتأتي هذه المشاركة تحت عناوين متعددة، منها «إيجاد المزيد من فرص العمل وتحسين نظم الحماية الاجتماعية في الدول النامية».
والملاحظة الأخرى تكمن في غياب دولة الصين، صاحبة الإطلالة البارزة على عالم المال والأعمال، وهذا الأمر ثغرة في بنيان إجراءات المكافحة لصون البيئة والمناخ، حيث تعدّ الصين في طليعة الدول المسؤولة عن تلوث البيئة والمناح.
مكافحة الفقر في أفريقيا
ملفا «مكافحة الفقر في أفريقيا» و«دليل العمل الاقتصادي»، سيكونان في طليعة الملفات الأساسية المدرجة في جدول أعمال قمة «الكبار». وتولي الرئاسة الألمانية عناوين هذه الملفات والدراسات، عناية خاصة في برامج تسويقها الإعلامي والإعلاني للقمة. وينظر المحللون السياسيون إلى عناوين هذه الملفات على أنها محاولة ذكية من جانب الرئاسة الألمانية، فما من شأن إنساني أكثر أهمية، في هذه المرحلة، من ملف مكافحة الفقر والعوز في القارة الأفريقية ووقف حركات النزوح واللجوء البشري.. وما من استراتيجية اقتصادية أسمى وأرقى من تلك الملتزمة بقيم النمو والتقدم استناداً إلى قواعد العدالة والمساواة.
وفي سياق البرمجة العملية للاستراتيجية الألمانية تجاه مكافحة الفقر والجوع والنزوح السكاني داخل القارة الأفريقية، فإن الرئاسة الألمانية الحالية تطالب الدول الأفريقية بتنمية الهياكل التي تُسهّل الاستثمارات الخاصة، وفي طليعة هذه الهياكل، المزيد من الديموقراطية والقليل من الفساد والمزيد من المسؤولية الذاتية والسيادة في ما يتعلق بالمواد الخام.
شعارات جذابة، لكنها، بكل تأكيد، شعارات تحدّ لأوضاع الأفارقة، صعبة الفهم ومعقدة التطبيق. وفي أسهل الأحوال، تتطلب لنجاحها ووضعها حيّز التطبيق العملي مساعدة الخبراء الأوروبيين.
وتطالب دراسات وزارة الصناعة الألمانية حول التنمية الاقتصادية في القارة الأفريقية، بضرورة مكافحة الفقر والأمراض. أما الترجمة العملية لهذه الشعارات، فتكون عبر السعي إلى توسيع علاقات الدول الصناعية الثماني الكبرى مع أفريقيا كي تتحول هذه القارة إلى شريك في عملية «إصلاح ذاتها».
استراتيجية «إنسانية»
أما على صعيد استراتيجية النشاط والعمل الإقتصادي المستقبلي للدول الصناعية الكبرى، فتستند الدراسات التي أعدّتها وزارة الصناعة الألمانية إلى القواعد والأسس الآتية:
ــ استحداث قوى دفع جديدة في تبادل الاستراتيجيات لتنمية الخلل العالمي في مجال الاقتصاد الكلي.
ــــــ التفاوض بشأن إجراءات لتحسين استقرار وشفافية أسواق المال وأسواق رأس المال.
ــــــ اعتراف الدول الصناعية الثماني الكبرى بحرية الاستثمار في الدول الصناعية والدول في مرحلة الانطلاق الاقتصادي.
ــــــ طرح شروط استثمار أخرى للمناقشة ومعالجة الأبعاد الاجتماعية للعولمة.
ــــــ إجراء حوار حول الأهمية الجوهرية للإبداعات في المجتمعات القائمة على المعرفة وتعزيز الجهود لحماية الملكية الفكرية.
ــــــ الاتفاق حول إجراءات لتحسين كفاءة الطاقة ولتوسيع الطاقات المتجددة ولحماية البيئة والمناخ عالمياً.
- استحداث قوى دفع جديدة للتعامل المتّسم بالمسؤولية والشفافية مع المواد الخام.
وبالإضافة إلى هذه الأسس، تفرض الاستراتيجية الاقتصادية الألمانية شروطاً وواجبات تقع على الشركات الدولية أيضاً ومنها، واجب سعي هذه الشركات بإتجاه عولمة، أكثر مراعاةً للنواحي الاجتماعية. ورغم أن مراقبة حماية حقوق الانسان وقيم العمل هي من واجبات الدولة في المقام الأول، فبإمكان الشركات أن تقوم طواعيةً بمهام أكثر مما هو منصوص عليه قانوناً من خلال المراقبة الذاتية.
ملف الهجرة
الهجرة خاصية إنسانية سكانية تتمثّل في الانتقال من مكان إلى آخر إما بحثاً عن حياة أفضل أو هروباً من وضع سيئ. هذه الخاصية الديموغرافية يمكن أن يكون لها مردود اقتصادية إيجابي كبير، سواء على المجتمعات المُهاجَر منها أو المُهاجَر إليها، بما في ذلك نقل المهارات وإثراء الثقافات.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن عدد المهاجرين في العالم وصل إلى حدود 200 مليون شخص. لكن بقدر ما يسهم المهاجرون في بناء المجتمعات المستضيفة، بقدر ما يمثل ذلك خسارة موارد بشرية للدول المُهاجَر منها أي ما يعرف بهجرة العقول والكفاءات. كذلك فإن الهجرة قد تسبب في إيجاد توترات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية في البلدان المُهاجَر إليها. وهو ما جعل موضوع الهجرة الدولية ينتقل إلى صدارة الاهتمامات الوطنية والدولية. وأصبحت الهجرة الوافدة من المسائل المقلقة في عدد متزايد من البلدان، الأمر الذي حدا بهذه البلدان، ولاسيما في السنوات الأخيرة، إلى تشديد الإجراءات تجاه المهاجرين إليها وطالبي حق اللجوء. وفي هذا السياق، تؤدي الدول الصناعية الكبرى سياسة انتقائية، حيث تمارس الإغراء لتوطين الكفاءة العلمية الأجنبية اللاجئة إليها من دول العالم الثالث والأدنى منه، وتمارس أعمال الترحيل والإبعاد، تحت شعارات «إنسانية» كاذبة، ليس أقلها الغيرة الكاذبة على سلامة الدول الأخرى وعدم السعي لإفراغها من سكانها.
ويلفت ملف الهجرة والنزوح السكاني المعروض على طاولة النقاش في القمة إلى احتمال تزايد أهمية ظاهرة حركات الهجرة الكبيرة المستمرة على خلفية العولمة والتطورات الديموغرافية في أنحاء متفرقة من العالم، حيث ستتحول الهجرة إلى مشكلة بالنسبة لتماسك وأمن المجتمعات التي تستقبل مهاجرين في حال فشل عملية الاندماج.
وفي الحلول المعروضة على طاولة النقاش الرهان على توليد وإعادة إحياء الرغبة لدى المهاجرين للعودة إلى أوطانهم، وهنا تقع على عاتق المهاجر أو اللاجىء بذل بعض الجهد الذي يساعده على الإندماج في المجتمعات الغريبة عنه والتي يقصدها، ويأتي في طليعة هذه الجهود، إتقانه لغة الدولة التي يرغب بالهجرة أو اللجوء إليها. والتعاون بين الدول التي يأتي منها المهاجرون أو تلك التي يمرون عبر أراضيها، وهذا يعني الارتباط الوثيق بين مشاريع التنمية ومشاريع سياسة الهجرة، ولكي تتم الإفادة مثلاً من المميزات الكامنة في عملية الهجرة والعودة، يمكن تقليص الهجرة غير الشرعية والحد من ظاهرة «هجرة العقول والكفاءات»، وهو ما سيدعم أيضاً التنمية في الدول التي يأتي منها المهاجرون.
التحديات والقطب المخفية
إن مجمل الدراسات الاقتصادية العلمية المتعلقة بمجالات الدعم للدول الأفريقية واستراتيجية العلاقات مع هذه الدول، سبق الإعلان عنها قبل أكثر من شهر، لكن لقاء وزارة خارجية الدول الصناعية الثماني في مدينة بوتسدام في نهاية شهر أيار الماضي، هو الذي يمسك بزمام الأمور وغربلة الملفات. وانطلاقاً من الارتباط الوثيق بين السياسة والاقتصاد، فإن النقاش حول بعض الملفات الحساسة، ومنها ملفات العلاقة مع إيران وكوسوفو والشرق الأوسط وأفغانستان وكوريا الشمالية والسودان، يتسم بطابع السرية، وما يصدر من أقاويل وتمنيات أو توقعات حولها، لا يشكل دليلاً يمكن الاستناد إليه. أما السبب فيعود إلى ارتباط هذه الملفات بملفات امنية وعسكرية تتسم بطابع السرية المطلقة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن العادة قضت، ومنذ عام 1998، بأن يرسم وزراء خارجية الدول الصناعية الكبرى، وبمعزل عن مشاركة رؤساء الدول ورؤساء الحكومات في الدول الصناعية، حلولاً لبعض قضايا النزاع في العالم، استناداً إلى «سلاح المساعدات المالية والاقتصادية»، ويطلق على هذا السلاح «تحبّباً» اسم سلاح الدعم والمساعدات، وتستند قاعدته إلى هزّ عصا التجويع في وجه «الدول المتمردة» على ما يعرف بالإرادة الدولية. وقد أثبت هذا السلاح فاعليته في ضبط الكثير من الدول وحركات التحرّر، وخصوصاً في المناطق العربية والأفريقية منها، وعودتها إلى «الحظيرة الدولية».
انتقادات فاضحة
يتطرّق المحللون السياسيون الألمان إلى بعض «الثغر الفاضحة» في طريقة عمل الدول الصناعية الكبرى، وبالإضافة إلى نعتها بقمة الأغنياء التي تزيد «الكبار» كبراً، و«الصغار» صغراً، أو نعتها بقمة «أرباب العمل»، ووصف نشاطها بأنه احتكاري يسعى لخدمة مصالحها الذاتية وزيادة أرباحها، بعيداً عن شعارات العدالة والمساواة. ويؤكد رئيس الكتلة اليسارية في البرلمان الألماني أوسكار لافونتين، أن الشعار الذي ترفعه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وهو «تحقيق الفوز في لعبة المنافسة في السوق العالمية»، سوف يقود الملايين في العالم إلى الجوع والحرمان.
ويضيف النائب لافونتين: «إن الفرق ما بين لعبة كرة القدم والعولمة يتمثل في أن الأولى لديها قواعد واضحة بينما تأتي نتائج الثانية على حساب الضعفاء. إن الكثير من الناس يعون خطر ذلك ويتظاهرون ضد الوضع القائم، لكن المشكلة تكمن في عدم استجابة المسؤولين لنداءات الاحتجاج، وبدلاً من هذه الاستجابة، تراهم يحيطون أنفسهم بشريط شائك يعزلهم عما يجري حولهم».