strong>باريس ــ بسّام الطيارة
صدقت الاستطلاعات، ووصل مرشح اليمين نيكولا ساركوزي إلى الإليزيه، في نهاية سباق من المرجح أن يغيّر وجه السياسة الفرنسية، ولا سيما أن الداخل كان أساس الحملات التي قادته إلى الفوز

ربح نيكولا ساركوزي رهانه، وانتخب رئيساً سادساً لفرنسا الحديثة. انتهت الانتخابات. صوّت الشعب، وحقق ساركوزي انتصاراً ساحقاً لا جدال فيه. اختارت فرنسا بمشاركة كثيفة للناخبين الطروحات اليمينية الليبرالية والإصلاحات التي حمّلها الرئيس الجديد برنامجه الانتخابي بكل وضوح ومن دون مواربة.
ويشكّل هذا الانتصار الواضح أداة سياسية لتنفيذ البرنامج الساركوزي. إلا أن هذه النتيجة تحمل الكثير من المعاني التي بدأت الصحافة والأحزاب الفرنسية تنكب على دراستها لاستشفاف «درب فرنسا الجديد» وتبيان الخطوط التي ظهرت في المجتمع الفرنسي وانعكست على وجهه السياسي؛ جيل جديد من السياسيين حلّ محل «الطاقم العتيق».
ويرى البعض في هذا تجديداً للحياة السياسية، إلا أن ما تحمله هذه النتيجة من «جديد» لا يتوقف عند تدرّج الأجيال؛ فللمرة الأولى تنتخب فرنسا رئيساً من أصول مهاجرة، وهو أمر كبير جداً بالنظر إلى تاريخها وإلى بعض الكتابات التي كانت «تعيّر نابوليون بأصوله الكورسيكية».
ونجد في طيّات هذا التحول لدى الناخب الفرنسي بعض «التناقض الذي يحمله برنامج ساركوزي». فهو، رغم إنكاره الشديد في الأيام الأخيرة، استعمل عامل التخويف من الهجرة والمهاجرين لجذب أصوات اليمين المتطرف. قد يرى البعض وراء اليمين المتطرف «الخوف من الإسلام» بشكل عام والعرب بشكل خاص، إلا أن رفض اليمين المتطرف للعمالة الأجنبية لا يتوقف على المهاجرين من أصول عربية وأفريقية، بل يطال أيضاً الوافدين من أوروبا الشرقية.
فمواقف هذا اليمين، الذي قطف ساركوزي أصواته، هي قبل كل شيء مواقف شوفينية خالصة. ويرى بعض علماء الاجتماع في وصول رئيس من أصول مهاجرة، وفي عائلته المقربة من «دم يهودي»، علامة إيجابية جداً يرحب بها بعض المدافعين عن الفرنسيين من أصول مهاجرة من الذين صوتوا ضد ساركوزي، ويقولون إن هذه السابقة هي علامة تقدّم تعزز «المصعد الاجتماعي» وتعطي بارقة أمل لذوي الأصول المهاجرة كلهم.
وما تقدّمه هذه الانتخابات من جديد هو غياب السياسة الخارجية عن الخطاب الانتخابي، وحتى عندما تطرّق إليها ساركوزي في الأيام الأخيرة كانت الأسباب الداخلية تختبئ وراءها: أكان ذلك في ما يتعلق بمسألة الشرق الأوسط والعلاقة مع إسرائيل أو الولايات المتحدة أو بالنسبة إلى أفريقيا ومساعدتها للتخفيف من ضغوط الهجرة غير الشرعية.
وكانت الهوية الوطنية والبطالة وراء تناول قضايا أوروبية، ومنها انتساب تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. ويقول أحد المراقبين: «للمرة الأولى ينظر الفرنسي إلى صرّته وينتخب»، بعدما كان ينظر إلى دور فرنسا في العالم ونظرة العالم إليها قبل تحديد خياراته السياسية.
ويعكس هذا «توجّهاً جديداً في المجتمع الفرنسي» لم ينتبه له اليسار أو لم يعطه الأهمية اللازمة، ما قاد إلى انهياره وخسارته الكبيرة. ويفرز هذا التوجه الجديد وجهين لفرنسا ينظران إلى المستقبل من زاويتين نقيضتين.
وقد أثبت وصول ساركوزي أن التوجّه الذي ينظر إلى «المثال الأنكلوساكسوني» هو المهيمن على شرائح واسعة من المجتمع الفرنسي؛ فالناخب الذي صوّت لساركوزي يرى في الطروحات الليبرالية حلاً لمشاكله اليومية الاقتصادية. فالمرشح اليميني يعرض عليه «بحبوحة اقتصادية في مقابل عمل أكثر»، وهذا ما يناسب أطيافاً واسعة من الشعب الفرنسي التي تعمل جاهدة من دون الحصول على فتات من الثراء الذي تراه مفروشاً عبر الوسائل الإعلامية ومؤشرات البورصة. وهي بخلاف الماضي، لم تعد تلتفت إلى ما يمكن أن يحصل عليه «من لا عمل لهم»، بل تريد فقط العمل على «الخروج من النفق».
ويضع المرشح اليميني عرض البحبوحة المنتظرة في إطار «عودة الأمن والنظام»، وهو ما تراه الطبقات الجديدة «إطار الأمان لراحتها الاقتصادية الموعودة». وهي عانت كثيراً في السنوات الأخيرة من ارتفاع نسب العنف في محيطها المباشر، لذلك فهي مستعدة «لابتلاع الكثير من الأفاعي» في مقابل بعض من الأمن، حتى لو اضطرت للتغاضي عن «نسب من الحريات الفردية».
ويفسر هذا عدم تأثير النعوت الكثيرة التي التصقت بساركوزي، واتهامه بممارسة ضغوط على الصحافة التي رافقت الحملة الانتخابية على نتيجة الانتخاب. وبالطبع، فإن هذا التوجه هو توجه يميني لا شك فيه، وهو أمر جديد يسمح بالقول إن فرنسا اليوم باتت يمينية بشكل لم تشهده مسبقاً إلا في بعض السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية مع كل ما يمكنه أن يفتح هذا من أبواب على الماضي.
والجديد أيضاً هو أن انتصار ساركوزي جاء ليعلن نهاية مجموعة من الأحزاب، إن لم نقل كلها، إذا وضعنا جانباً الحزب الاشتراكي، وانحلال قوتها الشعبية وذوبانها؛ ففي اليسار يمكن القول إن الحزب الشيوعي قد اضمحل ليصبح قوة ثانوية لا حول لها. كما هو الأمر مع معظم القوى اليسارية المتطرفة التي اضطرت للخضوع لتبعية سيغولين رويال من دون أي مقابل. وفي اليمين انهارت «الجبهة الوطنية»، وودعت زعيمها جان ماري لوبن بالعصيان على دعوته إلى عدم التصويت، إذ تظهر الأرقام أن ما يزيد على ٦٥ في المئة من جمهور لوبن صوّت لساركوزي. وللمرة الأولى يصل رئيس جمهورية إلى الإليزيه بنسبة أصوات عالية جداً ٥٣ في المئة، رافقتها نسبة تصويت تاريخية 85 في المئة، وهو مدرك أن المعارضة على أشكالها يميناً ويساراً باتت أنقاضاً يتطلب رفعها وقتاً وجهداً وسياسة جديدة.
فهل يغتنم ساركوزي هذه الفرصة لينفذ ما وعد به، وهو في حال نجاحه يمكنه أن يدخل التاريخ من بابه الواسع، أم أنه ينام على حرير هذه القوة؟
يتسلم الرئيس الجديد مقاليد الحكم ومفتاح «الزر النووي» من جاك شيراك في تمام الساعة السادسة في السادس عشر من هذا الشهر ليدخل إلى الإليزيه ويحكم لخمس سنوات. وهو إذا إراد النجاح، عليه أن ينجح في أيامه المئة الأولى. فقد أثبتت كل الدراسات أن النجاح في حال تجديد الحكم يحصل في هذه الفترة القصيرة التي تعقب الوصول إلى السلطة. هكذا حصل مع الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران. ووصول ساركوزي اليميني إلى الحكم اليوم هو مثل وصول اليسار عام ١٩٨١، لكن بصورة معكوسة.