strong>غزة ـــ رائد لافي
تفتح «الأخبار» ابتداء من اليوم ملف الأمن الداخلي الفلسطيني في أعقاب حالة الفوضى المتفشية في قطاع غزة خصوصاً، وفي أعقاب حالة «صدام الصلاحيات» بين وزير الداخلية هاني القواسمي ورؤساء الأجهزة الأمنية المنتمين بمعظمهم إلى حركة «فتح»

الحديث عن الواقع الأمني الفلسطيني، لا بد أن يمرّ عبر بوابة الواقع التنظيمي لحركة «فتح»، التي يمثّل عناصرها وأعضاؤها عصب الأجهزة الأمنية الفلسطينية، في نتاج 12 عاماً من التفرّد «الفتحاوي» في الحكم، عملت خلالها على إضفاء الصفة الحزبية على المؤسسة الأمنية والمدنية.
وظهرت سلبيات هذا الواقع الذي كان مستتراً خلف «العباءة» الفتحاوية، عقب فوز حركة «حماس» في الانتخابات التشريعية مطلع العام الماضي، وعجزها عن التحكم في مفاصل سلطة، أصبحت ذات رأسين أحدهما «حمساوي» تمثله الحكومة، والآخر «فتحاوي» ممثلاً في الرئاسة، وقاعدة موظفين يحركها الولاء التنظيمي لحركة «فتح».
ونتيجة طبيعية لغياب الانسجام بين الرأسين، وغياب المهنية التي تحكم العلاقة مع القاعدة، وقع الاقتتال الداخلي، الذي مثّل عناصر الأمن طرفه الرئيس لمصلحة «فتح»، فيما تنامت مظاهر الفلتان الأمني، لتصل الذروة خلال «عام الحكم الحمساوي» مع غياب أدوات تعزيز سيادة القانون.
الأزمة الداخلية ليست وليدة فوز حركة «حماس»، التي نكأت الجراح، لتجد حركة «فتح» نفسها «حبلى» بالصراعات الداخلية، التي تأخر موعد ولادتها عاماً كاملاً كانت فيه الحركة مشغولة بالصراع مع غريمتها الأولى.
ولا يمكن قصر الأزمة الحادة التي تنهش دور حركة «فتح» وكيانها في سبب وحيد، أو حصرها في إطار ضيّق ينتظم في وجهة بحث واحدة، بنيوية كانت أم سياسية أم مصلحية، فمفاعيل أزمة «فتح» ترتكز على قواعد وإشكاليات متداخلة ومتشابكة، بحجم تداخل وتشابك الأدوار والمهمات والوظائف والممارسات التي اضطلعت بها «فتح» منذ تأسيسها حتى اليوم.
ورغم وضوح أسباب الأزمة «الفتحاوية» وتجلياتها، ومستوى التشتت والتراجع والضياع التاريخي الذي انتقل بها من حال الحكم إلى واقع المعارضة السلبية، قبل أن تشارك «حماس» مضطرة في حكومة الوحدة، فإن جهداً داخلياً حقيقياً ومراجعة تقويمية صائبة لانتشال الحركة من وهدتها السحيقة لا تزال غائبة عن الواقع، وبعيدة عن ملامسة الأوتار الحساسة للأزمة ومسبباتها الحقيقية. هذا الواقع كان له انعكاسات سلبية وخطيرة على الساحة الفلسطينية وما تمر به من أزمات متلاحقة، وخصوصاً على الصعيد الأمني في ظل تنامي مظاهر الفلتان وعجز الأجهزة الأمنية ذات «الولاء الفتحاوي».
أسباب الأزمة
يرى مراقبون أن أسباب الأزمة الداخلية في حركة «فتح» والسلطة عموماً ليست وليدة اللحظة، وجذورها ممتدة لسنوات طويلة مضت، ومردها يكمن في أسباب عديدة، أهمها سياسة التفرد في القرار ومصادر التمويل التي كان ينتهجها الزعيم الراحل ياسر عرفات. ورغم سلبية هذه السياسة فإنه كان ناجحاً في قيادة الحركة بما كان يتمتع به من قدرات وكاريزما، وهو ما لا يتوافر في الرئيس محمود عباس، فغرقت «فتح» في أزماتها التنظيمية، وانعكس ذلك على الساحة الفلسطينية.
ووفقاً لأستاذ العلوم السياسية في جامعة النجاح الوطنية الدكتور عبد الستار قاسم، فإن «ترتيب حركة فتح والسلطة خضع لمزاج عرفات، الذي كان متفرداً في القرار فوضع على رأس كل جهاز أمني ومؤسسة مدنية أشخاصاً يكنون العداوة والبغضاء بعضهم لبعض، وبالتالي بقي الصراع قائماً على النفوذ والمال. وبعد وفاته، والانتخابات التشريعية الثانية التي فازت فيها حماس، لم يجد هؤلاء بينهم شخصاً قوياً يجمعون عليه، فأجمعوا على شخص ضعيف وهو عباس، فبقي الصراع قائماً فيما بينهم ومن دون حكم، حيث كان في السابق أبو عمار بمثابة الحكم القوي وبإمكانه أن يجمعهم وقتما شاء، ليزداد واقع الحركة صعوبة مع صعود طرف خارجي ينافس هؤلاء المتنفذين على نفوذهم، فالتأموا جميعاً في النهاية لمنافسة حركة «حماس»، فكانت الغلبة في داخل حركة «فتح» للفئات المسلحة على حساب الفئات المدنية، التي التقت ارادتها في محاربة «حماس» مع الارادة الخارجية لإفشال الحركة. والنتيجة كانت الاقتتال».
ورأى المرشح السابق لرئاسة السلطة أنه «لا قيادة تاريخية حالياً لحركة فتح، تستطيع ضبط الاوضاع الداخلية فيها، إذ إن اللجنة المركزية كانت مجيّرة لمصلحة عرفات، والمجيّر لا يمكن أن يكون قائداً، وخضعت مراكز النفوذ داخل اللجنة لمن يمتلك المال». وقال إن «كل عضو في اللجنة له زعران، وبالتالي فإن حركة «فتح» عبارة عن شركة وليست تنظيماً حقيقياً، والقيادة الموجودة تمسك بأطراف الحركة بواسطة المال الاميركي بالدرجة الاولى، والسيطرة الحقيقية داخل الحركة للتيار الذي يمتلك هذا المال، الذي يأتي عادة للمقربين من الادارة الاميركية مثل (القيادي البارز) محمد دحلان، وهو بالمناسبة القادر على الاستقطاب الحقيقي داخل الحركة بواسطة هذا المال، وستستمر الولايات المتحدة في ارسال الاموال بغية إحداث فتنة في المنطقة بأكملها لا على نطاق فلسطين فقط».
ويرجح قاسم أن تستمر الأزمات الداخلية، ويعود الاقتتال الداخلي، وقد يشهد تطوراً بامتداده إلى الضفة الغربية، مشيراً إلى أن حركة «فتح» لا تستطيع الصمود طويلاً أمام «حماس» التي تعدّ تنظيماً حقيقياً ويتمتع بالانضباط الداخلي، ولذلك من الوارد جداً أن تنحصر حركة فتح مثل فصائل كثيرة في منظمة التحرير.
«فتوح»
أما الكاتب والباحث مؤمن بسيسو، فيرى أنه لا يمكن الحديث عن «فتح» واحدة هذه الأيام، بل عن «فتوح» كثيرة لا رابط أو انسجام بينها في غالبية الأحيان، أي أن الحركة تحولت بفعل الفوضى التنظيمية الداخلية إلى مجموعات متناثرة، يعمل كل منها في معزل عن الآخرين، ولا ريب أن هذه الحال شكلت نتاجاً لجملة من الأخطاء والممارسات التي سقطت فيها قيادة «فتح»، وعطلت بموجبها الحياة التنظيمية، وكرست مبدأ الولاءات الشخصية بديلاً من الولاءات الوطنية والتنظيمية، وغذّت حالة الاصطفاف الداخلي لمراكز القوى والتنافس غير المشروع بين أجنحة الحركة ومراكزها المتعددة، وهو ما أحال الحركة إلى جسم هلامي، متعدد الاستقطابات والمرجعيات.
وأضاف بسيسو أنه منذ انعقاد المؤتمر العام لحركة «فتح» في دورته الأخيرة عام 1989، شهدت الحركة بأجهزتها وبُناها التنظيمية تكلساً حاداً وجموداً كاملاً، أفقدها التواصل مع قواعدها، وأحدث فجوة تاريخية كبيرة، وشروخاً هائلة في جُدُر العلاقات المتبادلة معها، ولم يعد للتجدد أو الارتقاء التنظيمي مكان في سياق الأجندة الفتحاوية الداخلية، فاللجنة المركزية والمجالس والهيئات القيادية في «فتح» بقيت على حالها من دون تغيير أو تبديل، وبقي شخوصها متربعين على مواقعهم القيادية من دون أي بادرة لتغيير داخلي، أو مؤشر إلى انتخابات داخلية في إطار إحياء وتفعيل المؤتمر العام للحركة، وهيئات الحركة الأخرى.
وأضاف بسيسو أنه «مع تأسيس السلطة عام 1994، كان واضحاً احتكار القيادة الرسمية لـ «فتح» للقرار، وهيمنتها على مفاصل واتجاهات السياسة الفتحاوية، واستئثارها بقرارات التعيين والاختيار للوظائف السلطوية، من دون أي تشاور مع هيئاتها وأجهزتها الداخلية، وهو ما أورث شعوراً متعاظماً بالنقمة التي استحالت إلى احتقان داخلي بالغ، ورغبات متصاعدة في التمرد والانقلاب بين آونة وأخرى. والأكثر خطورة أن هذه القيادة اختزلت في شخص رئيسها الراحل ياسر عرفات، بحيث بات عرفات مُمسكاً بكل خيوط اللعبة وأدوات المال والقرار، وفق سياسته المعروفة التي اعتمدت نهج الترضيات والتسكين المؤقت للمشكلات والأزمات، والتلويح بالعصا والجزرة في وجه المخالفين، من دون أي اتجاه فعلي لعلاج أزمة التواصل بين الأجيال، أو إشراك الأجيال القيادية الجديدة تدريجياً في الهيئات العليا ودوائر صنع القراروقال بسيسو إن الجيل الجديد داخل «فتح» وجد نفسه في مواجهة سافرة مع الحرس القديم بقيادة عرفات، ليبدأ نوع من سياسة الشد والجذب بين الطرفين، إذ بادرت تكتلات مهمة تنتمي إلى الجيل الجديد، إلى إقامة محور مانع في مواجهة عرفات والقيادة الرسمية، وتحيّنت الفرصة أكثر من مرة للنيل من خصومها، وتسجيل نقاط تراكمية في مضمار المواجهة الخفية معهم، وصولاً إلى حشرهم في الزاوية، وإجبارهم بشكل أو بآخر على الاستجابة لمقتضيات التغيير وإصلاح البنيان القيادي الداخلي.
واشار إلى أن «هذا التيار، الذي تشكلت ملامحه القيادية من دحلان وشخصيات قيادية شابة، اعتبر جهده مشروعاً وقائماً على أساس إصلاحي، فيما لم تتوانَ القيادة الرسمية عن اتهامه بالعبث والتخريب، بل وصل الأمر بالبعض حد اتهام عناصره بالخيانة والتواطؤ مع الاحتلال، والتساوق مع جهوده المحمومة لإسقاط القيادة الفلسطينية آنذاك، واستبدالها بقيادة بديلة أكثر قبولاً واعتدالاً، وأكثر استعداداً للتجاوب مع المطالب والاشتراطات الإسرائيلية إزاء ضرب المقاومة ووقف الانتفاضة المسلحة».
وبحسب بسيسو فإن العلاقة بين القيادتين بقيت بين شدّ وجذب حتى وفاة عرفات نهاية عام 2004، وما أفرزته من إمكانية حقيقية للإصلاح والتغيير الداخلي، إلا أن القيادة الرسمية لم تخطُ خطوة واحدة باتجاه التصالح مع الأجيال الجديدة فيها، وبقيت تطلق الوعود الخاصة بالإصلاح الداخلي، من دون فعل حقيقي، ما أعاد إلى الواجهة تجليات ومظاهر الصراع غير المعلن بين الطرفين، وأذكى محاولات الانشقاق والانقلاب على القيادة الرسمية للحركة، وخصوصاً إثر الخسارة القاسية والهزيمة التاريخية التي حاقت بالحركة في الانتخابات التشريعية.
وأضاف بسيسو «رغم غياب الحسم الداخلي باتجاه إيجاد صيغة مقبولة وتوافقية بين مستويات الأجيال في الحركة إلا أن التطورات التي أفرزتها الأشهر الأخيرة في سياق حال المناكفة التي انتهجتها «فتح» مع «حماس» وحكومتها، أبرزت رجحاناً لكفة التيار الذي يقوده دحلان، الذي راجت اتهامات واسعة بحقه بتلقي دعم إسرائيلي وأميركي مكنه من حشد تيار واسع داخل الحركة في مضمار المواجهة مع «حماس».
وقال بسيسو: «إن أشكال الدعم الممنوح لدحلان الذي أكدته مصادر متضافرة من أكثر من اتجاه قد منحته حظوة التأثير الكبير في مسار حركة فتح واتجاهاتها وسياساتها ومواقفها أكثر من أي وقت مضى، وهو ما اصطلح عليه البعض بتسميته اختطافاً لتاريخ الحركة وقرارها وكيانها في لحظة غفلة مصيرية، وبات كثير من أجنحة الحركة ومحاورها رهناً لإرادته وإملاءاته واتجاهاته الخاصة التي تتركز أساساً في ميدان مواجهة «حماس» وحكومتها دون أي أحد آخر. ومع ذلك فإن الاصطفاف الفتحاوي الداخلي في صيغته الراهنة التي منحت تفوقاً آنياً لدحلان على محاور الحركة وأجنحتها الأخرى بما فيها قياداتها التاريخية، لا يتوقع له أن يستمر طويلاًَ إذا ما نحت الأوضاع الفلسطينية الداخلية منحى التهدئة».
وشدد بسيسو على أن تعطّل الحياة التنظيمية الداخلية لـ«فتح»، وغياب الأسس والمبادئ الديموقراطية الحقيقية التي تحكم عناصر المعادلة الفتحاوية الداخلية، أصاب الحركة بحال من الشلل والجمود الداخلي، وحجب عنها إمكانيات التطور والارتقاء، وحجزها عن مكامن الفاعلية والتأثير. فلا نظرية تنظيمية تحتكم إليها «فتح» في سلوكها وأدائها الداخلي، ولا لوائح داخلية تنظم عمل وواجبات وحقوق عناصرها ومستوياتها المختلفة، ولا هياكل أو بنى أو أجهزة داخلية تحظى بالتوقير والاحترام، وتملك القدرة والصلاحيات للتقدم والنهوض، ولا حراك داخلياً يستنهض أبناء الحركة ويُعلي هممهم في مواجهة الأزمات التي تعصف بكيانهم، ولا مفاهيم أو ممارسات ديموقراطية تبعث مؤسسات الحركة من رقادها الطويل، وتحيي فيها روح المبادرة والعزم والإصرار، وتضمن لها التواصل والاستمرار.
وأشار إلى أن كل ذلك غائب أو مغيب عن واقع المشهد الفتحاوي الداخلي، منذ أكثر من سبعة عشر عاماً، ولا تبدو في الأفق القريب أية إشارات تبشر بتحول ديموقراطي وشيك، أو حتى إحياء محدود للجسم الفتحاوي الخامد، ما يعني أن الأزمة داخل «فتح» لن تلبث اشتداداً وتصاعداً وضراوة.
وقال إن رحيل عرفات خلّف فراغاً هائلاً في حركة «فتح» لم يستطع خلفه عباس أن يشغله، ما أسهم في تعميق الفوضى والانقسام الداخلي، وخصوصاً في ظل ضعف الشخصية القيادية لعباس، وافتقاره إلى الحزم في اتخاذ القرار وضبط الأوضاع.
ورأى بسيسو أن عنصر التنوع والانفتاح الأيديولوجي الكامل الذي ميّز «فتح» طيلة المرحلة الماضية، لم يعد اليوم ميزة إيجابية تستوعب الجميع، بقدر ما أضحى عبئاً ثقيلاً يستنزف الحركة، ويهدر طاقاتها وقدراتها، ويكرّس خلافاتها وشقاقاتها، ويقذف في وجهها الكثير من ذوي المصالح والأغراض الخاصة، ويحرمها مقوّمات الاستمرار الواثق، والفكر الموحد، والأيديولوجيا الجامعة، والوحدة الداخلية المنشودة. ولم يعد سراً أن المصالح الخاصة والطموحات الشخصية تقف وراء الكثير من المشكلات والأزمات التي تعصف بالحركة، وتحول بينها وبين الوحدة والتوافق المشترك.
وأشار إلى أن «فتح» طفحت بعد تأسيس السلطة بالكثير من ذوي المصالح والأغراض الخاصة الذين قدّموا مصالحهم الشخصية والخاصة، واستخدموا الحركة وسيلةً للاستثمار والانتفاع والصعود الشخصي، حيث إن طغيان السعي لتحقيق المصالح الخاصة والامتيازات الشخصية طال أغلب مستويات الحركة، ما أدّى إلى تأجيج نوازع الصراع والشقاق فيها، معتبراً أن الحل يقتضي تغيرات عميقة وإصلاحات جذرية في بنية الهيكل والسياسة الفتحاوية الراهنة.
‏‏