غزة ــ رائد لافي
  • الإغـــلاق حوّلـــه منفـذ الـرزق الوحيـــد...والاحتـــلال يحاصـــر صيّاديـــه

  • «يللي مش عاجبه يشرب من بحر غزة»، هذه الجملة الشهيرة للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، تجد طريقها عملياً نحو التحقّق، مع الحصار الخانق المفروض على القطاع، الذي حوّل البحر إلى مصدر القوت الوحيد للسكان، إلا أنه محكوم أيضاً بحصار لا يرحم

    غزة، شقيقة البحر، ترتاح على شاطئه، وكأنه مهبط الأمان لها. تستنشق منه الروح والحب والخير. الغزّاويون يحتضنون في أعماقه شمس الغروب الحالمة، ومراكب الخيرات وأناشيد الصيادين وأهازيجهم، يبث فيهم إرادة تمنحهم المتعة في طلب لقمة العيش.
    الاقتتال الداخلي والاحتلال لم يسمحا لهذه اللوحة الجميلة بأن تكتمل، وغيّبا الأمان والحب والخيرات، التي تبدو اليوم منقذ أهل غزة الوحيد بفعل تضييق الحصار على القطاع، وسياسة قطع التموين الغذائي بعد سيطرة «حماس» على غزة.
    إلا أن الخيرات البحرية أيضاً محكومة بمحدودية قدرة الصيادين على الخروج إلى عمق بحر غزة، بفعل الحصار البحري الذي تُحكمه البوارج الإسرائيلية، التي تجوب قبالة شواطئ غزة طوال الليل والنهار.
    وحوّلت السياسة الإسرائيلية الممنهجة البحر إلى «بؤرة استيطانية» تجوبها الزوارق الحربية من الشمال إلى الجنوب على مدار الساعة. تلاحق الصيادين وتطاردهم في مصدر رزقهم الوحيد. لكنهم يعودون من جديد رغم الخطر الداهم، فهم «أسماك بشرية» لا يستطيعون العيش بعيداً عن البحر، ولا يجيدون مهنة سوى الصيد.
    منذ سنوات خلت، حددت سلطات الاحتلال مساحة «الملعب» داخل البحر مع الصيادين، عبر خط النار الوهمي أو «خط الموت»، الذي يتربص بمئات منهم في حال تجاوزه، وهو ما يحرص الصيادون على عدم خرقه إلا نادراً وعن طريق الخطأ.
    يتّسع هذا الخط أحياناً لأميال عديدة، فتضيق مساحة الصيد، ويتقلص نادراً ليمنح الصيادين مساحة لا تزيد في أحسنها على خمسة أميال، لكنها دوماً غير آمنة. فالحذر واجب والاستعداد مطلوب لأي مطاردة محتملة من الزوارق الحربية، التي يسميها الصيادون «دبابير» لأن لسعاتها الدائمة تركت آثاراً أبدية على أجسادهم.
    ويبلغ طول شاطئ غزة نحو 45 كيلومتراً، إلا أن الصيد الآن مسموح به في مساحة 40 كيلومتراً، بسبب قيام قوات الاحتلال بمنع الصيادين من الاقتراب من منطقة الحدود الفاصلة بين قطاع غزة ومصر. كما أنه يُمنع على الصياديين التوغل في العمق البحري رغم أن اتفاقات أوسلو أعطتهم حق الوصول إلى حدود 20 ميلاً بحرياً.

    المطاردة مستمرة

    كان الصياد خالد أبو عميرة من مخيم الشاطئ في مدينة غزة، يبحر بقاربه الصغير في عرض البحر على بعد أربعة أميال من الشاطئ، عندما اعترضه زورق حربي إسرائيلي وأمره بالتراجع. أبو عميرة كان غاضباً، وهو يروي حكايته. وقال: «كانت الساعة تشير إلى الثانية والنصف بعد منتصف الليل، وفجأةً ظهرت الزوارق الحربية الإسرائيلية وطلبت من الصيادين الابتعاد عن المكان، وعندما تشجّع بعض الصيادين بالقول إنهم لم يتجاوزوا المنطقة المسموح بها، صرخ جنود الاحتلال وشهروا السلاح في وجوهنا، فابتعد الجميع للنجاة من الموت المحقّق».
    وقال الصياد محمد الندى، من مدينة رفح، إن «شيئاً لم يتغير بالنسبة إلى الصيادين بعد الانسحاب الإسرائيلي من المستوطنات اليهودية في غزة عام 2005، حيث حافظت قوات الاحتلال خلال العامين الماضيين عقب الانسحاب على وتيرة عدوانها اليومي على الصيادين في البحر، عبر المطاردة والملاحقة والاعتقال والغرامات المالية وعمليات إطلاق النار والإرهاب».
    وبحسب الندى، فإن الكثير من الصيادين أصبحوا يفضّلون عدم نزول البحر بالمراكب، والاستغناء عن ذلك عبر الصيد بواسطة «الشباك»، التي يتم نصبها على مسافات قريبة جداً من الشاطئ، غير أن هذه الطريقة لا توفّر للصياد في أحسن الأحوال سوى قوته اليوميوقال علي كباجة (52 عاماً)، من مخيم الشاطئ في غزة، بينما كان مشغولاً في إصلاح قاربه الذي أصابته عيارات نارية إسرائيلية، «بأي ذنب تفقد خمس عائلات مصدر رزقها؟ ومن سيُعينها على إعادة تشغيل هذا القارب الذي يكلّف نحو 18 الف دولار لإعادته لما كان عليه؟»
    ويعيل كباجة أسرة مكوّنة من 11 فرداً، ويعمل معه على القارب نفسه أربعة صيادين آخرين، بينهم ثلاثة من أبنائه المتزوجين. وقال: «القارب يوفر لقمة العيش اليومي لنحو 30 شخصاً».
    وسبق لكباجة أن اعتُقل في عُرض البحر، وأجبرته القوات الإسرائيلية على التوجه بقاربه إلى ميناء أسدود داخل فلسطين المحتلة عام 48، ومكث في سجون الاحتلال نحو أسبوع من دون ذنب، ولم تُفرج عنه قوات الاحتلال إلا بعد دفع غرامة مالية قدرها 20 ألف شيكل (نحو 8 آلاف دولار)، بدعوى أنه تجاوز المساحة المحددة للصيد.
    وعلى مقهى الصيادين داخل ميناء غزة، تحدث عبد الله النجار (44 عاماً) عن قصة اعتقاله المريرة في عُرض البحر قبل بضعة أعوام. قال «دهمتني زوارق إسرائيلية في عُرض البحر، وصادر جنود الاحتلال تصاريحي الخاصة بنزول البحر، وأجبروني على رفع يديّ نحو ساعة متواصلة وسط أجواء من الرعب الشديد».
    وأضاف النجار «بعد ساعة من الإرهاب، استقل عدد من جنود الاحتلال مركبي، وربطوا يديّ بقيود بلاستيكية، وعصبوا عيني، وقادوا المركب نحو ميناء أسدود، قبل أن يقذفوا بي في زنزانة انفرادية، من دون سبب واضح للاعتقال». وتابع «حكموا علي بالسجن شهراً واحداً، وغرامة مالية 200 شيكل (نحو 50 دولاراً)، لكنني أمضيت داخل سجون الاحتلال تسعة أشهر متواصلة».
    وروى الصياد رجب الهسي (60 عاماً) معاناته قائلاً «إن دبابير (زوارق) الاحتلال تقوم بمطاردة القوارب والمراكب على مسافة لا تزيد على 5 أميال، بعدما كانت تبحر على مسافة 20 ميلاً قبل الانتفاضة، وتقوم هذه الدبابير الفائقة السرعة بتقطيع شباك الصيادين وإطلاق النار العشوائي الأمر الذي أدى غير مرة إلى إصابة صيادين وإعطاب المراكب».
    وتابع بنبرة تحدّي قائلاً «إن إجراءات وممارسات قوات الاحتلال لن تنال من عزيمتنا رغم الأذى الكبير الذي تلحقه بنا، لكننا لن نهجر البحر ففيه قضينا أحلى سنوات العمر وفيه أيضاً رزقنا قوت أطفالنا».

    خسائر الصيادين بالملايين

    تكمن أهمية قطاع الثروة السمكية، في المرحلة الراهنة خصوصاً، في توفير الكميات الملائمة للمواطنين الفلسطينيين وسد حاجة السوق المحلية من الأسماك الطازجة، إلى جانب مساهمته في تشغيل اعداد ضخمة من اليد العاملة في قطاع الصيد والقطاعات المرتبطة به، مثل تصنيع السفن وصيانتها وتشغيل عمال الميناء، وتشغيل عدد كبير من سيارات النقل الخاصة.
    وبحسب دراسة أعدها المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، فقد ظل هذا القطاع عاجزاً عن المساهمة بشكل فاعل في الاقتصاد المحلي، حيث بقيت نسبة مساهمته في الناتج المحلي على مدى الأعوام التي سبقت قيام السلطة الفلسطينية ضعيفة جداً، تقدّر بنحو 0.5 في المئة، فيما نسبة 4 في المئة فقط من قوة العمل الفعلية الإجمالية في قطاع غزة، تعمل في قطاع الصيد البحري، والخدمات المتعلقة به، وهناك 3 في المئة من عدد السكان الكلي في القطاع يعتمدون على الأنشطة المختلفة لقطاع الصيد البحري.
    ووفقاً للمركز الحقوقي، فإن أبرز الاعتداءات الإسرائيلية على الصيادين خلال الانتفاضة، تتمثّل في مطاردة واعتراض قوارب الصيد والاعتداء على الصيادين واعتقالهم، فضلاً عن اطلاق الرصاص العشوائي وقنابل الصوت، في تجاه مراكب الصيد من دون مبرر، ومصادرتها واحتجازها، وتمزيق شباك الصيادين وتخريب معداتهم وطردهم من البحر من دون أسباب.
    وانتهجت قوات الاحتلال الإسرائيلي سياسة فرض الحصار البحري على سواحل القطاع لفترات طويلة خلال انتفاضة الأقصى، ما أدى الى حرمان الصيادين مزاولة عملهم، وبموجب ذلك، حُرم الصيادون الفلسطينيون الوصول إلى المياه الأكثر عمقاً والأوفر رزقاً، ما انعكس على كمية الإنتاج من الأسماك، وعلى مستوى دخل الصياد. ووفقاً لتقديرات الإدارة العامة للثروة السمكية، فإن الخسائر المباشرة التي لحقت بقطاع الصيد بلغت منذ اندلاع الانتفاضة عام 2000، نحو 17 مليون دولار أميركي، علاوة على ملايين الدولارات من الخسائر غير المباشرة.
    ويمارس مهنة الصيد البحري في غزة أكثر من 3 آلاف صياد، الى جانب نحو ألفي عامل في مهن مرتبطة بالصيد. وتشير الإحصاءات إلى أن نحو 60 ألف نسمة يعتاشون من وراء العمل في مهن مرتبطة بقطاع الصيد البحري.




    شاهد من أهلها



    بحسب مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان، المعروف باسم «بتسيليم»، فإن الدولة العبرية تحظر منذ عملية أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في 25 حزيران من العام الماضي، الإبحار في شواطئ غزة لغرض صيد الأسماك، ونتيجة لذلك، فقد تعرّض قطاع الصيد لـ«ضربة قاسية»، وخصوصاً في ظل غياب مصادر رزق أخرى، الأمر الذي يضطر قسماً من الصيادين إلى انتهاك هذا الحظر والمخاطرة بأرواحهم.
    وقال «بتسيليم» إن سلاح البحرية الإسرائيلية اتّبع خلال الأشهر الأخيرة طريقة جديدة من الإذلال والتنكيل ضد الصيادين، عبر اعتقالهم وإرغامهم على الإبحار إلى عمق كبير وتهديدهم بالسلاح لخلع ملابسهم والسباحة في البحر لعشرات الأمتار رغم البرد الشديد، وإرغام من يدّعي منهم عدم إجادة السباحة تحت تهديد السلاح على القفز إلى الماء والسباحة وراء طوق النجاة الذي يقوم الجنود بإلقائه إلى البحر، غير أنهم كانوا يسحبونه كلما وصل إليه بعض الصيادين. وأضاف إنه «بعد الصعود إلى الزورق الإسرائيلي، يتم الإبحار إلى ميناء أسدود، حيث يُوضع الصيادون فوق ظهر الزورق ليتعرضوا للريح والماء المتناثر وهم يلبسون الملابس الداخلية المبللة، وهناك يتم احتجاز الصيادين لمدة ترواح ما بين 14 إلى 24 ساعة وأيديهم مقيدة وعيونهم مغطّاة ويجري التحقيق معهم، ثمّ يُصطحبون مرة أخرى إلى الزورق ويعادون إلى قاربهم في عرض البحر وهم متعبون».
    ورفض «بتسيليم» ما تسوقه حكومة الاحتلال من تبريرات لهذه الإجراءات ضد الصيادين، وتتمحور حول الاحتياجات الأمنية، وفي مقدمها الحاجة إلى منع عمليات تهريب السلاح من مصر إلى غزة، حيث إن «هذه الاحتياجات لا تبرر الاعتقال التعسفي للصيادين والتنكيل بهم، فضلاً عن أن قوارب الصيد الفلسطينية تُبحر على مسافة غير بعيدة من الشواطئ في الوقت الذي تجول فيه سفن سلاح البحرية على امتداد شواطئ غزة بلا توقف، وهو ما لا يمثّل تهديداً للزوارق الإسرائيلية، وبالتالي فإن اعتقال الصيادين والطريقة المذلة وغير الإنسانية للتعامل معهم، ليست سوى مركب إضافي في منظومة الضغوط الإسرائيلية على سكان غزة، في إطار وسائل العقاب الجماعي، وهو ما يثير تساؤلاً مهماً، وخصوصاً في ظل ادعاء إسرائيل انتهاء الحكم العسكري في غزة عقب الانسحاب. وبناءً على ذلك، من غير الواضح وفق أي صلاحية تحظر إسرائيل الإبحار في شواطئ القطاع وما هي القاعدة القانونية لاعتقال الصيادين، الذين لا يخضعون، طبقاً لادعاء إسرائيل، لسلطتها».