بغداد ــ الأخبار
من يدّعِ أنه يستطيع قراءة الوضع السياسي في العراق، وما يمكن أن تتمخض عنه الأيام المقبلة، فهو واهم. حتى المخططون الاستراتيجيون الأميركيون، يكتشفون يومياً أنهم أخطأوا القراءة في اليوم السابق، و«تأتي الرياح بما لا تشتهي السُّفنُ»، وهكذا. فيما تتراكم معاناة العراقيين يوماً إثر آخر

لسان حال العراقيين يقول: «لقد نفد الصبر منذ زمن بعيد، وها نحن ننفد أيضاً». والسياسيون يواصلون ألعابهم ومتغيراتهم بلا طائل، ولا شيء يفعلونه غير الكلام الذي يناقض بعضه الآخر، أو يناقض نفسه بين يوم وآخر، ولا أحد يعرف متى تنتهي هذه الدوّامة المرعبة التي تمزّق وطناً عريقاً وتسحق شعباً بكامله تحت مسمى «الديموقراطية»، المستوردة مع الاحتلال.
وفي هذه الدوامة، تبرز مشتركات ومفترقات، ولعل أهم ما يتفق عليه الساسة وغير الساسة، هو أن المشروع الأميركي في العراق قد فشل، وأن هناك من يفكر في مرحلة ما بعد الاحتلال، أو من يفكر بصيغة أخرى للاحتلال، تحفظ على الأقل لبعض الساسة شيئاً من كراسيهم.
عقلية متخلفة
في هذا الصدد، يقول الدكتور قصي السامر (علوم سياسية) «بالنسبة إلى الولايات المتحدة، تعني الهزيمة في العراق انكساراً هائلاً على مستوى إقليمي وعالمي، لذا فهي وحلفاؤها يبذلون المستحيل لتلافي هذه الهزيمة، وهي لن تقبل باحتلال صوري وتترك الأمور لخصومها، الذين سيلاحقونها في العالم كله. فمعركة العراق بالنسبة إلى أميركا معركة حياة أو موت».
ويضيف السامر: «مهما يكن رأيي في الجماعات المسلحة ومسمياتها، وهل هي إرهاب أم مقاومة، فالواضح جداً هو أن خسائر الولايات المتحدة وتخبطها ليس ناتجاً من مقاومة سلمية، أو حوارات في هذا المجال أو ذاك، بل هناك قوة حقيقية تمكنت من إثبات واقع لا يقبل التأويل، وهو أن أعتى قوة عسكرية في العالم لا تستطيع الإمساك بقطعة صغيرة من الأرض، ما دامت تُعَدُّ فيها قوة احتلال».
ويوضح السامر أن «من الغريب ألا تدرك المدرسة العسكرية الأميركية ذلك، وهي أم الحروب، لأن المشاة هم القوة الماسكة، بينما الأسلحة الأخرى يمكن أن تفتك، لكنها ليست ذات جدوى أساسية على الأرض، التي لا يمسكها إلا أهلها». ويتابع: «هذه من أبجديات العلوم العسكرية، لكن الإخفاق الأهم للولايات المتحدة في العراق هو محاولاتها معالجة المشكلات الآنية بمنظور القرن التاسع عشر أو بدايات القرن العشرين. هذا المنظور الرديء الذي يقوم على المفاهيم الطائفية والعرقية، وكذلك العودة إلى النزعات العشائرية التي لم يعد أحد يعترف بها في دول العالم الشبه متحضرة. أي ـــــ بخلاصة بسيطة ـــــ نسيت الولايات المتحدة، في خضم مشكلاتها العسكرية، كل ما قطعته من وعود بشان الديموقراطية والحرية والعدالة، التي بشرت بها العراقيين قبل الاحتلال».
الحكومة محكومة
وفي السياق، يرى الكاتب والمحلل السياسي، محمد جبر، أن «التخبط السياسي للقوى المختلفة في العراق، ناجم بالأساس عن التخبط الأميركي، وأن الولايات المتحدة لا تزال منذ بداية الاحتلال، وحتى قبله، وإلى الآن، تعتمد على الوجوه نفسها في تنفيذ سياساتها، وأن كل الذي تفعله بين فينة وأخرى هو تبديل أو تداور المناصب والمواقف، وجعل الموالي معارضاً والمعارض موالياً. وربما كان السبب في ذلك هو تفاوت الرؤى بين المسؤولين الأميركيين، وترجيح هذه الكفة على تلك بين حين وآخر».
ويقول جبر: «كل حكومة جاءت بعد سقوط بغداد أكثر فشلاً من سابقتها. ونرى الوجوه نفسها، لكن المناصب والمواقع تتغيّر مثل قطع الشطرنج. وفي النتيجة، لا تستطيع أي حكومة تحقيق أي نجاح ما دامت محكومة. ولعل أدهى ما في الأمر أن البديل غائب إلى الآن، وأن الإدارة الأميركية تدرك جيداً أن من جاءت بهم، وجاؤوا بها، أضعف من أن يستطيعوا حل أبسط المشكلات، فكيف والأمر يتعلق بحكم بلد مثل العراق، الذي عملت على اجتثاثه وتغيير محتواه ونسيجه الحضاري والاجتماعي والاقتصادي؟».
ويضيف جبر: «أي حكومة هذه التي لا تستطيع إجراء تعديل وزاري منذ نصف سنة وأكثر، بينما أصبح عدد الحقائب الوزارية الشاغرة ثماني حقائب، بينها وزارات بالغة الأهمية والخطورة، مثل الكهرباء والصحة وغيرها. قد لا توجد حاجة إلى هذه الوزارات، فالبلد أساساً بلا كهرباء وبلا صحة وبلا خدمات منذ أكثر من أربع سنوات. وحتى إذا أجرت ألف تعديل وزاري، فما جدواه وماذا يعمل الوزير، إذا كانت الميليشيات والحمايات والجماعات المسلحة الأخرى والأحزاب الكبيرة هي المسيطرة على كل مفاصل الوزارات والإدارات الحكومية؟».
لا أهمية للوزارات
يلاحظ الباحث في «بيت الحكمة»، سعيد مال الله، أنه «ما دامت العسكرتاريا الأميركية هي صاحبة القول الفصل، فإن معاناة العراقيين تبقى في تفاقم مستمر، بينما هناك شعور يتنامى حتى داخل الإدارة الأميركية بأن الحل العسكري وحده لن يحل المشكلة العراقية، وأن السياسة الحالية، التي ألغت وجود الدولة العراقية، وكثفت وجود الميليشيات والدوائر ذات الصلة بالأمور العسكرية وغيّبت كل ما من شأنه تقديم خدمة للمواطن العراقي، جعلت حتى المسؤولين الحاليين في الحكومة العراقية لا يجدون أهمية لأي من الوزارات، سوى تلك المتعلقة بالسلاح، بينما الوزارات الأخرى لا عمل لها سوى الاستفادة المالية للقائمين عليها والمتعاملين معها».
ويضيف مال الله أن «هناك أحاديث كثيرة الآن عن تغييرات في النهج السياسي الأميركي، لكن ألا يستغرب أي مراقب وجود رديف للأحاديث عن تلك المتغيرات داخل الساحة العراقية؟ وإن الكتل السياسية الموجودة تنشق على بعضها، وتحاول الدخول في تحالفات جديدة، أو تقوية تحالفات قديمة، من أجل مواكبة المتغيرات المتوقعة في السياسة الأميركية، وبذل أقصى الجهود من أجل نيل أقصى الرضا، من أولياء الأمر القائمين على تنفيذ السياسة الأميركية، حسب تصورات كل شخص أو كل جهة لطبيعة تلك المتغيرات وشخوصها وهيئاتها».
الحنين إلى ما سبق
غير أن الدكتور حسب الله البياتي، من جامعة النهرين، يرى الأمر من زاوية أخرى، وهي أن «الولايات المتحدة لا تريد البقاء طويلاً في العراق، بعد النقمة الكبيرة التي ولّدتها السنوات الأربع من الاحتلال، لذلك فهي قد تنسحب من بعض المدن، تمهيداً لانسحابات أخرى. وهي في الوقت نفسه لا تريد الإعلان عن هزيمة. لذا، إن المنطق يفرض عليها التخلي عن سياسة البلد الممزق المحترب، والعودة إلى نقطة الصفر، التي تتطلب وجود حكومة قوية، قد تختلف معها في بعض الأمور الجوهرية، لكنها تستطيع إعادة هيبة الدولة وفرض سيطرتها وإعادة الخدمات إلى المواطنين، ومن ثم التحول التدريجي نحو الديموقراطية الموعودة، لكنها ليست ديموقراطية الفوضى الموجودة الآن».
ويضيف البياتي أن «هناك من يرى أن هذا الطرح أشبه بالدعوة إلى نظام قريب من نظام صدام حسين، وهذا غير مستغرب وغير مستبعد، لأن غالبية العراقيين ترى أن الأوضاع الأمنية والخدمية والمعيشية كانت في عهد صدام أفضل بكثير مما هي عليه الآن، وهذا ما يريده المواطن العراقي الاعتيادي الذي أصبح يترحّم على الديكتاتورية».
ويقول البياتي: «هناك مسألة جديرة بالاهتمام جداً، وهي أن الديكتاتورية الأميركية أرادت من خلال بعثرة الأوراق بشكل دموي في العراق أن تقول للشعوب المحكومة من أنظمة ديكتاتورية: ارضوا واقبلوا بحكامكم، وإلا فسيكون مصيركم مثل مصير العراقيين، ويحل بكم ما يحل بالعراق الآن».
الفيشـيون الجدد
ويرى الأديب حسين البحراني أن «العراق لم يشهد حكماً دموياً كالذي يشهده الآن، وحتى حكومة فيشي، التي نصّبها النازيون عند احتلالهم لفرنسا في الحرب العالمية الثانية، أفضل بكثير مما نراه ونلمسه الآن، إذ لم يكن هناك حصاد بشري بالجملة، وبشكل همجي، ولم تقطع الحكومة الفيشـية ولا الاحتلال النازي الماء والكهرباء والوقود والخبز وسبل العمل عن الشعب الفرنسي. كما لم تهدّم حضارة فرنسا وتراثها وآثارها وثقافتها، بحجة إعادة صياغة الشعب الفرنسي».
ويقول البحراني إن «أكبر الخاسرين في المعادلة الأميركية ـــــ العراقية هم الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا أدوات للنهج الأميركي، سواء قبل الاحتلال أو بعده، ولا سيما أولئك الذين يتحدثون عن المظلومية، فأصبحوا من الظالمين. وكأن الولايات المتحدة تعمدت إهانتهم، والإساءة إلى مرجعياتهم الدينية والعشائرية بتصويرهم أمام الشعب وأمام شعوب العالم كمرتزقة لا أكثر».
ويضيف الكاتب العراقي: «الآن تجد الولايات المتحدة نفسها في مأزق، وهي كالعادة مستعدة للتضحية حتى بأقرب حلفائها لضمان مصالحها، وبلا شك، ستضحي بالحكومة الحليفة وبرموزها، بعدما وصمتهم تاريخياً بأنهم أسوأ من يمكن أن يحكم في العراق». ويتابع: «مع ذلك علينا ألا نتعجل الأمور، لأن الولايات المتحدة لم تأتِ إلى العراق لتذهب بسهولة أو بصعوبة، لذلك، فإن البحث عن البديل ليس بالأمر الهيِّن، ولا تزال هناك العديد من أوراق اللعب، ومنها خلط التحالفات السياسية القائمة حالياً، وإعادة توزيعها، وتطعيمها ولو بالنزر اليسير من التوجه الوطني محلياً، وفسح المجال لدول أخرى عربية وإقليمية ودولية، للمشاركة معها في إيجاد الحلول، ولا سيما دول الجوار، والأمم المتحدة التي من المتوقع أن يكون لها دور مستقبلي في حل المشكلة العراقية».