باريس ــ بسّام الطيارة
يسلّم الرئيس الفرنسي جاك شيراك اليوم مفاتيح الإليزيه إلى خليفته المنتخب نيكولا ساركوزي، ليخرج ويتوجه إلى «شقته الخاصة بضيافة آل الحريري» على بُعد بضع مئات من الأمتار من قصر الرئاسة مقابل متحف اللوفر


بعد أربعين عاماً من العمل في الحقل العام وفي خضم الحياة السياسية الفرنسية، يغادر «الحيوان السياسي» جاك شيراك دائرة الضوء ليدخل في سجل التاريخ، فيما تقلب فرنسا صفحة «الشيراكية» التي تنتهي معها حقبة الديغولية بكل معانيها.
يدرك شيراك، كما هي حال محيطه القريب والمراقبين، أنه يخرج مهزوماً حتى ولو أن مقاليد السلطة انتقلت إلى سياسي من حزبه؛ فالجميع يعلم أن ساركوزي «فرض نفسه على شيراك» الذي استسلم أمام الأمر الواقع وموازين القوى التي لم يستطع قلبها لمصلحة أحد المقربين منه.
ويجمع كل الذين اقتربوا منه في الساعات الأخيرة على أنه «يبدو تعيساً جداً»، رغم محاولته إخفاء شعوره بالإخفاق. ويدور في خلد جميع المقربين منه سؤال يتردّدون في طرحه عن «حصانة الرئيس» التي «ينتهي مفعولها بعد شهر من خروجه من الإليزيه» أي في ١٦ من حزيران؛ إذ إن «مجموعة من الملفات القضائية» تنتظره، ومن غير المستبعد أن يصار إلى استدعائه بـ«صفة شاهد» في المرحلة الأولى لإلقاء الضوء على دوره فيها. ومع مرور الزمن، يبدو أن قضية واحدة يمكن أن تقلق تبعاتها شيراك وهي دوره في «المعاشات الوهمية» في بلدية باريس في الحقبة التي كان يترأسها، والتي حكم بسببها «ربيبه» ورئيس وزرائه السابق ألان جوبيه، وهو الحكم الذي قصم ظهر طموحه لوراثة شيراك.
وإذا قرر قضاة التحقيق اتهامه ولم يحصل شيراك على عفو خاص من الرئيس المنتخب، كما تقول بعض التسريبات، فمن المتوقع أن تتم المحاكمة في نهاية عام ٢٠٠٨. ويرى البعض أن اقتراحات المرشح ساركوزي بتقصير مدة تقادم الجناية يمكن أن تؤدي دوراً في إلغاء مختلف القضايا التي تطال مباشرة الرئيس المنتهية ولايته.
ويدرك جاك شيراك، بحكم خبرته في الحقل العام، أن «اللخبطة الإعلامية» التي لا بد وأن ترافق هذه الحملة القضائية يمكن أن تغطي على «مآثره»، وخصوصاً في حقل السياسة الخارجية التي يرى أنها الألمع والتي غطت على «جمود تحركه على الساحة الداخلية»؛
فهو على خلاف من سبقه من رؤساء، لم يفتح أي «ورشة عمل»، لا على الصعيد الإصلاحي ولا على الصعيد الدستوري. وعندما حاول مقاربة بعض الإصلاحات في حقل التربية في عهد جوبيه، واجهته ردود فعل عنيفة رافقتها تظاهرات ضخمة اضطرته إلى التراجع. وكذلك الأمر قبل سنة ونيف حين حاول سن قوانين عمل جديدة لمحاربة البطالة لدى الشباب. أما بالنسبة إلى المنشآت والمعالم الثقافية الكبرى، فهو يذهب تاركاً فقط «متحف الفنون البدائية» الذي كان وراء انشائه.
ويتفق الجميع على أن الأمر مختلف في حقل السياسة الدولية ودبلوماسية فرنسا؛ فهو منذ وصوله إلى الحكم عام ١٩٩٥، كان له دور يؤديه على المسرح الدولي. وقد يحفظ له التاريخ أنه كان وراء تدخل أوروبا في يوغوسلافيا السابقة لوقف المجازر أو أنه تصدى للولايات المتحدة حين قررت غزو العراق وحذرها من نتائج أثبتت الأيام صحتها. ولا يمكن العرب أن ينسوا «شيراك الذي نهر الجنود الاسرائيليين في شوارع القدس»، وهي صور تركت أثراً طيباً وجلبت له صفة «شيراك العربي»، الذي عامل الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات معاملة الرؤساء ونظم له جنازة رسمية لدى وفاته في باريس.
كما أنه منذ عام ٢٠٠٥، تاريخ اغتيال «صديقه» الرئيس رفيق الحريري، ارتبط اسمه بالملف اللبناني بشكل لصيق، وكان وراء الضغوط الدولية لإنشاء محكمة دولية للاقتصاص ممن يقف وراء هذه الجريمة، التي تركت تأثيراً كبيراً لديه بشكل جعل الأوساط تتكلم «عن شخصنة الملف اللبناني».
ولكن كل خطوات شيراك في الخارج لم تكن «موفقة» كما يحب أن يرى البعض. ويذكر الجميع تصريح الرئيس الفرنسي عام ٢٠٠٣ في تونس خلال زيارة رسمية حين قال «إذا كانت حقوق الإنسان هي الأكل والطبابة والتعليم والسكن، فإن تونس تتفوق على الكثير من الدول في هذا المجال». وقد احتجت حينها جمعيات حقوق الإنسان في تونس وفي فرنسا.
ويضع البعض هذه التصريحات في حساب «عفوية شيراك»، كما هي الحال حين صرح «بأن أفريقيا ليست ناضجة لممارسة الديموقراطية».
إلا أن كل هذا لا يمنع أن شيراك ترك على الساحة دولية صورة إيجابية لشخصية قوية تتناسق مع «شخصية رجال الدولة الفرنسيين» التي تنطبع في مخيلة العالم وفي طليعتهم الجنرال شارل ديغول، وربما هنا فقط يوجد الجامع الوحيد بين صورته وصورة الرجل الكبير.
وقد أراد الرئيس المنتهية ولايته أن يودع شعبه بمداخلة تلفزيونية تقربه قليلاً من ديغول، بعدما عجز عن التمثّل به خلال حكمه وفرّط بميراثه السياسي، فظهر على شاشة التلفزيون للمرة الأخيرة بصفته رئيساً للفرنسيين مشدداً على «وحدة الشعب».
وباشر شيراك مداخلته بالفخر بأنه «أتم مهماته» في خدمة فرنسا وشعبها، ونوّه كثيراً بالقدرات التي تكمن في «دولتنا». وشدّد على الأمانة «للهوية الوطنية»، داعياً الفرنسيين إلى التضامن كعائلة واحدة. ووصف هذا التضامن بأنه «كفيل بحماية فرنسا وإعطائها القوة» اللازمة لتظل في الدول الطليعية، مع اعترافه بضرورة «وجود تمايز» في وجهات نظر أطياف الشعب.
وأكمل شيراك مداخلته بالدعوة مرات عديدة إلى «الوحدة لمواجهة التحديات العالمية»، واصفاً فرنسا بأنها «أرض المساواة» التي تحمل معاني «السلام والنمو والحفاظ على البيئة».
ماذا سيفعل شيراك غداً، وهو المهتم بالشأن العام منذ أربعة عقود؟ سؤال أجاب عنه الرئيس، إذ استطرد قائلاً إنه «سيتابع مهمته في المجالات التي تهم العالم وتساعد على نشر السلام. قبل أن يتمنى التوفيق للرئيس الجديد» ويعرب عن ثقته به وبأنه «سيحرص بشدة على المضي ببلدنا إلى الأمام على دروب المستقبل».
وأكدت مصادر متعددة لـ«الأخبار» أن شيراك لن يذهب ليستريح في اليابان كما تحدثت بعض الصحف، ولن يتوجه إلى قصره في ساران في جنوب فرنسا بل سيعمل على إنشاء مؤسسة لمتابعة اهتماماته تحت اسم «مؤسسة النمو المستدام والحوار بين الحضارات». وقد تم تسجيل المؤسسة منذ أسبوع، وهو يسعى بذلك للبقاء في دائرة الأضواء الدولية التي يحبها وفي المضامير التي يعتقد أنها يمكن أن تساعد على التقارب بين الشعوب.
أما بالنسبة إلى الإجازة، فقد ذكرت أوساط مقربة من الرئيس أنه «من الممكن أن يسافر إلى جنوب المغرب» لقضاء فترة راحة قبل العودة للاهتمام بمشروعه الجديد.