بغداد ــ الأخبار
يتساءل كثيرون: كيف يعيش العراقيون الآن في بلاد الرافدين؟ لكن هذا التساؤل يواجَه بتساؤلات: ومن قال إن الذين يعيشون في العراق هم على قيد الحياة بالفعل، أم هم موتى مع وقف التنفيذ، أو موتى تسنّى لهم أن يسيروا في شوارع ويقيموا في بيوت، إن كانت تسمية شوارع وبيوت صحيحة، وتنطبق على ما هو موجود في العراق، وفي العاصمة بغداد بالذات

  • عراقيّــون يمضــون أيّامهــم بين التفجيــرات... والجثــث


  • واقع مرير يعيشه العراقيون، كلّ يعبّر عنه بطريقته، وإن كانت الفكرة المشتركة واحدة: الموت أصبح عادة، والكل يترقب منيّته بين لحظة وأخرى. ما عاد للحياة طعم في العراق، وبغداد خصوصاً. يحاول العراقيون أن يقتنصوا الأيام من الموت المتفشي في المدن. خداع الموت بات اللعبة المفضلة للجميع، يخوضونها يوماً، فمنهم من يفلت بيومه حياً، وكثيرون آخرون يقعون في الشرك المميت.
    ويقول المدرّس سالم عبد الله: «نحن هنا في مكان كان اسمه العراق. وفي كلمات عمارية متقاطعة كان اسمها بغداد. كل الدموع لن تغسل ما فيها من حزن وألم وضياع. قد يتصور البعض أننا بلا إحساس، وقد يكون هذا التصور صحيحاً إلى حد بعيد، لأننا اعتدنا على الموت، اعتدنا أن نرى الجثث في الشوارع والأزقة، وأن يموت لنا في كل يوم صديق أو قريب. الموت صار من الأشياء المألوفة، والبكاء لم يعد يعرف إلى العيون سبيلاً. فقد نفدت الدموع منذ زمن بعيد... بعيد جداً، السنوات القليلة التي مضت تعادل عقوداً بما حملته من مكابدة وجراح تتراكم فوق جراح».
    ويضيف سالم: «بغداد عاصمة الدنيا، أصبحت بلا بغداد، وقد هجرها من تمكن من الإفلات، أما الذين ليس في مقدورهم الرحيل، فما عليهم إلا أن يتأقلموا، ويكيّفوا حياتهم مع الواقع المرير الذي جلبه الاحتلال والمستقدمون معه».
    استهداف الشغيلة
    الواقع المأسوي نفسه يعبّر عنه عامل البناء رشيد صلاح الدين بشكل آخر، مليء أيضاً بالحسرة والسوداوية. ويقول: «من عادة عامل البناء أن يستيقظ في وقت مبكّر جداً، ويخرج طالباً العمل والرزق. الآن، لايجرؤ أحد على الخروج من منزله مع الفجر، كما كنا في السابق، إذ لا نعرف مَن وما يترصدنا في الطريق. وأصحاب السيارات التي تنقل العمال والموظفين ينتظرون أن تزداد الحركة النسبية في الشارع لكي يغادروا بيوتهم، ومع ذلك فاللقمة التي نحصل عليها كثيراً ما تكون مغمّسة بالدم».
    ويوضح صلاح الدين: «الذي يشتغل عاملاً في البناء، شأنه شأن معظم العمال، لا علاقة له بالطائفية ولا بالأحزاب السياسية أو الدينية الحالية، فلو كانت له هكذا علاقة لما اضطر للكدح من الصباح حتى العصر أو المساء، فتلك الجهات لو تماشى معها توفر له عملاً أفضل لما لها من مراكز نفوذ، أو تعطيه المال مقابل خدمات يؤديها». ويتابع: «عشرات، بل مئات المرات، تم استهداف تجمعات عمال البناء بالعبوات الناسفة والسيارات المفخخة، مع أن العمال لا علاقة لهم بالنزاعات الطائفية أو السياسية، فمن الذي يستهدفهم إذاً؟».
    ويجيب عن تساؤله، قائلاً: «الجهات التي تستهدفنا مشخّصة لدينا، إنها تعرف أننا نعيش من عملنا اليومي، فيوم بلا عمل، يعني يوماً بلا طعام ولا مدارس للأولاد ولا أياً من المستلزمات الضرورية الأخرى. وإذا تكررت الحالة يضطر البعض إلى طلب القوت بأي شكل من الأشكال كالانضمام إلى إحدى الميليشيات والجماعات المسلحة الأخرى، أو الالتحاق بالشرطة والجيش. فالغرض هو سحب العمال إلى النزاع الطائفي البغيض. ومن هنا نعرف من الذي يستهدف العمال، وشرائح أخرى عديدة».
    سذاجة المصدّقين
    ويقول المهندس الشاب طارق الحسني: «قررت مغادرة العراق، فلم أعد أطيق رؤية الجثث الملقاة في طريقي كل يوم. بل في بعض الأيام يأتي مسلحون بجماعة من الشباب إلى فسحة فارغة قرب بيتي، وينفذون فيهم حكم الإعدام. نستيقظ على زخات الرصاص، لنجد بعد ذلك العديد من القتلى غارقين بدمائهم».
    ويضيف الحسني: «هناك بعض السذّج، وأنا منهم، كنا نعتقد أن الحرب ستخلفها حركة بناء وإعمار، ولكن الذي حدث هو أن الحرب لم تجلب لحد الآن سوى الخراب المستمر والدمار ، وهي لا تزال مستمرة، ولا تلوح في الأفق نهاية لها، وكل الوعود التي قطعها المحتل وأتباعه مجرد أكاذيب. ولو كان لأولئك الذين أتوا مع المحتل هدف بنائي، لما وجدناهم يتسابقون على جني الغنائم وتهريبها إلى الخارج، كي يلحقوا بها في أسرع وقت طلباً للأمان، أو ليكونوا معارضين للوضع الحالي، كما كان يفعل المعارضون للنظام السابق. وهم الصنف نفسه».
    ويتابع الحسني: «الحركة المعمارية شبه متوقفة منذ أكثر من أربع سنوات، عن قصد، ودليل ذلك إيقاف عمل معامل الإسمنت الذي يعدّ الأعلى جودة في المنطقة كلها، وإنتاجه يفيض عن حاجة البلد، وهو مرغوب في دول الجوار والمنطقة». ويرى أن «هدف الاحتلال هو تدمير العراق، وكل بنيته التحتية، وأهم ما في بنيته التحتية الطاقة البشرية بما تمتلكه من كفاءات وخبرات وإتقان».
    مقارنة بسيطة
    ويقول سعدون طالب الدجيلي: «لم يبق من بغدادنا الحبيبة شيء. الكثيرون يتحدثون عن انعدام الأمن والأمان، ولكن الأخطر من ذلك، والذي يعد أهم عامل لفقدان الأمن والأمان، هو انعدام الخدمات الضرورية. من يتصور أن عاصمة العراق العريقة بغداد بلا كهرباء منذ أكثر من أربع سنوات. كيف يقاوم الناس حرارة الصيف اللاهب، بعد برودة الشتاء القارصة، والأنكى من ذلك ارتفاع أسعار الوقود بشكل خرافي، إن وُجد، ما يمنع المواطنين من استخدام المولدات الكهربائية المنزلية».
    ويضيف الدجيلي: «كان سعر ليتر البنزين في عهد النظام السابق عشرين ديناراً، وكان سعر الدولار آنذاك 2700 ــ 3000 دينار، أي كان سعر برميل البنزين يقارب الدولار ونصف الدولار. وهذا هو سعر الليتر الواحد من البنزين حالياً. ومع أن محطات الطاقة الكهربائية دُمّرت بالكامل في حرب 1991، كما دمرت مصافي النفط، إلا أن الكهرباء أعيدت تدريجاً، وأصبحت في السنوات الأخيرة قبل الحرب تغطي 20 ــ 22 ساعة يومياً في بغداد، في حين توفر البنزين وأنواع الوقود الأخرى بما يفيض عن الاحتياج الفعلي. وكانت أسعار الوقود والكهرباء رمزية حتى أنها لا تكاد تذكر. وكل ذلك في ظروف الحصار، ولا يخفى على أحد أن الحرب الأخيرة لم تستهدف أياً من محطات الكهرباء أو مصافي النفط، إلا أن الكهرباء وكل أنواع الوقود تبخرت في عتمة الاحتلال».
    الموت أهوَن
    وتقول ليلى محمد باقر (ربة بيت): «معاناتنا ليس لها مثيل في العالم. مسلسل القتل اليومي والخطف والاعتقالات العشوائية والتفجيرات والاشتباكات المسلحة، أصبح من الأمور الاعتيادية، وهو جزء من حياتنا اليومية. ولكن، في أحيان كثيرة نرى أن الموت أهون من الحياة التي نعيشها، بسبب اللهاث المستمر من أجل الحصول على المستلزمات الضرورية. فعندما نقول إن الطرق مقطّعة، فإن ذلك يعني عدم وصول المواد الغذائية والاستهلاكية. وقد أقفلت معظم المحال أبوابها، بسبب عدم توفر البضائع، أو بسبب القتل والتهديد بالقتل، وعمليات السطو في وضح النهار. ولا ندري ما الذي تفعله كل هذه المفارز والسيطرة في الشوارع، إن لم تكن هي مساهمة في ذلك».
    وتضيف باقر: «المسؤولون في الدولة مضحكون، يطلقون تصريحات رنانة عن تحسن الوضع الأمني وكأنهم ليسوا في العراق. وإذا كان الوضع الأمني قد تحسن، فما معنى خلوّ مناطق بغداد من المواد الغذائية، وتقطيع الشوارع والأزقة بهذا الشكل النشاز. حتى ان سيارة النفايات لم تأتِ، بل لا تستطيع اختراق الحواجز والوصول إلى شوارعنا التي اصبحت نتنة الرائحة بسبب تراكم النفايات. ألم يلاحظ المسؤولون أن حظر التجوال الذي من المقرر أن يبدأ في التاسعة مساء، يبدأ في الحقيقة قبل الغروب، وتكاد تكون شوارع بغداد مقفرة في الساعة السادسة أو السابعة، حيث يسارع المواطنون بالذهاب إلى بيوتهم، خشية مكائد الليل. وفي بيوتهم لا يستطيعون حتى قضاء بعض الوقت أمام شاشة التلفزيون، كما لا يعرفون طعماً للنوم بسبب الحرارة وانعدام الكهرباء، وربما قذائف الهاون والقذائف الصاروخية التي تطال الأحياء السكنية في كثير من الأحيان، ناهيك عن أن كل شيء متوقع في الليل، وربما أكثر من النهار، لأن البيوت كالشوارع، لم تعد هي الأخرى آمنة».


    كانتونات وأشلاء
    تبقى الهموم الحياتية هي الأصعب، وربما تفوق مثيلاتها في كل دول العالم المتخلّف. فبغداد الجميلة، أو التي كانت بغداد وكانت جميلة، تئنّ اليوم من قبح الشوارع المقطعة بكتل الأوساخ والكتل الإسمنتية والأسلاك الشائكة، وتقسيمها إلى كانتونات، وتقسيم الكانتونات إلى أشلاء، وتفتيت الأشلاء إلى رفات. وهذه هي المحنة.
    ويتساءل الموظف صبيح صائب السباهي: «لماذا يسموننا دولة أو مدينة أو حتى قرية؟
    عندما نخرج إلى الدوام صباحاً، نتوقع أن لا نصل في الوقت المحدد دائماً، فلا بد من تأخير يزيد على الساعة أو الساعتين، وربما اليوم كله، بسبب إغلاق الطرق والجسور ونقاط التفتيش والمفارز. أما إذا مرّت آليات أميركية، فلا يجوز الاقتراب منها مسافة نصف كيلومتر، وعندما تتوقف، لا تستطيع حتى سيارات الشرطة والجيش، والمسؤولون مواصلة السير إلى أن يتكرم السيد الأميركي ويتحرك من المكان الذي توقف فيه، ربما من دون أي سبب، سوى إذلال العراقيين».
    ويضيف السباهي: «عندما نصل إلى مكان العمل، لا نعرف من الذي يأتي ليختطفنا، ومتى، واذا انتهت ساعات الدوام بسلام، تباشرنا هموم العودة إلى منازلنا. وكثيراً ما نجد مناطق سكنانا مغلقة، فنضطر إلى المبيت عند أقرب بيت لنا معرفة بأصحابه». أما إذا كانت الأمور «سلسة»، «فعلينا الانتظار في طوابير لدخول المنطقة، التي حدد فيها منفذ واحد للدخول، وآخر للخروج، وبسعة سيارة واحدة، إضافة إلى نقاط التفتيش والسيطرات في الشوارع داخل المنطقة».
    ويستطرد السباهي: «ما يقال عن عمل دوائر الدولة مجرد أكاذيب. كيف يعمل الموظف بلا كهرباء ولا ماء، ولا حتى أبسط المستلزمات. وواقع الحال هو أن هناك تقييداًَ إجبارياً على الحركة، ما يجعلنا في شبه حالة حظر تجوال مستمرة».