حيفا ــ فراس خطيب
  • النكبة الفلسطينية هي «قصة موت». بدايتها واحدة، واضحة كعين الشمس. مأساة بدأت ولم تنته. تتّخذ مع مرور كل عام شكلاً آخر. من عاصرها يعش مأساة الذكرى، ومن يَنْسَهَا، يعش تزوير الحقيقة. هي رواية عن حقيقة

    أرادوا السيطرة على أكبر مساحات من فلسطين الانتدابية ومحو غالبية قراها

    النكبة، لا يمكن أن تكون حدثاً تاريخياً عادياً، هي قصة مكان كان ذات يوم آمناً، لكنّه طُهّر عرقياً. وكلما ابتعدنا عن حدوث النكبة، اتّضحت تفاصيل أخرى، كل واحد منها يشير إلى أنَّ الشعب الذي عاصر النكبة، ليس منكوباً قدر ما طُهّر عرقياً.
    يقول المؤرخ إيلان بابي، في ملخص كتابه «التطهير العرقي» الصادر حديثاً في بريطانيا (سيصدر قريباً بترجمة عربية)، «كان هدف إسرائيل عام 1948 معروفاً ونصت عليه الخطة «دال»، التي تبنّتها القيادة العليا للهاغاناة في آذار 1948. كان الهدف هو السيطرة على أكبر مساحات من فلسطين الانتدابية ومحو غالبية القرى والأحياء العربية في المدن الفلسطينية من حدود الدولة اليهودية المستقبلية. كان التنفيذ أكثر انتظاماً وشمولية مما رُسم في الخطة، وخلال سبعة أشهر، دمرت 531 قرية عربية وأُخلي 11 حياً عربياً من سكانه في المدن. رافقت الإخلاء والطرد الجماعي مجازر وعمليات اغتصاب وسجن للرجال (عرّف الرجال بأنهم الذكور الذين تجاوزوا العاشرة من العمر) في معسكرات العمل لفترات تجاوزت العام».
    ويضيف بابي «في عام 2006، يمكن أن تطلق كل هذه الصفات على سياسة التطهير العرقي. وبشكل أكثر تحديداً، فإن سياسة التطهير العرقي كما عرّفتها الأمم المتحدة تهدف إلى تحويل منطقة تسكنها أعراق مختلطة إلى مساحة تتميز بالنقاء العرقي، حيث تعدّ كلّ الوسائل مبررة لتحقيق ذلك».
    نفذّت العصابات الصهيونية (وهي الهاغاناه والأرغون والليحي وغيرها) التطهير العرقي عن طريق محو القرى العربية وتنفيذ عشرات المجازر، التي لا يزال جزءاً منها غير معروف في مسار التاريخ الفلسطيني. ومن أبرزها مجازر دير ياسين وسعسع والصفصاف وعين زيتون وعيلبون والطنطورة وطيرة حيفا، وبلد الشيخ. إضافة إلى عشرات المجازر التي نُفذت قبل عام 1948، وتحديداً منذ بدء الاستيطان الصهيوني عام 1878، كما يشير إلى ذلك المؤرخ الإسرائيلي دان ياهاف في كتابه «طهارة السلاح».
    دير ياسين... شاهد على التطهير
    كانت دير ياسين قرية فلسطينية وادعة تبعد عن مدينة القدس 6 كيلومترات تقريباً. وفي صباح يوم الجمعة في التاسع من نيسان عام 1948، داهمت العصابات الصهيونية «الأرغون» و«شتيرن» سكان دير ياسين، وفتكت بهم من دون تمييز بين الأطفال والشيوخ والنساء، ومثّلت بجثث الضحايا وألقت بها في بئر القرية. وكانت غالبية الضحايا من النساء والأطفال والشيوخ، وقد وصل عدد شهداء المجزرة إلى 254، رغم أن المقاومة كانت قوية في البداية.
    ويورد كتاب المؤلف وليد الخالدي عن دير ياسين الكثير من القصص المروّعة، منها عن تلك المرأة التي فقدت أفراد عائلتها، واختبأت مع شقيقها الصغير في إحدى الغرف المنزوية من بيت هدم على أهله. اقترب الجندي منها، وأراد قتل الفتى. طلبت منه ألا يفعل، ركعت كي لا يفعل، وأعطته ما تملك من نقود. وقالت له، اقتلني بدلاً منه. أخذ منها النقود، صوّب البندقية نحوه وأرداه قتيلاً.
    وقد علّق قائد وحدة «الهاغاناه» على وضع القرية المنكوبة في ذلك اليوم، مناحيم بيغن، قائلاً «كان ذلك النهار يوم ربيع جميلاً رائعاً، وكانت أشجار اللوز قد اكتمل تفتّح زهرها، ولكن كانت تأتي من كل ناحية من القرية رائحة الموت الكريهة ورائحة الدمار التي انتشرت في الشوارع، ورائحة الجثث المتفسخة التي كنا ندفنها جماعياً في القبر».
    وأضاف بيغن، الذي أصبح في ما بعد رئيساً للوزراء، «ما وقع في دير ياسين وما أذيع عنها ساعدا على تعبيد الطريق لنا لكسب معارك حاسمة في ساحة القتال، وساعدت أسطورة دير ياسين بصورة خاصة على إنقاذ طبريا وغزو حيفا».
    كما روى الأديب حنا ابو حنا، في كتابه «مهر البومة»، مشاهد من سقوط طبريا قائلاً «في الساعة الحادية عشرة من ليل اليوم الخامس، استدعى القائد البريطاني زعماء العرب واليهود. حضر صدقي الطبري عن العرب، ودهّان رئيس بلدية طبريا عن اليهود. قال البريطاني: نحن مسـؤولون عن البلد حتى 15 أيار موعد انتهاء الانتداب، لذلك عليكم أن توقفوا الاشتباكات حالاً وإلا فإني سأضرب بالمدافع أي فريق يشرع بإطلاق النار. امتدّت الهدنة نحو شهر وبدت الأحوال كأنها هادئة. لكنّ مجزرة دير ياسين التي كانت في التاسع من نيسان بعثت في القلوب رعباً وذهولاً. إذن المعركة ليست بين قوات مسلّحة. إنهم يقتلون الشيوخ والحوامل والأطفال وكل من يطاله سلاحهم ليقتلعوا الناس من بيوتهم وأراضيهم لتخلو لهم البلاد. أرادوا لتلك المجزرة أن تكون بوقاً ينذر من يبقى بالموت ويدعو إلى الرحيل كلّ من يريد الحياة».
    الصفصاف... شاهدة على الاغتصاب
    وقعت مجزرة الصفصاف، قضاء صفد، في التاسع والعشرين من تشرين الثاني 1948. راح ضحيتها ما يقارب 62 شهيداً. يقول عنها يوسف نحماني، في مذكراته، إنَّ «الأعمال الوحشية التي ارتكبها جنودنا في قرية الصفصاف كانت في منتهى البشاعة، فبعدما استولى الجنود على القرية، ورفع سكانها الأعلام البيضاء، قاموا بجمع السكان، وفرّقوا بين الرجال والنساء، ثم قيّدوا أيدي الرجال بعدما أوقفوهم في صف واحد، وأطلقوا النار عليهم وقتلوهم جميعاً، وعددهم نحو 60 رجلاً، ثم ألقوا بهم داخل حفرة واحدة؛ وبعد ذلك توجهوا للنساء وقاموا باغتصابهن، ثم نقلوا النساء إلى غابة مجاورة وقتلوهن، وقد رأيت امرأة مقتولة وبين ذراعيها طفلها المقتول هو الآخر».
    كما نفّذت عصابة «البلماح»، التابعة لـ «الهاغاناة»، «مجزرة سعسع» في الرابع عشر من كانون الأول 1948. ودمرت عشرين منزلاً فوق رؤوس أصحابها، بالرغم من أن أهل القرية قد رفعوا الأعلام البيضاء. وكانت حصيلة هذه المجزرة استشهاد نحو 60 من أهالي القرية، معظمهم من النساء والأطفال.
    وتروي اليهودية نتيبا بن يهودا، في كتابها «خلف التشويهات»، عن مجزرة عين الزيتون فتقول «في 3 أو 4 أيار 1948 أعدم نحو 70 أسيراً مقيداً في قرية عين الزيتون قضاء صفد».
    ويؤكد الإسرائيلي ثيودور كاتس، في بحث جامعي تقدم به للحصول على لقب الماجستير من جامعة حيفا، أن ما حدث في الطنطورة كان مذبحة على نطاق جماعي.
    ويذكر كاتس أن القرية «احتلتها الكتيبة 33 من لواء الكسندروني في الليلة الواقعة بين 22 و23 آيار 1948، وانهمك الجنود لساعات في مطاردة دموية في الشوارع، وبعد ذلك أخذوا يطلقون النار بصورة مركزة على السكان. وفي المقبرة التي دفنت فيها جثث الضحايا، الذين وصل عددهم إلى 200، أقيمت لاحقاً ساحة لوقوف السيارات كمرفق لشاطئ مستعمرة دور على البحر المتوسط جنوب حيفا».




    الخطة «دال»... وتغيير المعالم

    الخطة «دال»، حسبما كتب المؤرخ الفلسطيني جوني منصور، وضعت على يد قيادة «الهاغاناة» بإشراف ديفيد بن غوريون وغيره من العسكريين الصهاينة كمخطط شامل لترحيل الفلسطينيين وتنفيذ عمليات التطهير العرقي للفلسطينيين.
    وعرفت هذه الخطة بـ«خطة دال» (الخطة الرابعة) قبل الاعلان عن اسرائيل. وملخصها: الإسراع في طرد اكبر عدد ممكن من الفلسطينيين. وبالفعل مثّلت هذه الخطة مجمل الرؤية التوسعية للصهيونية من حيث شموليتها في تصفية الوجود الفلسطيني، بحيث يتم تفريغ مناطق فلسطينية وفرض سيطرة عسكرية عليها. وبالتالي تسعى هذه الخطة إلى تفتيت المجتمع الفلسطيني في المدن ثم في عدد كبير من الريف وتحويله إلى مشتت ولاجئ، ليس بقدرته إعادة تكوين ذاته إلا بعد عقود من الزمن، ما يتيح لاسرائيل تثبيت أقدامها في «الأرض الموعودة».
    وهناك من يعتقد أن هذه الخطة قد وضعت في آذار 1948، ومنهم من يعتقد أنها وضعت قبل هذا التاريخ، اي عشية صدور قرار التقسيم 1947. وتهدف الخطة الى تنفيذ تطهير عرقي وترحيل الفلسطينيين. وكانت السبب المركزي في تحويل الفلسطينيين الى لاجئين، وسقوط مدنهم وقراهم بيد العصابات الصهيونية، التي نفذت سلسلة من المجازر بحق الفلسطينيين في معظم القرى والمدن التي احتلتها بالقوة او باستسلام أهاليها، وذلك بهدف خلق أجواء رعب وخوف.
    وأشار منصور إلى أن الترانسفير لا يقتصر على الطرد والتهجير والاقتلاع الإنساني، بل شمل عملية ترحيل للأسماء العربية في المدن المختلطة، حيفا نموذجاً لذلك، حيث تم ولا يزال العمل جارياً، على تبديل الأسماء العربية الى عبرية ويهودية وصهيونية، فشارع المأمون أصبح «أني مأمين»، وشارع حسان بن ثابت أصبح «حوسن». وشارع أحمد شوقي أصبح شارع «غوش عتصيون»، وشارع صلاح الدين الأيوبي أصبح «هجيبوريم» (الأبطال). وكذلك تم ترحيل المكان بما هو ظاهر منه عن طريق اقتلاع أو إخفاء الصبار الذي كان دلالة على القرية العربية الفلسطينية واقتلاع الزيتون، وزراعة شجر الصنوبر أو السرو للدلالة أيضاً على أن المناطق كانت خالية وجرداء، وها هي اسرائيل تغرس ما لم يقم به الفلسطينيون من قبل.
    وبلغ الأمر برئيس بلدية الرملة في الصيف الماضي أن طالب باستبدال اسم مدينة الرملة التاريخية باسم آخر حتى لا يبقى للعرب فيها أي ذكر.
    وقامت العصابات اليهودية بتجميع معلومات كثيرة عن الفلسطينيين منذ العشرينات لتبني استراتيجيتها العسكرية الساعية وبوضوح إلى تدمير كلي للمجتمع الفلسطيني وترحيله عن مواطنه الأصلية، وتوطين مهاجرين يهود وغيرهم في فلسطين، كجزء من تطبيق الفكر الاستعماري الصهيوني المتماثل بالتمام مع أسس الفكر الاستعماري ـــ الكولونيالي الغربي.