غزة ــ رائد لافي
بين الاقتتال الداخلي والغارات الإسرائيلية، يبحث الفلسطيني عن فسحة هدوء، هي قليلة في العادة، ليخرج إلى الهواء والتموّن بما يلزم لأيام قاتمة مقبلة، قد لا يجد فيها طريقه إلى الخارج


استغلّ سكان حي تل الهوا، جنوب غربي مدينة غزة، حالة الهدوء النسبي للتزود بالمواد الأساسية، بعد أربعة أيام على التزامهم القسري منازلهم داخل الحي الذي شهد أعنف المعارك بين حركتي «فتح» و«حماس».
وتسابق سكان الحي إلى المتاجر للتزوّد بكميات إضافية من المواد الأساسية، وحليب الأطفال، خوفاً من عودة الاقتتال، الذي لم تغب ملامحه عن الحي، ومناطق أخرى من المدينة، التي تضم المواقع الرئيسة للأجهزة الأمنية، والقوة التنفيذية.
ولم يفلح اتفاق وقف إطلاق النار بين الفريقين المتصارعين في إعادة الثقة للمواطن الفلسطيني. وقال العجوز الستيني أبو محمود، بينما كان يتزود بكمية من الخبز والأرز، «لم نعد نثق بالطرفين ولا باتفاقاتهما.. حتى غزة فقدت ثقتها بسكانها».
أبو محمود (63 عاماً)، الذي يقطن في شقة سكنية في برج قريب من المقر الرئيس لجهاز الأمن الوقائي في الحي، لم يتمكن من الخروج من منزله منذ صباح الاثنين الماضي. وقال «لقد كنت وأفراد أسرتي الأربعة محاصرين داخل منزلنا، ولم نستطع حتى مجرد النظر من النوافذ، بفعل كثافة النيران».
وعاش سكان حي تل الهوا، وغالبيتهم من الموظفين من ذوي الدخل المحدود، ظروفاً صعبة للغاية خلال الأيام الأربعة الماضية، حيث نفدت من المنازل المواد الأساسية، لكونهم لم يكونوا مستعدين لهذه الظروف.
وقالت المواطنة رانيا أحمد إنها اضطرت إلى إطعام أسرتها المكونة من ستة أفراد، بينهم طفلان دون السادسة، الأرز ليومين متتالين، بعد نفاد مخزون الخبز، ولولا تمكننا من الخروج لنفد كل شيء». وأضافت «عندما اجتاحت قوات الاحتلال أجزاءً من الحي قبل بضعة أعوام، لم نعش ظروفاً مماثلة للظروف التي عايشناها خلال اليومين الماضيين، فقد كنا نتزود من المحال التجارية بما نحتاج إليه، لكن هذه المحالّ لم تفتح أبوابها بفعل الاقتتال».
وقالت رانيا «اليهود لم يدهموا منازلنا، لكن أبطال فتح وحماس دهموا منازلنا بحثاً بعضهم عن بعض، دون مراعاة لحرمة المنازل وسكانها من النساء والأطفال».
وبدت شوارع مدينة غزة حزينة، وغاب عنها الصخب اليومي المعتاد، باستثناء حركة بسيطة للسيارات التي خرج أصحابها للضرورة بعد أيام من «منع التجوال» القسري.
وحافظ عناصر الأمن الوطني، والأجهزة الأمنية الفلسطينية، على مواقعهم «الطيارة»، والحواجز والمتاريس في الشوارع ومفترقات الطرق الرئيسة، وتلك المؤدية إلى منازل قادة حركة «فتح» في المدينة.
وقال عنصر أمن ملثم، كان يقف على ناصية شارع مؤدي إلى منزل القيادي البارز في حركة «فتح» محمد دحلان في حي الرمال وسط مدينة غزة، ويده على الزناد، «إنني هنا لأحمي قادتنا من الدمويين الشيعة»، في إشارة إلى مسلحي حركة «حماس». وأضاف، رافضاً الإفصاح عن اسمه، «لقد قلبوا حياتنا إلى جحيم منذ أن شاركونا في الحكم، فلا رواتب ولا أمن ولا استقرار. إنهم متعطشون للدماء والسلطة، والحقد يملأ قلوبهم».
وقاطع حديثه ضابط أعلى منه رتبة، طالباً مني مغادرة المكان، وقال «إننا هنا لغرض الأمن لا للحديث للصحافة».
وقالت المواطنة نوال المختار، بينما كانت تهم بالخروج من صيدلية وبيدها علب من حليب الأطفال، إنها منعت ابنها من الخروج لجلب الحليب لطفله البكر، خوفاً عليه من المسلحين المنتشرين في الشوارع، مشيرةً إلى أن «القتل وحده أصبح شعار جميع المسلحين المتشابهين في كل شيء». وأشارت إلى «أنهم (فتح وحماس) لم يرحموا بعضهم بعضاً، بعد الاتفاق عند بيت الله الحرام، فكيف لهم أن يرحمونا». وتساءلت بحزن «في أي مكان سيتفقون بعد ذلك طالما لم يحترموا اتفاقهم في مكة؟».
أما أم حسام (رويترز) فتقول «الموت يأتينا من كل مكان. اسرائيل تقتلنا من الجو وحماس وفتح تقتلاننا على الأرض». وتضيف، هذه المرأة البالغة 29 عاماً، «طوال أيام الأسبوع نعاني الاشتباكات بين فتح وحماس والآن جاء دور الاحتلال الإسرائيلي ليزيد الطين بلة. اين العالم ليرى مأساتنا ونكبتنا الجديدة».
ورغم إزالة عدد قليل من الحواجز العسكرية في اطار اتفاق بين الرئاسة والحكومة، الا أن عشرات المسلحين لا يزالون يتخذون من البنايات المرتفعة مواقع لهم.
وذكر ضابط أمني أن مسلحين يعتلون بنايات ووزارات في منطقة تل الهوا فيما ينتشر مسلحون على المداخل المؤدية الى مقارّ ومراكز تابعة لحركتي «فتح» و»حماس».
ويغلق مئات من عناصر أمن الرئاسة كل الطرق المؤدية الى مقر الرئيس محمود عباس ومقر قناة فلسطين الفضائية في تل الهوا.
ورأى الطبيب عبد الستار، وهو من سكان تل الهوا، ان الغارات الاسرائيلية «رغم أنها توقع شهداء وجرحى ودماراً الا أنها أخف وطأة على نفوسنا من الأحداث القذرة بين الأشقاء المتناحرين».
ومعاناة الأطفال تبقى الأكثر إيلاماً. فأحمد (5 أعوام) يحاول مواجهة الخوف بالصراخ كلما سمع اصوات الرصاص او القذائف، فيما يختبئ مع والديه وشقيقيه في ممر بيتهم القريب من مقر الأمن الوقائي في تل الهوا.
ولا يستطيع عمال النظافة الخروج من منازلهم على غرار السكان المدنيين، ما جعل القمامة تتكدس في الشوارع، حيث تنبعث الروائح الكريهة ما يهدّد بانتشار الأمراض والأوبئة، لكن «اين الحل والمسلحون يسيطرون على كل حياتنا؟» على حدّ قول مسؤول في بلدية غزة.
ويعبّر أستاذ اللغة الإنكليزية محمد الحلو عن غضبه ويقول «الخروج من البيت يعني الموت والبقاء في البيت لا يعني انك غير معرض للموت، حياتنا جحيم». ويضيف «أصبحنا نخجل من كوننا فلسطينيين أصحاب أقدس قضية».