أربيل ــ وائل عبد الفتاح
البحر هو مشكلة أكراد العراق. يعرفون جيداً أنهم محاصرون من 4 دول تدرك كل منها أن انفصال دولة كردية في العراق يعني تحريك بركان حلم قديم جداً بدولة كردستان الكبيرة

  • «عقلانية الانفصال والتفتيت» ومخاوف العدوى إلى دول الجوار

    حلم «الدولة» لا يموت بالزمن أو بالمذابح. فالأكراد هم ضحايا الجغرافيا والتاريخ. والحلم السياسي للضحية يكتسب قوة بمرور الزمن. تمنحه الدماء شرعية اكبر. تُصنع منه عقيدة «الحق التاريخي» الذي تتوارثه الأجيال مع ملامح الوجوه والصفات الشخصية واللغة وأساطير الطفولة الأولى.
    أشهر هذه الاساطير مكتوب في «شرفنامة»، أهم كتاب تاريخي كردي ألفه باللغة الفارسية الأمير شرف خان البدليسي. تحدث في خلاله عن الطاغية «زوهاك» (وتعني الضحاك). ويروي الكتاب أن هذا الطاغية «كان مصاباً بمرض غريب، فقد نبتت على كتفيه زائدة غريبة في شكل أفعى ولم يستطع أشهر أطباء عصره شفاءه. فنصحه ابليس باستعمال مرهم مركّب من مخ رجال في عمر الشباب ليخفف من حدة آلامه. وهكذا كان الطاغية يأمر بذبح شابين كل يوم لهذا الغرض. لكن الجلاد الذي عهد اليه تنفيذ الذبح يومياً كان رؤوفاً، فكان يكتفي بذبح واحد فقط ويترك الثاني ليهرب سراً الى مناطق جبلية نائية لا يمكن الوصول اليها بسهولة. وبمرور الزمن، تزايد عدد الفارين وتكاثروا حتى كوّنوا شعباً، هو سلف الشعب الكردي، امتهن الزراعة وتربية المواشي».
    هذه الأسطورة، بحسب المستشرق الروسي باسيلي نيكتين، صاحب كتاب «الكرد»، تعبّر عن صورة الاكراد عن أنفسهم. وهي صورة تتقدمها البسالة والشجاعة التي جعلت بعض المؤلفين العرب القدماء يتحدثون عنهم على أنهم «طائفة من الجنّ».
    وهي صورة قيد الاستمرار وإن بمصطلحات السياسة الحديثة؛ فالمأساة الكردية هي أكبر قصة طرد وملاحقة في التاريخ القريب. الهروب إلى الجبل كان الحل. والتجمّع في شتات القمم العليا كان المخرج الذي انتصر به الأكراد في الواقع، مثلما في الأسطورة.
    تذكار الانتصار القصير
    يرفع إقليم كردستان الآن علم جمهورية مهاباد، الدولة الكردية المستقلة الوحيدة في التاريخ الحديث. دولة قصيرة العمر (11 شهراً)، أنشئت بدعم سوفياتي لمواجهة تأييد شاه إيران لأميركا في 1946 وكانت تضم أكراد العراق وإيران.
    علم الجمهورية الكردية الوحيدة هو تذكار الانتصار القصير. إعلان مؤجل عن الدولة الواعية بحقائق الجغرافيا التي تضعها اسيرة الدول المجاورة.
    في لقاء مع الرئيس جلال الطالباني، تمّ الكشف عن الوعى بفكرة الحصار. قال: «لا يمكن أن تقام دولة كردية، لأنه ساعتها ستحاصرها من جميع الجهات اربع دول ترفضها وتخنقها. هذه حقائق نفهمها جيداً».
    وبدلاً من الدولة المحاصرة، تحركت الفكرة لتصبح «كردستان جزءاً من دولة العراق، والأكراد جزءاً من الشعب العراقي»، على حد تعبير الطالباني، الذي يقول «نريد تعميم تجربة إقليم كردستان في تحقيق الأمن، والتي تحققت بتوحيد القيادة صفوفها (في إشارة إلى توحيد الحزبين الكبيرين في كردستان بعد سقوط صدام حسين)». ويضيف «نريد أن نستعيد عراقاً اضاعته الدكتاتورية. إنه بلد غني يمتلك احتياطي نفط أكثر من أي دولة أخرى. كذلك فإن مدينة مثل مدينة الصدر تسبح على بحيرة من الغاز. هذه دولة تسلّمها صدام وفي مصرفها المركزي 64 مليار دولار، وتركها وهي مديونة بمئات المليارات، ولا حلّ أمامنا لاستعادة العراق الا بالأمن والاستقرار».
    هذه الإشارات تصدم القوميين العرب التقليديين، الذين يرون في حلم الأكراد خيانة لمشروع القومية العربية التي يرى الأكراد أنها فرضت الاندماج عليهم بالقوة، ولم تستوعب انهم «شركاء» يطالبون الآن بحقهم في إدارة الدولة بديلاً لحلم الدولة الكردية الصافية.
    المعارضون للطالباني يرون في كلامه على ارتباط الاكراد بالعراق «مجرد دعاية للاستهلاك الإعلامي»، فهو بالنسبة لهم «كان أحد الطرفين المتنازعين على حكم إقليم كردستان الذي حصل على الحكم الذاتي منذ سنة 1970. وبعد الغزو الأميركي، قرر الطالباني و(مسعود) البرزاني التوحد. ويبدو أن اميركا كانت وراء قرار الوحدة لأنها ضمنت للطالباني رئاسة العراق. وتفرغ للدولة المركزية، بينما كان نصيب البرزاني الداخل وحكم الاقليم». «إنهم يحكمون العراق. وهذه كانت نبوءة قديمة عمرها أكثر من نصف قرن».
    النبوءة الألمانية
    صاحب النبوءة رحالة ألماني هو البروفسور ياساراك. قال عن الشعب الكردي، اثناء رحلاته الى المشرق العربي عام 1946: «ليس من المستغرب بالنسبة لهذا الشعب، الذي كان يعيش على تربية المواشي، القاسي، ذي الإرادة القوية، الذي يتمتع بروح واقعية وذكاء حادّ، أن يأخذ بزمام القيادة السياسية في العراق كله، رغم كونه أقل عدداً».
    «انتصار» ليس صدفة؛ فالأكراد الآن يحكمون العراق تقريباً، منهم الرئيس ووزير الخارجية (هوشيار زيباري)، وقواتهم (البشمركة) هي القوات الأكثر تنظيماً والأفضل تدريباً وتسليحاً في بلاد الرافدين. ولهم السطوة في تكوين «الموديل» السياسي لدولة العراق في المستقبل.
    يقيم الطالباني في منتجع عائلة صدام بالقرب من بحيرة دوكان. صاحب المعلومة كان يريد أن يقول إن ما جرى في العراق هو مجرّد عملية إحلال وتبديل. رئيس برئيس ومنتجع بمنتجع.
    الطالباني حكى عن منتجع صدام حسين حكاية أخرى تتعلق بحرمان الفلاحين الأكراد من المياه لريّ الاراضي الواسعة لمزرعة عائلة الرئيس السابق. الحرمان من الماء هو رعب الأكراد. وفي المقابل، فإن شعارهم هو «النفط مقابل الماء»، أي أن السيطرة على كركوك في دولة كردية ستضمن مقايضة النفط بالماء.
    توازن القوة الآن في مصلحة الأكراد، وهم يرتبون «الإقليم» ليقود «دولة» العراق الجديدة التي ستكون نموذج الدول في المنطقة: فدراليات تدفع القوميات المضطهدة إلى منصّات السلطة.
    الديباجة الاولى لمشروع دستور إقليم كردستان العراق تقول بالنص: «نحن شعب كردستان العراق الذي عانى الجور والظلم لعقود من حكم أنظمة دكتاتورية بالغة الغلو في مركزيتها».
    إنه دستور يبني شرعيته على «تاريخ التضحيات» وعلى «الحق الضائع» منذ أن أقرّت اتفاقية سيفر سنة 1920 حق تقرير المصير. وإنشاء كردستان المستقلة، وهو «حق» دافعت عنه كل التيارات السياسية من وقتها مروراً بالسبعينيات، مثلما قال عضو في الحزب الشيوعي العراقي، أشار إلى «أننا كنا مع حق الاكراد في تقرير مصيرهم من السبعينيات». كذلك كان جمال عبد الناصر (القطب المنافس في القومية العربية) مسانداً للقضية الكردية في إطار توازن بدأ أولاً في مواجهة حكومة نوري السعيد التابعة لأميركا.
    تعداد الأكراد كان وقتها 9 ملايين مقسمين بين 4 دول في منطقة ممتدة من البحر الاسود حتى الخليج العربي، بينهم مليون كردي في العراق، ارتفع اليوم إلى 4 ملايين، بعدما تحوّل العدو الأول من تركيا إلى جنرالات قومية البعث.
    الاكراد في العراق خارجون من حرب كقومية منتصرة، ويطالبون اليوم بحق الشراكة الكاملة في العراق على اعتبار أن الاكراد والعرب هم القوميتان الكبيرتان في هذا البلد، بحسب ما تقول ديباجة الدستور الذي ينص على أن كردستان إقليم «اتحادي ضمن دولة العراق الاتحادية. نظامه الأساسي جمهوري برلماني ديموقراطي يعتمد التعددية السياسية وتداول السلطات سلمياً ومبدأ الفصل في السلطات».
    الاكراد يفككون بانتصارهم الدولة القديمة. تفكيك من الممكن أن ينقل العراق الى منطقة اخرى أو يجعله دولة طوائف كلاسيكية. من هنا تتفجر عناصر التوتر بين الاقليم والمركز على مزاج طائفي. مسؤولون في حزب البرزاني يرون أن حكومة نوري المالكي الحالية «زينة»، أي جيدة مقارنة بحكومة ابراهيم الجعفري.
    الخلاف والطلبات
    ما هو موضوع الخلاف؟ يقول مسؤولون في الحكومة الكردية إن «المشاكل تكون في تفسير البنود، مثلاً في موضوع النفط الخلاف على كيف نقسم واردات النفط. وهناك الآن مفاوضات حول مشروع قانون النفط بين أعضاء من الحكومة المركزية وأعضاء من حكومة الإقليم».
    ما هي طلبات حكومة الإقليم؟ يريد الأكراد حصةً من واردات النفط. والخلاف الآن على الحصة.
    يحصل الإقليم على 17 في المئة من واردات العراق كلها، يصرف منها على الخدمات وتستهلك المرتبات وحدها 66 في المئة من هذه الحصة.
    عزلة الأكراد
    يعترف الطالباني بدولة الحصص الطائفية. يقول إن «البرلمان والحكومة بأشكالهما الطائفية هما نتاج الواقع العراقي». ويضيف «نحن في العراق متخندقون عنصرياً وطائفياً. وهذا ليس شيئاً صحياً. أعرف أن الطائفة موجودة، لكن الطائفية مقيتة. ولا بد من بداية الطريق لإنهاء التطرف والإرهاب. وهذا ما يجعلنا نسعى إلى تكوين حلف المعتدلين العرب. كذلك فإنني في خطاب إلى حزب الدعوة دعوتهم الى جبهة وطنية ترتفع من فكر الطوائف إلى المستوى العراقي الوطني».
    وكشف الطالباني أن صوغ الدستور العراقي يجري بطريقة التوازنات: «يصر البعض على اقرار أن الاسلام هو المرجعية، فنوافق على ان نضع مادة تقول إن القوانين لا ينبغي أن تخالف القواعد الديموقراطية». وهكذا يبدو الاكراد في دولة الطوائف المنتقمة هم اصحاب الجانب العقلاني، مقارنة مع امراء الحرب الخارجين من الكتل السنية والشيعية. لكنها عقلانية الانفصال وتفتيت الدولة، مثلما تتهمها التيارات القومية التي تنظر للأكراد على أنهم عملاء للأميركيين.
    لكن الطالباني يردّ على هذه الاتهامات بتساؤل «من قال إن العراق كان موحداً في العصر السابق؟ نحن كنا منفصلين تماماً. الأكراد كانوا معزولين عن العراق ايام صدام. الآن عادوا الى العراق. وعندما قابلت طارق عزيز قال لي: في كركوك لكم حق واحد، هو أن تبكوا. فقلت له: الحمد لله. فتعجب، وشرحت له: لقد كان هناك 10 ملايين شيعي محرومون في عهدكم من حق البكاء».
    الرعب من الحلم
    في الطريق إلى أربيل، هناك معسكر للأكراد الثائرين على ايران (غير مسموح لهم بعمليات عبر الحدود)، إلا انهم يعلنون وجودهم من خلال 3 إذاعات، بعدما كانت اذاعة واحدة ايام صدام.
    وهذه احدى العلامات التي تبث الرعب في المنطقة كلها من أن يكون إقليم كردستان العراق هو «الحضّانة الانفصالية» في المثلث الحدودي (تركيا وسوريا وايران) أولاً، ثم تنتقل العدوى إلى باقي الشرق الاوسط الذي يعيش على شفا حرب اهلية دائمة تهدّد بانفجاره إلى شظايا دول.
    لكن العقلانية الكردية حتى الآن، تتحرك بإيقاع هادئ يجعلها تحتفظ بأوراق القوة، وترسم في الوقت نفسه طريق الوجود الطبيعي مع الجيران العرب والايرانيين والاتراك، بتنويعات تعتمد أوّلاً على الشراكة ومع الايرانيين بامتداد التاريخ على اعتبار أن اصل الاكراد يلتقي مع الايرانيين في «الهندو أوروبي»، وأخيراً مع الاتراك لكونهم اصحاب المذبحة الكبرى التي يمكن مقايضة الانتقام منها بالسلام في اقليم كردستان العراق.
    يسير الاكراد فى العراق على حبل أسفله نار سائلة. وهو ما يجعلهم حذرين في الحركة. وبعدما كانت الآمال تتعلق بهم باتجاه تحقيق «علمانية» لدولة العراق الجديدة، اكتفى الاكراد بإقرار الحرية الدينية ونسبة 25 في المئة من مقاعد البرلمان في الاقليم والمركز من حق المرأة. ويروج شعار في كردستان العراق أنهم «مجتمع اسلامي لكنهم ليسوا دولة اسلامية».


    نكات الرئيس
    «سأقول لكم نكتة» والحقيقة أنها لم تكن نكتة واحدة. فالرئيس جلال الطالباني ماهر في تغيير الصور. يعرف أنه سيواجَه بأسئلة عن التحالفات في العراق، فيحكي عن واقعة له مع احد زعماء الشيعة عندما زار بيته فوجد صوراً كثيرة لآل البيت، فمال عليه وقال له: «كل هؤلاء اصحاب البيت، هل تسكن بالإيجار؟».
    وروى نكتة ثانية ساخراً من نفسه وممن يقولون إنه بارع في اللغة العربية. قال انهم مرة سألوه: «كم سورة في القرآن»، فرد بتلقائية سريعة «ولا واحدة. القرآن كله خطوط».