برلين ــ الأخبار
الهويّة الأوروبيّة: مصلحة وأسواق... أم أعراق وأديان؟
قضيّــة عضويّــة تركيــا تُظهــر صعوبــة «المســار والمصيــر» في تحديــدهــا


ماذا تعني أوروبا؟ هل هي هوية جغرافية أم دينية أم عرقية؟ وأي تسمية سيعتمدها الدستور الأوروبي في تحديده للهوية الروحية والثقافية؟ وهل تقبل «الشعوب» الأوروبية، التي زحفت تحت شعار «الصليب» وبألويتها العسكرية المدجّجة بالسلاح لاحتلال محيطها، غطاء دينياً روحياً «منافساً»، يتساوى معها في الامتيازات وفي الحقوق والمكاسب والمغانم؟
باختصار، هل يمكن التصريح ببناء المساجد الإسلامية على الأراضي الأوروبية، وبتصريح وشرعنة صلاة الجمعة في وسائل الإعلام مثل صلاة الأحد؟ وهل يمكن توسيع الحصص الدينية في المدارس، لا بل شرعنة وسائل دفن الأموات وطرقه «المنوّعة» بحسب خصوصية التقاليد الدينية؟ وأكثر: هل يحصل الأوروبيون، ومعهم «الفاتيكان»، على أيام عطل رسمية في المناسبات الدينية الإسلامية؟
هذه الأسئلة المحيّرة، تتعلق بتحديد الهوية الأوروبية، وبالتالي، لا بدّ للدستور الأوروبي المقترح من تقديم أجوبة محددة، ليس سهلاً التطرق إليها. لا بل هي محطة خلافات مركزية راهنة تعيشها ألمانيا في الدرجة الأولى. ولا تملك أجوبة حاسمة لها.
ما هي شروط الانتماء إلى أوروبا ومعاييره؟ وأكثر من ذلك، ما هو الموقف من طلب تركيا الانضمام إلى أوروبا؟ هذه هي بعض الأسئلة الحساسة التي تتضمن «قطَباً مخفية» يعاني من متاعبها الدستور الألماني، والتي يتهرّب من الإجابة عنها «الرسميون» خجلاً، بينما لا تخجل عامة الناس من التصريح والتصويت علناً ضد انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بسبب هويتها الدينية. ولماذا تهرب بعض الدول الأوروبية من مناقشة موضوعة انضمام تركيا، وتكتفي ببدعة تسميتها بـ «الشريك المميز؟»
هذا المأزق «المركزي» عاشته وتعيشه ألمانيا هذا الشهر. وقد بدأت حركات الاعتصام والتمرّد في صفوف نصف مليون مواطن تركي مسلم، يقيمون في ألمانيا، لا بل يؤلفون أحياء مغلقة في بعض المدن الكبرى، تحمل أسماءهم وتقاليدهم وعاداتهم.
قد تحمل قضية عضوية تركيا إلى الاتحاد الأوروبي بعضاً من صعوبة «المسار والمصير» في تحديد هوية الصرح الأوروبي.
«الشريك المميّز»
يفتخر الحزب المسيحي الديموقراطي الألماني باختراعه صفة «الشريك المميز» لتحديد موقع تركيا بالنسبة للاتحاد الأوروبي ويطالب ببدء المحادثات والحوار مع القيادة التركية من هذا المنطلق. هذا الموقف كان وزير الخارجية الألمانية السابق يوشكا فيشر يرفضه ويحذّر منه، ويطالب في المقابل بمنح الاتراك أملاً وتصوراً بأن يكونوا، يوماً ما، جزءاً من اوروبا، على اعتبار أن «الأمل في العضوية» سيؤدي إلى قيام تركيا ديموقراطية ومتطورة.
أما في تركيا، فهناك الكثير من الأصوات التي تتحدث عن لعبة دبلوماسية من الاتحاد الأوروبي بالتعامل مع بلادهم. وحسب رأي الكثير من المحلّلين السياسيين الأتراك، فإن الاتحاد الأوروبي يكيل من خلال هذه السياسة بمكيالين: إنه من ناحية أولى، يغامر على المدى البعيد بثقة الأتراك، لكن لا شيء يؤكد أن السحر لن ينقلب على الساحر عندما يفقد الأتراك مع الوقت حماستهم ورغبتهم في أن يصبحوا عضواً كامل الحقوق في الاتحاد الاوروبي.
تركيا رضخت، لكن المفوضية الأوروبية أصدرت في 6 تشرين الأول 2004 في بروكسيل توصيتها الداعية إلى تحديد موعد لبدء المفاوضات مع تركيا بهدف إعدادها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وفي ضوء ذلك، وافق قادة دول الاتحاد الأوروبي وحكوماته على تحديد عام 2005 منطلقاً لبدء تلك المفاوضات. هكذا كان برنامج «التفاوض» الأوروبي مع تركيا. والتأجيل متواصل حتى الآن وسيستمر متواصلاً.
وإلى جانب بحث الشروط والقواعد الاقتصادية المطلوبة لانضمام تركيا إلى أوروبا، كانت بعض «القطب السياسية المخفية» تؤدي دورها وتدفع بتركيا نحو الانضمام، ومنها تراجع البرلمان التركي عن قراره اعتبار «الزنى» جريمة يعاقب عليها القانون، ونجاح تركيا في الاقتراب من الشروط السياسية التي حددتها «قمة كوبنهاغن» عام 2002 بشأن شروط بدء المفاوضات، وفي طليعتها «توافر نظام ديموقراطي وتحقيق دولة المؤسسات والقانون وضمان حقوق الإنسان والأقليات».
وفي العودة إلى بعض الدراسات الاستراتيجية التي تصدرها معاهد أوروبية، وفي الحديث عن المصالح والأسواق، يتبيّن أن الاتحاد الأوروبي يستفيد «استراتيجياً» من عضوية تركيا أكثر مما تستفيد هي منه. إن تركيا تقع بجوار أغنى منطقتين نفطيتين في العالم هما الخليج العربي وبحر قزوين، ولذا فهي جسر العبور السياسي والثقافي الأوروبي إلى العالم الإسلامي. لكن في المقابل، تشير الدراسات إلى أن عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي بإمكانها أن تغيّر وجه الاتحاد. إنها الدولة الوحيدة في الوسط الأوروبي التي تعتنق غالبية سكانها الديانة الإسلامية، وهو ما سيؤدي إلى تغيير طابع الاتحاد ووجه المسيحي. أما على صعيد الاندماج الشعبي «أوروبياً»، فالمعروف هنا اعتزاز الأتراك بقوميتهم ودولتهم وبالتالي عدم التنازل عن جزء من سيادتهم لمصلحة المفوضية الأوروبية. وبناء على ذلك يُرجح دعمهم المحاور الداعية إلى حصر صلاحيات الاتحاد الأوروبي بالشؤون الاقتصادية فقط، وهذا يؤدي بالتالي إلى تقوية المحور البريطاني ـــ البولندي المؤيد لاتحاد يؤلف منطقة اقتصادية حرة من دول تحتفظ بسيادتها.
ومن شأن تأييد تركيا لمحور كهذا، إضعاف دور المحور الفرنسي ــــ الألماني الداعي إلى إقامة سلطة مركزية أوروبية على حساب الانتقاص من سيادة الدول الأعضاء.
وكشفت الإحصائيات أن نسبة ثمانين بالمئة من الاتراك تؤيد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ويكمن السبب الرئيسي وراء ذلك في المكاسب السياسية والاقتصادية المُنتظرة من وراء ذلك. فعلى الصعيد السياسي ستتعزز قيم الديموقراطية ودولة القانون وحرية المواطن والأقليات. أما المكاسب الاقتصادية فستتمثل بتقديم دعم ومساعدات مالية على مستوى المناطق والقطاعات. ويتوقع أن تصل قيمتها السنوية إلى 20 مليار يورو. ومن شأن دعم كهذا أن يغيّر وجه المناطق التركية تدريجياً، وهو ما يعني إعادة هيكلة الاقتصاد التركي.
أما على الصعيد الأوروبي، فتنعكس المعادلة: بينما تؤيد حكومات الاتحاد الأوروبي عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، تعارض شعوبها وعدد من أحزاب المعارضة العضوية التركية.
وفي العودة إلى المواقف والتصاريح الرسمية، فإن غالبية حكومات دول الاتحاد الأوروبي تؤيد انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وتبدو حكومتا باريس وبرلين الأشد حماسةً لذلك. فقد صرح الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك أكثر من مرة أخيراً بأنه يؤيد العضوية لأنها مسألة لا مفر منها. غير أن شيراك وعد بإجراء استفتاء شعبي بهذا الشأن مع أن التقديرات تشير إلى معارضة غالبية الفرنسيين لانضمام تركيا إلى بلدان الاتحاد الاوروبي.
وخلافاً لموقف الحكومات الأوروبية، تعارض العديد من أحزاب اليمين في بلدان الاتحاد الأوروبي ضم بلاد الاناضول إلى اتحادهم. وتتزعم هذا الموقف الأحزاب الاوروبية اليمينية المحافظة وفي مقدمها الحزب الديموقراطي المسيحي في ألمانيا. فقد أعلنت المستشارة انجيلا ميركل ومعها الحزب الاجتماعي المسيحي الحاكم في ولاية بافاريا، أنها تؤيد قيام «شراكة مميزة» مع تركيا تقوم على أساس تحسين مستوى الشراكة الأمنية والدفاعية مع هذا البلد بدلاً من العضوية الكامة.
هذا الموقف ينسجم ضمناً مع الرفض الذي تبديه أكثرية شعوب بلدان الاتحاد الأوروبي المتخوفة من دخول دولة يدين غالبية سكانها بالدين الاسلامي إلى اتحادهم. فقد أظهرت استطلاعات للرأي أخيراً في فرنسا أن أكثر من 50 بالمئة من الفرنسيين يقفون ضد العضوية الكاملة لتركيا في الاتحاد الأوروبي. وتزيد نسبة المعارضين على ذلك في هولندا، كذلك يرجح المراقبون أن أكثرية الألمان تميل الى المعارضة أيضاً.
ولعل هذا هو السبب الذي دفع تحالف الاشتراكيين والخضر الحاكم في ألمانيا إلى الإعلان عن معارضته لإجراء استفتاء شعبي على الانضمام. وعلق وزير الخارجية الألماني السابق يوشكا فيشر في حينه على مطالب الاستفتاء بالقول «لو منحنا الشعب الألماني حق الخيارات الاستراتيجية لما أصبحت برلين عاصمة من جديد ولما كان هناك عملة أوروبية مشتركة».
ويعزو عدد لا بأس به من الاوروبيين موقفهم الرافض لانضمام تركيا الى الاتحاد الاوروبي الى طبيعة المجتمع التركي الاسلامي المحافظ الذي لا يمكن أن يتلائم مع تركيبة المجتمعات الأوروبية الديموقراطية وخصوصيتها.
وفي هذا الإطار يحاول بعضهم البرهنة على ذلك من خلال الاشارة الى صعوبة دمج الأقليات التركية في المجتمعات التي تعيش فيها في أوروبا وفي طليعتها المجتمع الألماني، حيث لا تزال الأحياء والمناطق تحمل تسميات هذه الأقليات. غير أن هؤلاء ينسون أو يتناسون أن المشكلة لا تكمن في أفراد الجاليات ورغبتهم في الاندماج وحسب، بل في تقصير الحكومات المعنية على صعيد توفير شروط هذا الاندماج أيضاً.
ويرى قسم من المعارضين أنه من غير الممكن الجمع بين الإسلام والديموقراطية الغربية. لكن هؤلاء قد لا يدركون أن تركيا تعيش نظام فصل الدين عن الدولة ويتوزع الأتراك مجموعات عرقية وإثنية ودينية في مجتمع قطع شوطاً مهماً نحو الديموقراطية وفقاً للنموذج الغربي، وهو سائر في تحقيق المزيد منها.




قمة «شاقة جداً» في بروكسيل اليوم

بدأ القادة الأوروبيّون في بروكسيل، أمس، قمّة بالغة الأهمّية تهدف إلى وضع أسس دستور جديد يحلّ مكان المسوّدة التي رفضها الفرنسيّون والهولنديون، في استفتاء عام منذ سنتين، وسط توقّعات بأن تكون مفاوضاتها، الممتدّة إلى الغد، «صعبةً جدّاً».
وقبيل انعقادها، توقّع رئيس الوزراء البرطاني طوني بلير ورئيس المفوضية الأوروبية خوسيه مانويل باروزو مفاوضات «شاقة جداً»، فيما دعت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي ترأس حالياً الاتحاد الأوروبي والتي ستدير حلقات النقاش، الدول الـ 27 الأعضاء إلى «وضع جميع المواضيع على طاولة البحث لأنّه من الضروري الحديث عما يجمع، لكن أيضاً عمّا يفرق».
ويظهر أنّ المواجهة حتميّة بشأن أحدث محاولة لإصلاح المؤسسات المتداعية في الاتحاد، لكن فرص التوصّل إلى اتفاق ربما تتزايد بعدما خففت بولندا، المنتقد الرئيسي، من لهجتها المتشددة.
ففي طريقه إلى الاجتماع مع ميركل قبيل القمة، قال المسؤول الأعلى للسياسات الخارجيّة للاتّحاد خافيير سولانا إنّه يرغب في معاهدة جديدة تخوّل التحرك في مجال السياسة الخارجية «في وقت يحتاج فيه العالم إلى التحرك». وأضاف «يتعيّن أن نترك المشكلات المتعلّقة بالمؤسسات وراء ظهورنا من أجل أداء دور هام على الساحة الدوليّة».
وأوضح بلير، الذي يحضر آخر قمّة للاتحاد الأوروبي، قبل أن يخلفه وزير خزانته غوردن براون الأسبوع المقبل، أنّ احتمالات التوصل إلى اتفاق لبدء مفاوضات بشأن إصلاح المعاهدة «في وضع حرج»، فيما أشار رئيس الوزراء البولندي ياروسلاف كاتشينسكي إلى أنّها 50 في المئة.
وتبرز الصعوبات في التوصّل إلى اتّفاق حول مسوّدة دستور جديدة، في الموقفين البريطاني والبولندي خصوصاً. ففيما ترى لندن أنّه يجب على المعاهدة ألّا تجعل ميثاق الحقوق الأساسيّة في الاتحاد، بما فيها حق الإضراب، ملزماً قانونياً إلى جانب طلبها تقليص سلطات وزير الخارجية الأوروبي المقترح وتغيير لقبه، تصرّ وارسو على تغيير نظام التصويت في الاتحاد، والذي تقول إنه يحابي الدول الكبرى وخصوصاً ألمانيا على حسابها.
في هذا السياق، أفادت تقارير إخبارية أن بولندا «سلّحت» نفسها جيداً في معركتها، من خلال استخدام فريق من خبراء القانون والرياضيّات قوامه50 شخصاً. إلّا أنّ جميع الدول الـ 27 تقريباً تؤيّد الإبقاء على صيغة صناعة القرار كما وردت في مشروع الدستور.
وأعرب وزير الخارجيّة الألماني فرانك فالتر شتاينماير عن أمله في أن يغير الجانب البريطاني موقفه في الخلاف. وقال عقب لقاء مع عدد من الساسة الأوروبيين الاشتراكيين قبيل افتتاح القمة، «أتمنّى ألّا تكون هذه هي الكلمة الأخيرة» في إشارة إلى تصريحات بلير. كما حذّر المستشار النمساوي ألفريد جوزينباور بولندا وبريطانيا من المبالغة في المطالب.
وكان رئيس وزراء لوكسمبورغ جان كلون يونكر قد تحدّث في مقابلة مع صحيفة «دي فيلت» الألمانيّة، عن حجم رهان هذه القمة بالقول «لا أحبّذ بتاتاً فكرة أوروبا تسير بسرعتين، وإذا لم نتمكن من التقدم معاً، ستكون هذه الفكرة الحل الوحيد للخروج من المأزق»، محذّراً من أيّ توسيع للاتّحاد، يتضمّن أساساً انضمام تركيا، في حال عدم التوصّل إلى اتّفاق حول الدستور.
تجدر الإشارة إلى أنّ نتيجة اليوم الأوّل للمناقشات تمخّض عنها الموافقة على أن تعتمد قبرص ومالطا العملة الأوروبية الموحّدة (اليورو) في الأوّل من كانون الثاني المقبل.
(أ ف ب، د ب أ)