ساو باولو ـــ بول الأشقر
البابا «الأقل ظرافة من سلفه» يرى تراجع الكاثوليكية دليلاً لـ«تراخيها» و«نموّ الشِّلل» عطشاً للدين


غادر البابا بنديكتوس السادس عشر البرازيل، أول من أمس، بعد إتمامه أطول وأبعد زيارة له منذ أن تولى البابوية قبل سنتين، وبعدما دشن الاجتماع العام لمطارنة أميركا اللاتينية.
وباستثناء احتفال تقديس القس غالفان، أول قديس كاثوليكي برازيلي، الذي توافد إليه أكثر من مليون مؤمن في ضاحية سان بولو، لم تجمع اللقاءات مع البابا الآلاف التي كانت متوقعة. وفي هذا الصدد، لم يستقطب القدّاس الذي أجري الأحد في مدينة أباريسيدا التي تحتضن شفيعة البرازيل، في ولاية سان بولو، إلا 130 ألف كاثوليكي، فيما كان متوقعاً نصف مليون قبل شهر، وربع مليون قبل أيام قليلة.
وتردد في الأوساط الشعبية أن البابا بنديكتوس «أقل ظرافة من سلفه» البابا يوحنا بولس الثاني. لكن الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا همس لمعاونيه، بعد لقائه البابا، بأنه «وجده أكثر ظرافة مما كان يتوقع». وأكد لولا، بعد الاجتماع، تمسكه بـ«علمانية» الدولة، في جواب ضمني على مطلب بنديكتوس إعفاء الكنيسة من الضرائب والعودة إلى التعليم الديني الإجباري في المدارس الرسمية.
بأي حال، كانت الزيارة مناسبة ليلتقي بنديكتوس أكبر حشود اجتمع بها منذ تسلمه البابوية.
وقبل مغادرته البرازيل، دشن البابا «الاجتماع العام لمطارنة أميركا اللاتينية والكاريب» المستمر حتى نهاية الشهر في أباريسيدا، حيث سينتج جمع المطارنة الـ266 وثيقة تعيد تحديد سياسة الكنيسة الكاثوليكية في القارة وأولوياتها المطروحة في أميركا اللاتينية عموماً والبرازيل خصوصاً، وأهمها وقف نزف المؤمنين الكاثوليك وانتقالهم إلى الكنائس البروتستانتيّة الجديدة أو «الإنجيلية»، التي لم تحظ بلقاء مع البابا، مع أنها أضحت تمثل حوالى 20 في المئة من متديّني البرازيل.
في المقابل، كُرس لقاء للبروتستانتية الرسمية واليهودية والإسلام، التي تمثل معاً أقل من عشر «الإنجيليين»، الذين نعتوا بـ«الشِّلل» خلال الجولة البابوية، مع أنهم يمثلون أكثر من ثلاثين مليون برازيلي.
وقد لاحظ البابا في «نمو الشِّلل» إثباتاً لوجود عطش للدين، فيما رأى في تراجع الكاثوليكية دليلاً لـ«تراخيها» إن في نشاطها أو في عقيدتها.
وقد ينتج عن الاجتماع العام للمطارنة إعادة تموقع للكاثوليك في الأحياء والضواحي وتشديد على الإيمان الأصولي المسيحي، الذي تروّج له تنظيمات كاثوليكية محافظة مثل «الأوبوس ديي» وشبيهاتها البرازيلية، فيما كان البابا يوحنا بولس الثاني قد حاول الاعتماد في هذا التحدي على تنظيمات كاثوليكية أخرى، أيضاً محافظة، لم تتردد وقتها في اللجوء إلى أساليب الجذب الإستعراضية نفسها التي يستعملها الإنجيليون.
ويتوقع أن يكون الاجتماع الخامس لمطارنة أميركا اللاتينية، وكالعادة منذ مجمع الفاتيكان الثاني في أواسط الستينات، مناسبة للمقارنة بين كنيسة مشدودة لواقع أميركا اللاتينية وكنيسة أخرى أقرب لتوجهات المركز الفاتيكاني.
وتكمن المفارقة في أن الكنيسة الأميركية اللاتينية كانت «يسارية»، عندما كانت الأنظمة السياسية يمينية كما تدل وثائق اجتماع ميديلين لعام 1968، وبويبلا لعام 1979، لكنها أصبحت أكثر يمينية بدءاً من اجتماع سان دومينغوس عام 1991 الذي كرّس «الردّة» والذي ستترسخ روحيته في اجتماع أباريسيدا.
يذكر أن المطران جوزيف راتسينغر، وقبل أن يصبح البابا بنديكتوس السادس عشر، هو الذي قاد الحملة الإيديولوجية على «لاهوت التحرير»، عندما أوكلت إليه بصفته مسؤولاً عن العقيدة خلال عهد يوحنا بولس الثاني مهمة تفكيك الأطر التنظيمية والعقائدية للكنيسة اليسارية في أميركا اللاتنية، والتي كان يرى فيها «حصان طروادة للماركسية». وفي حينها، تمّ إسكات أكثر من مئة لاهوتي، بينهم البرازيلي ليوناردو بوف.
وصادفت زيارة البابا الأخيرة إلى البرازيل، عملية إسكات اللاهوتي الإسباني سوبرينو، الذي يعيش في السلفادور، ومنعه من الكتابة والكلام. وإذ يرى بنديكتوس في «لاهوت التحرير» تلوثاً إيديولوجياً للعقيدة الكاثوليكية، يرى التيار المرتبط بما يسمى «المجموعات الدينية القاعدية» بأن ما يحركه في هذا الاتجاه ليس الانحراف الإيديولوجي، بل قناعاتهم الإنجيلية بأنهم بذلك يقلدون المسيح في ظروف أميركا اللاتينية.
في المقابل، يرى الاتجاه المحافظ المتناسق مع الفاتيكان ضرورة الالتزام الحرفي بالعقيدة وعدم التراجع أمام الإنجيليين والاستثمار في التربية الدينية وخوض المعركة حول «الدفاع عن الحياة» والتصدي لمحاولات شرعنة الإجهاض والتلاشي الأخلاقي في القارة.
ويتوقع أن يتضمن النص الذي سيصدر عن «أباريسيدا» في نهاية الشهر الجاري عبارة «خيار الفقراء بالأولوية»، الذي هو العلامة المسجلة لـ«لاهوت التحرير»، والذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من قاموس كنيسة أميركا اللاتينية.
ويرى «التقدميون» في هذا الخيار وجهاً آخر لعقيدتهم الدينية، في حين يرى «المحافظون» ضرورة الفصل الصارم بين العقيدة التي لا تتغير، وبين عمل الكنيسة الاجتماعي الذي يجب أن يستمر.
ومنذ اجتماع سان دومينغوس، حسم ميزان القوى لمصلحة القوى المحافظة، لكن بعض المراقبين يرون أن مجرد انعقاد الاجتماع العام للمطارنة في البرازيل، بدلاً من السينودوس الذي كان يفضله البابا، يعدّ دليلاً على استمرار نوع من المقاومة الصامتة في صفوف الكنيسة الأميركية اللاتينية، التي تحاول تغليب أولوياتها على أولويات الفاتيكان، والتي قد تجد في صعود اليسار في القارة نوعاً من الحليف في الحوارات الساخنة التي ستملأ اجتماعات أباريسيدا المغلقة.


مجرد انعقاد الاجتماع العام للمطارنة في البرازيل، بدلاً من السينودوس الذي كان يفضّله البابا، يعدّ دليلاً على استمرار نوع من المقاومة الصامتة في صفوف الكنيسة الأميركية اللاتينية التي تحاول تغليب أولوياتها على أولويات الفاتيكان