حيفا ــ فراس خطيب
فتحت صحيفة «معاريف»، بعد مرور عامٍ على النهاية الرسمية للعدوان على لبنان، ملف الإخفاقات العسكرية الإسرائيلية أثناء الحرب الأخيرة. وهي تشير إلى أزمة الثقة بين الضباط الإسرائيليين خلال العدوان، وتجهيز أماكن لـ«مئة أسير من حزب الله» وبقاء المكان المجهز فارغاً

  • الحرب البرية دفعت الجيش الإسرائيلي إلى التنازل عن «تفوقه» أمام تنظيم يضم 4 آلاف مقاتل


  • بدأ محلل الشؤون العسكرية لصحيفة «معاريف» عامير رابابورت أمس سلسلة حلقات عن عدوان تموز وإخفاقات الجيش فيه، ولا سيما في المعارك الميدانية، مشيراً إلى أن معلومات شعبة الاستخبارات العسكرية التابعة للجيش الإسرائيلي «ظلّت في الصناديق»، رغم احتوائها على معطيات عن «المحميات الطبيعية» التي امتلكها حزب الله في الجنوب اللبناني، خشية تسرّب هذه المعلومات إلى الحزب نفسه.
    حزب الله يتفوق في الحملة الأولى
    ويروي رابابورت أنه في التاسع عشر من تموز وجدت قوّة صغيرة من الجيش الإسرائيلي تضم 18 جندياً نفسها فجأة في قلب منطقة تابعة لحزب الله، أفراد الوحدة الإسرائيلية، لم يسمعوا ولم يعرفوا عن وجودها شيئاً.
    تمترس الجنود الإسرائيليون في «محمية» حزب الله قبالة تلة «شكيد». وبعد مواجهات لم تدم طويلاً، قتل أول جنديين إسرائيليين في المعركة البرية. ويصف الكاتب الوضع هناك قائلاً: «أصوات الانفجارات أخافت الدجاج في أقنان بلدة أفيفيم. طائرات ومروحيات قتالية إسرائيلية فجرت العمق بين تلة شكيد وافيفيم. قذائف المدفعية كانت مثل المطر على الجنود الذين يحملون الجرحى، والدخان الكثيف أخفى ساحة المعركة. وفي غرفة القيادة للوحدة مجلان (التي ينتمي إليها الجنود الإسرائيليون)، المجندات بكين طويلاً».
    وأشار رابابورت إلى أنَّ المحمية، التي ذكرت في الملفات في الصناديق، أديرت على أيدي 20 مقاتلاً من حزب الله، غالبيتهم تابعون لوحدات نخبوية، مضيفاً أن «جنود الوحدة تلقوا تدريباتهم على أرض إيران. وقتل خمسة منهم».
    كانت هذه الحادثة بداية الحرب البرية، التي دفعت الجيش الإسرائيلي إلى «التنازل عن تفوقه الكبير كجيش يضم مئات آلاف الجنود أمام تنظيم يضم من 3 إلى 4 آلاف مقاتل حسب التقديرات». وأضاف أنه «بدل قيام الجيش بنشر ميدان المعركة بقوات كبيرة واستغلال التفوق الجوي، اكتفى بأهداف محددة أو بعمليات جوية، واختار الوصول إلى أهدافٍ كان لحزب الله فيها تفوق واضح».
    وأوضح الكاتب أنه في ذلك اليوم، لم تستوعب القيادة الإسرائيلية «حقيقة أن الجيش في خضم قتال صعب قبالة عدو مخضرم ومجرب، ويتسلح بوسائل متطورة»، مضيفاً أنَّ القيادة لم «تفهم سبب تورط الجيش بعملية برية بسيطة نسبياً للسيطرة على مساحة إلى جانب الحدود».
    خلاف بين أولمرت وموفاز
    بعد هذه العملية، اتصل وزير المواصلات، شاؤول موفاز، بأولمرت، وسأله: «ما هذه الحملة؟»، فردَّ أولمرت: «أنا صادقت على دخول القوات 1.5 كيلومتر في لبنان». فقال الوزير: «في 1.5 كيلومتر يوجد مئات المقاتلين لحزب الله». ودافع أولمرت عن نفسه قائلاً: «أنا لا أستطيع المراقبة بهذه الدقة. سأتحدث إلى قائد الأركان كي يدرس ثانية حملات من نوع كهذا».
    قائد هيئة الأركان أجبر على تقديم التبريرات لهذه العملية. في المقابل، قائد ألوية 91 غال هيرش فقد ثقة قادة الجيش الإسرائيلي، وخصوصاً أن مثل هذه العملية كان عليها أن تنتهي من دون خسائر ومن دون أن يعلم بها حزب الله أصلاً.
    سبقت العملية، بحسب رابابورت، نقاشات حادة في وجهات النظر بين قائد المنطقة الشمالية أودي آدم وغال هيرش. أراد هيرش «حرية للعمل». كان يدعي دائماً أنَّ قيادة الجيش «كبلت يديه». وطالب هيرش بالقيام بخطة «جلسات صحيحة» للسيطرة على مساحات داخل الحدود اللبنانية. لكنَّ آدم خاف من مبادرات هيرش بعد فشل الحملة في «شكيد».
    «محمية» يارون
    قبل أربع ساعات من مقتل الجنديين وجرح تسعة آخرين وتورط الوحدة، وخلال النهار نفسه، أمرت قيادة الجيش الإسرائيلي وحدة النخبة «عمود النار»، تحت قيادة ايال ايزينبرغ، بالسيطرة على «محمية طبيعية» تابعة لحزب الله في قرية يارون اللبنانية. لكن في اللحظة الأخيرة، تم إعفاء الوحدة من العملية ومنحها لأولوية هيرش، بعدما اشتكى من أنه «لا يعقل تنفيذ عملية في منطقة تبعد عشرات الأمتار من الحدود ولا تكون تابعة للواء تحت قيادتي».
    قائد وحدة «ايغوز» ايرز تسوكرمان وجد نفسه أيضاً في البرنامج للسيطرة على محمية «يارون». لكنه كان محبطاً من أن وحدته لم تنل «المسؤولية الكاملة» عن العملية. كان يرى أن الوحدة هي المخولة الوحيدة لهذا لأنها تعرف جيداً الجنوب اللبناني.
    اجتمع قادة من «ايغوز» وقرّروا أن احتلال يارون سيكون مهمة انتحارية للوحدة، واتفقوا على العمل من أجل إحباط العملية. نقلت هذه النيات إلى قائد المنطقة الشمالية أودي آدم الذي أعاد النظر في قضية احتلال يارون وألغاها. ولم تعد تحت قيادة هيرش. ولم تنفذ.
    عندما وصلت المعلومات إلى هيرش، شعر بأنَّ هناك من «يحفر من تحته»، ما خلق أجواءً عصيبة خلال الحرب أدت، بحسب رابابورت، إلى عداءٍ داخل قيادة الجيش نفسه. اتسعت القضية لتشمل مناطق أخرى ووحدات أخرى في الجيش الإسرائيلي.
    إلى مارون الراس
    على الرغم من الأجواء الصعبة التي سادت الجيش الإسرائيلي في الأيام الأولى للحرب، إلا أن الاستمرارية في القتال كانت حتمية. وتقرّر احتلال بلدة مارون الراس اللبنانية، في الليلة الفاصلة بين الـ19و20 تموز تحت قيادة العقيد نمرود الوني.
    وتشير الصحيفة إلى أنَّ القتال «بدأ بصورة صحيحة» وحدّد 34 هدفاً في القرية. وتضيف أنَّ مواطناً في مارون الراس أمسكت به القوات الإسرائيلية، وحققت معه، قاد الجنود إلى مبنى في القرية كان مقراً للتنصت تابعاً لحزب الله. وأشارت الصحيفة إلى أنَّ المعدات التي كانت بحوزة حزب الله تتمتع بجودة عالية وتتفوق كثيراً على المعدات التي امتلكتها وحدة التنصت الإسرائيلية. وأضافت أن الحزب كان يتنصت على الجيش الإسرائيلي 24 ساعة يومياً. ليس فقط على شبكة الهواتف في الوحدات على الحدود، بل تنصت على الوحدات الفاعلة ميدانياً. كان أفراد حزب الله يمتلكون تفاصيل ومعلومات عن قادة الجيش وأعدّ ملفاً كاملاً عن غال هيرش بعد تتبعه.
    بحث الإسرائيليون عن «صورة للانتصار»، «أرادوا صورة تشبه عشرات الفلسطينيين في طولكرم وهم يرفعون الرايات البيضاء في عام 2002»، حتى أن الشرطة العسكرية الإسرائيلية تلقت أوامر لتجهيز معسكر للمعتقلين في فيلون بجانب روشبينا لاستيعاب «أول مئة أسير من حزب الله» .
    بعد مضي ليلة من القتال في مارون الراس، أي في يوم الخميس، تحدّث هيرش إلى نمرود، الذي أبلغه أن «جنودنا عدوا 13 جثة للمخربين». عندها، اتصل هيرش بحالوتس وتباهى أمامه قائلاً: «المواجهات تدار بشكل ممتاز. هناك 13 جثة». كانت المكالمة «بشرى» بالنسبة إلى حالوتس، أراد أن يثبت للجمهور الإسرائيلي والمستوى السياسي أن «الجيش لا يزال بعافيته».
    اتصل حالوتس بآدم، وطلب منه أن يمرّر صوراً لأسرى وقتلى من حزب الله. اتصل آدم بنمرود كي ينقل الصور. إلا أن نمرود «لم يتلهف للفكرة». وقال له: «نحن لسنا مستعدين لأن نخاطر بجنودنا كي يصوروا جثثاً».
    لكنَّ عدم جلب هذه الصور من المعارك أدَّى إلى زيادة التوتر بين حالوتس وآدم. وشكك قادة الجيش بأن يكون الجيش قد قتل 13 مقاتلاً من حزب الله، كما غضب القادة من عدم أسر أحد من مقاتلي الحزب.
    في تلك الأثناء، ازداد الوضع سوءاً في مارون الراس، وقوات حزب الله «رفضت الخنوع». وتعرضت القوات الإسرائيلية، بحسب رابابورت، إلى صواريخ عديدة داخل مارون الراس. عندها طلب أحد ضباط الجيش، يدعى ليفني، قوات إضافية للمساندة.
    قائد وحدة «ايغوز»، مردخاي كهانا، تلقى أمراً «للدخول بقوته إلى مارون الراس، من أجل إنقاذ القوة المتورطة هناك». قال كهانا: «تريدون مني الدخول في ضوء النهار؟». فقال له ليفني: «نعم، لا يوجد ما نفعله الآن. علينا إنقاذهم. القضية لا تنفع ليلاً».
    وفي الساعة الواحدة ظهراً، كان مقاتلو «ايغوز» بقيادة كهانا قد وصلوا إلى الكنيسة القديمة في قرية برعم الفلسطينية المهجرة، من أجل الدخول إلى مارون الراس، التي وصلوها بعد ساعتين ونصف الساعة. لكنَّ حزب الله رصد دخولهم.
    بدأ القتال الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر وتعرضت القوات الإسرائيلية هناك لإطلاق صواريخ مضادة للدروع من نوع «ساغر». قتل ثلاثة جنود واختفى رابع، ما أدى إلى حالة هستيرية في الجيش. لم يتوقف هاتف هيرش عن الرنين، و«تحولت المهمة الأساسية في مارون الراس إلى إخلاء للجرحى»، فاقترح كهانا «تجميد القتال» من أجل إيجاد الجندي.
    اتصل آدم بهيرش الذي قال له: «كل شيء تحت السيطرة». أجابه آدم: «سأخرج لك القوات من مارون الراس». وبدأت أزمة جدية بين الضابطين الكبيرين. قال هيرش لآدم: «أودي. توقف التحدث إلي عن كل جريح وقتيل. هذه الحرب ستنتهي مع 250 قتيلاً و 1500 جريح. وستكون طويلة. يجب علينا التعامل كما في الحرب».

    الحرب التي حطّمت نظريات وأساطير
    لقد غيّرت حرب لبنان الثانية وجه البلاد. في الأيام الأولى للحرب، هدد رئيس الأركان الفريق دان حالوتس إعادة لبنان 20 عاماً إلى الوراء، إلا أن عجلة الزمن دارت إلى الوراء عندنا أيضاً. إن إسرائيل، التي كانت تعيش حتى تموز عام 2006 في فقاعة التكنولوجيات المتقدمة، عادت لتكون بلداً صغيراً محاطاً بالأعداء. إن وضع الدولة على مستوى الوعي تغير بأكمله.
    حرب لبنان ليست فقط قصة معارك وعمليات وقرارات اتخذت من قبل المؤسستين السياسية والعسكرية. لقد كشفت هذه الحرب عن ضعف جيل بأكمله، وحطمت نظريات وأساطير، وأظهرت حقائق اجتماعية وأماطت اللثام عن تمزقات. لقد وضعت هذه الحرب ثقافة كاملة في وضع حرج وأبرزت علامات تساؤل كثيرة حول كل ما يتعلق بالقيم والنظريات والمبادئ التي تربينا عليها على مدى الأجيال. إنها فقط النتيجة النهائية، وقمة شجرة جذورها مغروسة عميقاً في المجتمع الإسرائيلي وفي تاريخنا كشعب.
    لقد تحول عمقنا إلى جبهة، والجبهة تحولت إلى سياسة. طعن سكاكين بين القادة، وأكاذيب، خيانات ورفض تنفيذ أوامر، وأيضاً عزلة وقلة تغطية ـــــ هذا هو إرث القادة الذين قادوا المعركة. المناورات الإعلامية أصبحت أساس الاهتمام، إلى حد المخاطرة بحياة جنود عبر عمليات استعراضية، أو من خلال تعيينات فاشلة كلفت ثمناً باهظاً. كبار القادة خيّبوا الآمال، في حين أن المقاتلين والقادة الصغار، أظهروا بطولة كبيرة، في كثير من الأحيان، منعت حصول انهيار كامل.
    لقد شنت إسرائيل حربها ضد حزب الله في ظل شروط ابتدائية ممتازة، بالرغم من خطف جنديي الاحتياط، الداد ريغف وأودي غولدفاسر. المبادرة في توقيت الرد وحجمه كانت في يدها. الدعم الدولي كان مطلقاً، وكذلك أيضاً التفوق العسكري على حزب الله. لكن الأمر كان يتعلق بمنظمة حذرة وذكية، متخندقة جيداً وتتحرك بدافع ديني. لكنها، رغم ذلك، منظمة صغيرة. كان يجب على الجيش الإسرائيلي أن ينتصر عليها، حتى لو بثمن باهظ، لكن إسرائيل عملت من دون توقف ضد مصالحها. وقيادة الجيش الإسرائيلي هي التي أفشلت قواته.