برلين ــ غسان أبو حمد
معضلة الدستور الأوروبي هي العقبة الأساس التي تواجه القمة الأوروبية المقررة اليوم في بروكسيل، ولا سيما مع تصاعد الانتقادات والرفض لآلية التصويت في الاتحاد، وهو ما يهدّد القمة بالفشل

  • أسئلة كثيرة أمام قمّة بروكسيل اليوم... ولا أجوبة


  • تبدأ القمة الأوروبية اليوم أعمالها في بروكسل، وعلى جدول أعمالها أكثر النقاط حساسية وخلافاً بين مصالح الدول الأعضاء ورغبات الشعوب، والمقصود هنا، الاتفاق على مسودة مشروع «الدستور الأوروبي» ووضع أسس ومعايير للهجرة والنزوح والعمالة الأجنبية، وأيضاً لوقف أعمال التهريب والقرصنة التجارية عبر الحدود، بالإضافة إلى وضع أسس لتسهيل عملية اندماج الأجانب في بوتقة اجتماعية واحدة.
    جدول أعمال القمة الأوروبية حافل بالمواضيع الحساسة والشائكة، والتي مثّلت ولا تزال سلسلة من الخلافات الجوهرية بين الدول الأعضاء (27 دولة)، وفي طليعتها، الدستور الذي يحكم أسلوب العمل وانبثاق السلطات داخل هيكلية الاتحاد الأوروبي، وتالياً والأهم، تحديد «الهوية» الأوروبية ومعاني الانتماء و«الطرد»، وما يعني هذا الأمر من إشكاليات تتعلق بالانتماء الديني للمواطنين، وتالياً، تحديد الموقف من عضوية تركيا. هل تقبلها أوروبا لثقلها الاقتصادي وموقعها الاستراتيجي أم ترفضها لانتمائها الديني؟
    الدستور
    هل توضع الدساتير بهدف تنظيم «العمل البنّاء والخلاّق» داخل المؤسسات؟ أم هي، عبوات موقوتة، يجري الضغط على أزرار انفجارها، كلما دعت الحاجة إلى مشاريع تخريب و«فوضى خلاّقة»؟
    يقولون: لا شيء كالدساتير تكشف حقيقة واضعيها وغاياتهم. قبل نحو نصف قرن أدرك قادة أوروبا خطورة المنافسة داخل السوق الأوروبية الواحدة، فسارعوا إلى تنظيم «السوق الأوروبية المشتركة» وانتقلوا بعدها إلى الاتحاد الأوروبي. كانت الغاية في حينه محكومة بقيم المصلحة المشتركة. هذه القيم، دفعت الرئيس الفرنسي في حينه فاليري جيسكار ديستان إلى تخطي العقبات الشكلية ودعوة نظرائه القادة الأوروبيين إلى جلسة «شتوية حول المدفأة» تبحث فيها تركيبة «الاتحاد والتعاون» داخل أوروبا. يومها، كانت الغاية سامية تهدف إلى تدرج باتجاه الوحدة، عبر «الدردشة وشيّ الكستناء وتذوّق النبيذ» بعيداً عن المصالح والخصوصيات «الكيانية». هكذا ولد الدستور الأوروبي قبل نحو نصف قرن «ارتجالياً» تتحكم في مفاصله «الأخلاق والقيم»، فكان بحجم أخلاق صانعيه، لا بحجم مصالح أولادهم وأحفادهم. هذه «الفاتورة الصعبة والمعقدة» هي نقطة البحث المركزية على جدول أعمال «القمة الأوروبية». إنها نقطة «تجاذب وخلافات جوهرية» بين دول الاتحاد الأوروبي، الذي بدأ يطرح الأسئلة بشأن إطار «هويته». أي مواطن أوروبي نريد؟ هل ترتكز المواطنية «الأوروبية» على قواعد العدالة والمساواة بين الجميع؟ هل يتساوى «المنتجون» في الدول الأوروبية الكبرى «صناعياً» مع «المستهلكين» في الدول الأوروبية الكبرى «زراعياً»؟ وصولاً إلى السؤال المركزي: هل أوروبا للأوروبيين على مختلف انتماءاتهم الدينية والعرقية أم للمسيحيين «الشقر»؟
    الأكيد أن قمة الاتحاد الأوروبي لن تخرج بأجوبة واضحة لهذه الأسئلة، وسوف تبقى الأمور كما هي: موحدة شكلاً، عبر نشيد وطني، يرتكز على قصيدة «الفرح» التي نظمها الموسيقار اللامع «بيتهوفن»، وعبر علَم أزرق اللون تتراقص عليه نجوم ذهبية بعدد الدول الأعضاءوعلى الرغم من تصريحات التفاؤل «السياسي ـــ الإعلامي» التي أطلقها وزير الخارجية الألماني فرانك شتاينماير قبل أيام، إبان انعقاد اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي لإعداد جدول أعمال قمة القادة والرؤساء الأوروبيين، فإن المراقبين والمحللين السياسيين، في ألمانيا وحتى في أوروبا، يلتزمون القاعدة «الذهبية الخالدة» التي أطلقها سلفه، وزير الخارجية الألمانية السابق يوشكا فيشر «حتماً ستحصل أوروبا على دستور واضح. لكن بعد مئة عام».
    خطوات التدرّج
    وفي العودة إلى خطوات التدرج الأوروبي التاريخي بحثاً عن «الهوية»، تُذكر المساعي التي بذلها رئيس الجمهورية الألمانية السابق رومان هرتزوك، في خطوة أولى، في عام ألفين، عبر نشر «إعلان المبادئ والحقوق» لتحديد معاني «الحرية والمساواة» التي يسعى إليها المواطن الأوروبي. في حينه كانت، وظلّت هذه «المبادئ» توصف بـ «الحبر على ورق».
    أما خطوة التدرج الثانية، فتمثلت بوضع الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان، مسودة دستور أوروبي تضمنت في فترة رئاسته، بعض التوضيحات المبسطة لهيكلية الاتحاد وآلية عمله. وتم التركيز حينه على أن تكون لغة الدستور «لغة سهلة بعيدة تماماً عن لغة القانون ومصطلحاته المبهمة». كذلك كان الهدف الفرنسي من هذه الخطوة، إعداد وثيقة تتضمن جميع الاتفاقات الأوروبية التي تم التوصل إليها بين عامي 1957 و2001. وفي نهاية المطاف كان جيسكار ديستان راضياً عن الوثيقة التي تم التوصل إليها، وصرّح عندها قائلاً: «نحن نعتقد أن هذا الدستور أمر جيد بالنسبة لأوروبا ولمواطنيها». فما هي مرتكزات هذه الخطوة؟
    «دستور ديستان»
    إنها أول محاولة قانونية «فوضوية» سريعة لتحديد طرق العمل داخل الاتحاد الأوروبي ووسائله. ومثل كل المقدمات الدستورية في العالم، يبدأ «دستور ديستان» بتعداد الحقوق الأساسية للمواطن الأوروبي، لينتقل بعدها إلى شرح أهداف السياسة الأوروبية المشتركة في المجالات المالية والاقتصادية والأمنية. كذلك يتضمن هذا الدستور الأولي، توضيحاً مفصلاً لآلية عمل المؤسسات المختلفة مثل البرلمان والمفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي وطبيعة العلاقة فيما بينها. ومن الملاحظات اللافتة، كانت الإشارة إلى منصب وزير خارجية أوروبي يجري تعيينه مستقبلاً. وبالإضافة إلى ذلك، تتضمن هذه المسودة الدستورية «الديستانية» مواد وفقرات قانونية تنظم قواعد الانضمام إلى الاتحاد والخروج منه، وتشرح الحالات التي تترتب عليها مخالفة أحد الأعضاء للقواعد الأساسية لعمل الاتحاد، مثل حرمانه من حق التصويت، إلى غير ذلك من إجراءات عقابية.
    أعلنت حكومات الاتحاد الأوروبي، الواحدة تلو الأخرى، مباركتها لهذه الوثيقة «الفرنسية» الأوروبية. بعد ذلك بدأت مرحلة التصديق على الوثيقة من جميع دول الاتحاد. فكان لكل دولة الخيار في الطريقة التي ترغب من خلالها في المصادقة على الدستور. بعض الدول الأوروبية، ومنها ألمانيا مثلاً، وافقت على الدستور «الديستاني» عبر عرضه داخل البرلمان «البوندستاغ» على التصويت، بينما أعلنت دول أوروبية أخرى، ومنها إسبانيا، تأييدها وموافقتها عبر إجراء تصويت شعبي على هذا الدستور، بينما تعثّرت الموافقة على الدستور في دول أخرى، مثل فرنسا وهولندا وتشيكيا وبولندا. ولا تزال دول أوروبية أخرى ترجئ مواعيدها إلى «مستقبل مجهول» في رهان على دور للزمن.
    «الأمل»
    في العمل السياسي، لا مستحيلات، ومهما كانت الصعاب والعقد، فإن التشاؤم ممنوع، وهذا ما تطالب به جميع معاهد العلوم الدبلوماسية الراقية، إذ تصرّ على ترك «نافذة أمل مفتوحة»، حتى لو كانت هذه «النافذة» على طريقة وزير الخارجية السابق يوشكا فيشر: «الدستور الأوروبي بعد مئة عام».
    من هنا يمكن تلخيص الوعي السياسي الألماني لهذه المشكلة بالرهان على الوقت وعلى مخطط زمني جديد تشمله الحوارات الجانبية. ويقوم على قواعد «المصالح المشتركة» لا على قواعد «العناد القُطري».
    كيف الوصول إلى هذه الغاية، التي تُشعر نحو نصف مليون تركي يعيشون في ألمانيا بأنهم يتمتعون بالحقوق المواطنية الكاملة، وليس فقط بـ «الواجبات الأوروبية»؟
    كيف الوصول إلى هذه الغاية، التي تُشعر المواطنين المتفاعلين على الأرض الأوروبية، بأنهم «شخصية واحدة» ترسمها دورة الحياة الواحدة لا الانتماءات الدينية والمذهبية، وأنهم يتساوون في الغنم والغرم؟
    ثم هل تكون أوروبا للأوروبيين أم فقط للمسيحيين؟ يعني، هل يحق للمسلمين بناء مساجد والصلاة يوم الجمعة مثلما يحق للمسيحيين بصلاة يوم الأحد؟ وهل ترفع الحواجز «الدينية» من أمام انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي؟
    وما أسس التصويت على القرارات المتعلقة بالاستراتيجية الأوروبية المستقبلية، وبالتالي من يحق له اختيار موقع أوروبا في أسواق البورصة والمنافسة؟ هل يتساوى صوت «المزارع» البولوني أو اليوناني أو القبرصي مع صوت «الصناعي» الألماني أو الفرنسي أو البريطاني؟




    تساهل بولندي وتشدّد بريطاني برلين تقدّم معاهدة جديدة للدستور وقلل رئيس الوزراء البولندي ياروسلاف كاتشينسكي، من مخاوف من أن تعطل بلاده التوصل إلى اتفاق بشأن معاهدة جديدة تحل بدلاً من دستور الاتحاد الاوروبي الذي رفضه الناخبون الفرنسيون والهولنديون في عام 2005، قائلاً إن حضور شقيقه الرئيس البولندي ليخ كاتشينسكي القمة يعدّ لفتة مصالحة.
    وقال رئيس الوزراء البولندي لصحيفة «بيلد» الالمانية «كنت أنا الذي سأذهب (الى بروكسل) لو كان الأمر سينتهي باستخدام حق النقض (الفيتو) لأقول.. لا نوافق». وأضاف «كل ما نريده في الوقت الحالي هو السماح بمناقشة نظام التصويت»، مخففاً من الانطباع السائد بأن بلاده تريد تغييراً كاملاً في آلية اتخاذ القرار.
    وكان المستشار الدبلوماسي للرئيس البولندي مارك سيتشوكي، والمفاوض في هذه المسألة، قد ذكر امس، أن المانيا اعترفت رسمياً وللمرة الأولى، بأن اثنتين من دول الاتحاد الأوروبي (بولندا وتشيكيا) لديهما مشاكل بخصوص إصلاح مقترح لنظام التصويت في الاتحاد في تحرك وصفه بأنه خطوة مهمة.
    وقال دبلوماسي حضر اجتماعاً دام خمس ساعات عقده الممثلون الشخصيون لزعماء الاتحاد أول من أمس، إن لندن طلبت ألّا يرأس وزير خارجية الاتحاد الأوروبي المقترح الاجتماعات الشهرية لوزراء خارجية الدول الأعضاء.
    في هذه الاثناء، ذكرت تقارير أمس، أن حدة التوتر بين بريطانيا وشركائها في الاتحاد الأوروبي تزايدت في أعقاب اتهام وزيرة الخارجية البريطانية مارغريت بيكيت لزملائها بأنهم في حالة إنكار لحقيقة أنه لن يكون هناك دستور جديد للاتحاد الأوروبي.
    وقالت التقارير إن بيكيت أبلغت لجنة برلمانية بريطانية، أن إمكان تحقيق هدف الرئاسة الألمانية للاتحاد الأوروبي بالاتفاق على تفويض بعقد مؤتمر بين الحكومات يستمر ستة أشهر، يؤدي إلى توقيع معاهدة قبل نهاية هذا العام سيكون أمراً صعباً للغاية.
    وقالت بيكيت إنها شعرت بالإحباط حيال عدم إجراء مفاوضات تفصيلية قبل قمة الاتحاد اليوم. وأضافت أن بريطانيا لن تكون مستعدة للتوقيع على أي معاهدة تنتهك «الخطوط الحمر» التي حددها رئيس الوزراء طوني بلير.
    اما الرئاسة الألمانية للاتحاد الأوروبي، فقد رفضت من جهتها، الانتقادات الموجهة للإعداد للقمة في بروكسل، ووصفتها بعبارة «لا يمكن فهمها».
    وناقش ممثلو قادة الدول الـ 27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي للمرة الأولى مساء الثلاثاء مقترحاً كاملاً قدمته الرئاسة الالمانية بشأن معاهدة جديدة لتحل محل الدستور. ويقضي النص الذي يقع في عشر صفحات، بالدعوة الى مؤتمر للحكومات الأوروبية من أجل صوغ المعاهدة الجديدة.
    (رويترز، د ب أ، ا ف ب)