قصة استعادة روسيا لنفوذها لدى العرب حبيب فوعاني
  • فقدت موسكو، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، الكثير من نفوذها في بلاد الشام. إلا أنه مع مجيء الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة في عام 2000، بدأت روسيا العمل لاستئناف العلاقات الوثيقة مع الأصدقاء التقليديين للاتحاد السوفياتي من العرب، مدفوعة بتجاهل واشنطن لتعاون موسكو غير المحدود معها بعد عمليات 11 أيلول

    تحرص موسكو على اتخاذ مواقف متناقضة مع الغرب لإثبات «سياستها المنفردة»


    تتلخص مهمة السياسة الخارجية للرئيس فلاديمير بوتين في السنوات السبع المنصرمة في استرجاع وضع روسيا كواحدة من الدول العظمى في عالم يجب أن يكون متعدد الأقطاب. وقد أولى اهتماماً كبيراً لاتّباع سياسة خارجية منفردة، مستقلة عن الغرب. وبذلك، تم التأكيد على اختلاف قيادة بوتين عن القيادة الروسية الموالية للغرب في النصف الأول من التسعينات من القرن الماضي في عهد الرئيس الراحل بوريس يلتسين. ولاحت معالم التنافس مع الغرب بشكل خاص بين عامي 2003 و2005.
    وتحت تأثير العودة إلى دور الدولة العظمى، التي أكدتها الاستقلالية والمنافسة المتعاظمة مع الولايات المتحدة، بدأ الكرملين في عام 2003 بانتهاج سياسة التقارب مع العالمين الإسلامي والعربي، كان من أبرز معالمها حضور الرئيس الروسي لقمة منظمة المؤتمر الإسلامي في ماليزيا، ووضع أطر التكتيك الروسي الجديدة في الشرق الأوسط. وبادر بوتين منذ عام 2004 إلى تفعيل الدبلوماسية الروسية بهذا الاتجاه. وقد تجلى ذلك بإقامة شراكة استراتيجية مع تركيا، وبتعزيز العلاقات مع سوريا، وبقيام الرئيس الروسي نفسه بزيارات استعراضية إلى مصر والسلطة الفلسطينية وإسرائيل، وبالاعتراف الرسمي بحركة «حماس».
    وفي ضوء هذه الخلفية، كان العدوان الإسرائيلي على لبنان في 12 تموز من العام المنصرم تحدياً جدياً لصدقية السياسة الجديدة لبوتين، بعدما فرضت هذه الأحداث على روسيا تأكيد وضعها كدولة عظمى بالفعل. وبالرغم من أن موسكو لم تستطع في الواقع أن تكون بديلاً عن واشنطن، لفقدانها وسائل التأثير على الوضع، إلا أن الدبلوماسية الروسية قامت بنشاط سلمي حثيث للتأثير على مجريات الأمور.
    وإضافة إلى ذلك، كان ينبغي ترسيخ دور موسكو الخاص في التسوية الشرق أوسطية على المستوى الجيو ـــــ سياسي. وكان ذلك ممكناً بفضل انعقاد قمة «الثماني الكبار» في مدينة سانت بطرسبورغ الروسية في 16 و17 تموز 2006، والتي تزامنت مع بدء توسيع العدوان الإسرائيلي على لبنان.
    ووصف بوتين في مؤتمره الصحافي في 16 تموز بيان زعماء مجموعة «الثماني» حول الوضع في منطقة الشرق الأوسط بأنه أحد أهم نتائج هذه القمة. وشدّد على أنه بفضل روسيا بالذات «تم التوصل إلى التوفيق بين التناقضات» حول هذا الموضوع.
    العدوان على لبنان
    خلال العدوان على لبنان، كان من الضروري لموسكو أن تثبت أنها تحتل موقعاً مهماً في تقرير سياسة المنطقة. وبعد بدء العدوان بيومين، أي في 14 تموز، أعلن عن ذلك مساعد الرئيس الروسي للشؤون الدولية سيرغي بريخودكو، مؤكداً أن «روسيا تتمتع بنفوذ تقليدي في الشرق الأوسط». وفي 12 آب، صرح وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف بأن موسكو «تؤدي دوراً نشطاً تقليدياً في هذه المنطقة».
    وبهدف استعراض مشاركتهم النشطة في حل الأزمة في لبنان، قام المسؤولون الروس (من 13 تموز إلى 12 آب) باتصالات مكثفة مع المسؤولين في الشرق الأوسط.
    إن «الحرب السادسة»، كانت الحرب الإسرائيلية العربية الأولى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ولذلك فهي كانت اختباراً للسياسة الروسية الجديدة في الشرق الأوسط بعد انهيار مبدأ الانكفاء المتوازن، الذي أعلنته موسكو الروسية، وكان من العلامات المميزة للدبلوماسية الروسية عن السياسة السوفياتية منذ بداية التسعينات من القرن الماضي.
    ويعود هذا المبدأ إلى وزير الخارجية الأول للاتحاد الروسي أندريه كوزيريف (1990ــ 1995)، الذي كان يسمى «السيد نعم»، لموافقته على جميع المطالب الأميركية والغربية، خلافاً لوزير الخارجية السوفياتية الراحل أندريه غروميكو، الذي كان يسمى «السيد لا».
    ورغم محاولات يفغيني بريماكوف الحثيثة لتغيير الوضع عندما عُيّن وزيراً للخارجية في عام 1996، ثم رئيساً للوزراء في عام 1998، فإن هذا المبدأ بقي متّبعاً في عهد بوريس يلتسين وبداية عهد بوتين، الذي بدا، من خلال تصريحاته حول الشرق الأدنى لدى تسلمه الحكم، كداعية بوذي إلى السلام بين أطراف النزاع.
    غير أن بوتين، بعد تحرره من أثقال سياسة سلفه يلتسين، عمل على التقارب مع العالمين الإسلامي والعربي، لإيمانه بأن حضارة الدولة الروسية ليست أوروبية فقط، بل شرقية أيضاً. وفي شهر آب من عام 2003، تقدمت روسيا بمبادرتها للانضمام إلى منظمة المؤتمر الإسلامي. وفي نهاية حزيران 2005، نالت روسيا في اجتماع وزراء خارجية المنظمة في الجمهورية اليمنية العضوية في هذه المنظمة بصفة مراقب.
    وانطلاقاً من ذلك، كان من المفترض على موسكو مع بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان أن تري العالم العربي أنها تساند شركاءها اللبنانيين في محنتهم.
    بيد أن موسكو عادت، في تصريحات مسؤوليها، إلى نغمة التوازن. وشدّد بوتين في مؤتمره الصحافي في 16 تموز على أن «موقف روسيا يجب أن يبقى متوازناً». ويتمثّل برأيه مغزى هذا التوازن في أنه «لدى موسكو علاقات متبادلة مع أطراف النزاع كافة، وفي ذلك ميزة وضعها».
    ووجهت القيادة الروسية سهام نقدها، وخصوصاً في بداية العدوان، إلى الطرفين معاً، وإن كانت صبّت اهتمامها على الخسائر اللبنانية بين المدنيين. أما في بداية آب، فكانت تصريحات المسؤولين الروس تتطرق بشكل أساسي إلى اتخاذ الأمم المتحدة قرارها حول الأزمة اللبنانية. واختفى منها التذكير بالجنديين الإسرائيليين الأسيرين وقصف الأراضي الإسرائيلية، وعادت للتذكير بحجم الضحايا والدمار في لبنان، في ما بدا عودة إلى تأييد الأصدقاء العرب التقليديين.
    ولوحظ في هذه الفترة شحّ في اتصالات المسؤولين الروس مع المسؤولين الإسرائيليين بالمقارنة مع تفعيلها على الاتجاه الإيراني ـــــ العربي، حيث تم أول اتصال بين فلاديمير بوتين وإيهود أولمرت فقط في 12 آب، بمبادرة من الجانب الإسرائيلي، وبعد اتخاذ مجلس الأمن الدولي القرار 1701 بشأن لبنان.
    وبالرغم من أن الأمين العام لمجلس الأمن القومي الروسي إيغور إيفانوف تعهّد باسم القيادة الروسية في 24 تموز «بأخذ وجهة نظر الدول العربية بالاعتبار في الاقتراحات الروسية حول التسوية الشرق أوسطية»، فقد صرح المندوب الروسي الدائم في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين في 30 تموز، بعد ظهور الصيغة الأولى من مشروع القرار الأميركي ـــــ الفرنسي، قائلاً «رغب بعض الأعضاء في صدور إعلان أشد حزماً، ورفض آخرون. لكن هذا النص مرضٍ». ودعا العرب إلى إعادة قراءة نص القرار. وفقط في 8 آب رفض تشوركين القبول بمشروع القرار، وعلّل ذلك بأن الولايات المتحدة وفرنسا لم تراعيا رغبات العالم العربي والحكومة اللبنانية. وفي 10 آب، أعلن تشوركين رغبة روسيا في التقدم بمشروع قرار يدعو إلى هدنة إنسانية لمدة 72 ساعة، الأمر الذي ساهم ربما في التسريع باتخاذ القرار 1701 ووقف إطلاق النار.
    الاتصالات مع «حزب الله» و«حماس»
    أصبح العدوان على لبنان امتحاناً للمفهوم الروسي حول الحوار مع كل القوى السياسية الفاعلة في المنطقة. وهذا المفهوم لا ينطبق فقط على دول مثل إيران وسوريا، بل على «حزب الله» و«حماس»، اللتين تعتبرهما الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الدول الأوروبية منظمتين «إرهابيتين».
    ولذلك، أصبحت الاتصالات مع هاتين الحركتين عنصراً مهماً في السياسة الخارجية المستقلة للكرملين. وبدأت موسكو بإقامة اتصالات سرية مع «حزب الله» عن طريق نائب وزير الخارجية الروسية الراحل فيكتور بوسوفالوك في عامي 1997ــ 1998. وفي كانون الثاني 2006، كانت روسيا أول دولة غير مسلمة تؤيّد الحوار مع القيادة الجديدة الفلسطينية الممثلة بزعماء «حماس».
    وشدّد بوتين آنذاك على أن «موقفنا بالنسبة لحماس يختلف عن الموقف الأميركي والأوروبي». وبدعوة من القيادة الروسية، زار وفد «حماس» برئاسة رئيس المكتب السياسي خالد مشعل موسكو في آذار من عام 2006. ونوّه لافروف في الشهر نفسه «بدور حزب الله السياسي في لبنان». وفي الوقت نفسه، صرح الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الروسية بأن «حزب الله» «يعتبر قوة نافذة ممثلة في البرلمان اللبناني، ومشاركة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لهذا البلد».
    وبعد أسر «حماس» و«حزب الله» للجنود الإسرائيليين، صرّح بوتين في 16 تموز بأنه لا يشعر بالندم على دعوته ممثلي «حماس» إلى روسيا. وذكر أنه «لا حاجة للتفاوض مع المريحين، بل يجب التفاوض مع من يؤثّر على الأوضاع». وفي 20 تموز، نوّه وزير الخارجية الروسية بأن هاتين المنظمتين غير متجانستين وتنقسمان إلى أجنحة «معتدلة» و«راديكالية». وفي حالة «حزب الله»، فإن الراديكاليين، بحسب رأيه، هم الذين قاموا باختطاف الجنديين، بينما المعتدلون «يقفون مع الاندماج في الحياة السياسية في لبنان».
    ومن ناحية أخرى، بدا أن العلاقات الدبلوماسية، التي استؤنفت بين الاتحاد السوفياتي وإسرائيل في نهاية عام 1991، ووجود ما يقارب من مليون يهودي ذوي أصول روسية في الكيان الإسرائيلي، هما ورقتان رابحتان في يد موسكو للوساطة بين الطرفين العربي والإسرائيلي. بيد أنه تبين بعد وقف إطلاق النار في 14 آب، أن إنجاز روسيا في الوساطة، وتأثيرها على التسوية، لا يقارنان بالنفوذ السوفياتي، وأن مساهمتها انحصرت في المناقشات في مجلس الأمن الدولي.
    وتبرّر موسكو «عجزها» بأن الأطراف الرئيسية لا تصغي لرأيها عند نشوب الأزمات؛ فإسرائيل لا تزال تعتبر الولايات المتحدة شريكتها الاستراتيجية الرئيسية، وسوريا، حتى في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد، تنظر إلى موسكو بالدرجة الأولى كمورّدة للأسلحة. أما إيران فتتعاون مع روسيا في القضايا التي تملك فيها روسيا نفوذاً فعلياً أو حينما تتطابق مصالحهما في قضايا مثل البرنامج النووي الإيراني أو في طاجكستان وأفغانستان.


    «تخبّط» في المحكمة الدولية
    يلاحظ الحذر الروسي بل التخبط في قضية المحكمة ذات الطابع الدولي؛ ففي حين «يفتي» رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الاتحاد الروسي ميخائيل مارغيلوف بأن «الأقلية السياسية في البرلمان اللبناني، تلجأ إلى أساليب القوة، وتحاول بقصر نظر تعطيل نشاط البرلمان، ولا تسمح ببدء عمل المحكمة الدولية، وتعرقل مصادقة مجلس النواب على إنشائها ونظام عملها، اللذين أقرتهما الحكومة اللبنانية ومجلس الأمن الدولي»، يعلن مساعد الرئيس الروسي للشؤون الدولية سيرغي بريخودكو أن «القوى السياسية في لبنان هي التي يجب أن تعثر على حل مقبول يستجيب لمصالح الشعب اللبناني ويفترض تعاوناً نشطاً من جانب الدول الأخرى مع المحكمة الدولية».
    من ناحيته، أشار نائب وزير الخارجية وممثل الرئيس الروسي الخاص لشؤون الشرق الأوسط ألكسندر سلطانوف إلى وجود آراء مختلفة تتحدث عن ضرورة إنشاء محكمة دولية من دون مشاركة القوى السياسية اللبنانية، لأن اللبنانيين لا يستطيعون الاتفاق على إنشائها. وأكد سلطانوف أن روسيا تنظر إلى مثل هذه المقترحات «بحذر شديد».
    ويؤكد الخبراء الروس أن ما يبدو إخفاقاً وتضارباً في المواقف الروسية هو مناورات تكتيكية، بانتظار أن يقوى عود السياسة الروسية الجديدة وسط ضغوط واشنطن الهائلة على موسكو، وأحياناً على بوتين شخصياً، وأن القيادة الروسية لن تتراجع عن استراتيجيتها الجديدة في العودة إلى بلاد الشام، وهي في طور إعادة النظر الشاملة في سياستها العربية، وأن لبنان أولوية في هذه السياسة.


    العلاقات الروسية ـ اللبنانية
    لم تبدأ العلاقات العربية ـــــ الروسية في العهد السوفياتي كما يحلو الآن لبعض الصحافيين الروس الجدد الترديد، بل منذ أن أعلنت الأمبراطورية الروسية عن نفسها وريثة للأمبراطورية البيزنطية المنهارة في القرن الخامس عشر، وبذلك كانت تطمح إلى أداء دور خاص في سياسة الشرق الأوسط. ولم يتجلّ ذلك في حروبها مع الأتراك والفرس من أجل القوقاز والإرث البلقاني وحسب، بل في صراعها مع فرنسا من أجل الإشراف على المقدسات المسيحية في فلسطين ولبنان، وكذلك التنافس مع الدول الأوروبية الأخرى لحماية أرثوذكسيي ومسيحيي الشرق الأوسط الآخرين كلهم.
    وقبل أن تفتتح في عام 1843 أول قنصلية روسية عامة في بيروت، كان هناك وكلاء قنصليون لروسيا في حلب واللاذقية وبيروت وصيدا في الثلاثينات من القرن التاسع عشر. وفي العهد السوفياتي، عادت موسكو بنشاط لاستعادة مواقعها في المنطقة. ومنذ بداية الخمسينات من القرن الماضي وحتى نهايتها، كان الاتحاد السوفياتي أحد اللاعبين الرئيسيين في الشرق الأوسط.