نيويورك ــ نزار عبود
هنا دارفور. إقليم بحجم دولة أكبر من فرنسا. كان العرب الرعاة يتنقلون فيه من الشمال إلى الجنوب يبيعون لحوم مواشيهم ويرعونها ويشترون من قبائله انياب الوحوش، وملح الصحراء والأقمشة، ومعها انتقلت العبادات والثقافات.
لكن التصحّر زحف عليها بمعدل 8 كيلومترات سنوياً، فاختفى الكلأ، وتحولت الخضرة إلى رمال محرقة لا يعيش عليها أو منها كائن حي. الجفاف قاسٍ وحارق، ينفذ مخترقاً طبع الرجالالطبيعة والأطماع لم تحفظ للرجال كرامة. الجوع كافر وما أسهل إنتاج العدو. حراب سمراء تتسلح بكل أنواع الذخائر والأسلحة، ولم تنس الخناجر. أسلحة تتدفق مجاناً مثل مياه الشلال من الشرق والغرب. ولا يصل طعام أو شراب إلا بمعجزة أو بنفقات باهظة.
الأمم المتحدة تنفق ثلاثة أرباع مليار دولار سنوياً في عمليات إنسانية وعسكرية. ولو أنفقت نصف هذا المبلغ لأغراض مدنية في ظروف سلمية، لعوّضت المشاريع كل ما تفسده الطبيعة، ولأعادت الحياة الطبيعية إلى الإقليم.
العرب يقاتلون الأفارقة في حروب عقيمة على أراض زائلة بزحف الرمال. وقبائل العرب يحارب بعضها بعضاً، وكذلك يفعل الأفارقة من غير العرب بعضهم ببعض. يزحف الحقد عبر الحدود مع الرمال، فيتحول الصراع بين القبائل أحياناً إلى نزاع بين التشاد والسودان. فإذا في هذه الدولة، أقارب للمقاتلين من الدولة الأخرى، أكثر ممّا تستطيع علامات الحدود وحرابها منعه.
وفي الأمم المتحدة، يهدّد المندوب البريطاني، أمير جونز باري ومعه الأميركيان زلماي خليل زاد واليخاندرو وولف، بأن الصبر قارب على النفاد. وينادون عبر الشاشات بفرض العقوبات على السودان لدعمها ميليشيا الجنجويد تارةً، ولاستخدام الطائرات لضرب المتمردين تارة أخرى. ولا يسع المستمع للاتهامات إلا أن يستغرب هذه العواطف الإنسانية الجيّاشة التي تنحصر بالصحراء، ولا تعرف الضفة وبحر غزة، أو ضفاف دجلة والليطاني.
ليست مهمّة آبار المياه في دارفور، بل الأهم آبار الزيت القريبة. يقيم الصينيون هناك علاقات مع الخرطوم ويرتبطون بعقود طويلة الأمد. مطلوب النفاذ إلى الجنوب من أي نزاع كان. ويستحسن التجويع قبل التطويع. هل نعود إلى نهج الحصار العراقي (النفط مقابل الغذاء) الذي قضى على أكثر من مليون قبل الحرب، لكي يركع السودان؟
إيان الياسون، مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى السودان، «بشّـر» في نيويورك يوم الجمعة الماضي بأن مفاوضات السلام الرسمية لحسم هذا الصراع باتت وشيكة عقب انتهاء جهود التفاوض التي شاركت فيها بلدان جارة للسودان. وأضاف، بعد عودته من المنطقة مصحوباً بنظيره من الاتحاد الأفريقي سالم أحمد سالم، «بلغنا مرحلة نستطيع معها عملياً الاستعداد للتفاوض».
لكنه يقول بحسرة إن عدد المنظمات المتمردة كبير جداً. وتشرذم فصائلها يعود إلى بيئة المخيمات التي «تفقّس» عادة كل أنواع العقائد وأدواتها المسلحة. السلاح كثير بين الأيدي ولا أحد يدري من أين يأتي. وما أسهل إنتاج القادة عند توافر الحافزين العصبي والمادي. يقول مهموماً «هناك تسعة فصائل تحارب السلطة في دارفور».
وفي المقابل، يتعهّد الياسون السعي إلى حشد أكبر عدد منها في العملية السلمية من خلال التفاوض. ولا ينسى التذكير بأن الفشل سيعني دخول الإقليم مرحلة صراع لا سابق لها.
لم يمضِ على نشوب حرب دارفور ثلاثة أعوام. لكن حصادها يشبه التصحّر. يزحف بسرعة تلتهم البشر بعد الزرع والأطلال. الأمم المتحدة تقدّر عدد الضحايا بمئتي ألف، والمشرّدين بمليونين. ولم تخفّف قوات حفظ السلام الدولية (أميس) من حجم المأساة الإنسانية أو تمنع المسلحين من التمادي. هذه القوة محدودة العدة والعدد، وستستبدل خلال ثلاثة أعوام، بقوة أفريقية دولية مختلطة على ثلاث مراحل، ليصبح قوامها 17 ألف جندي يقودهم ثلاثة آلاف ضابط ومأمور. هكذا نص اتفاق مع حكومة الخرطوم أواخر العام الماضي.
ويحذّر إلياسون من أن أيّ عملية حفظ سلام لن يكتب لها النجاح ما دام الخلاف والانقسام يميّزان أطراف النزاع. ويتابع «إذا لم نتعاطَ مع الحلول، فسنواجه مشاكل هائلة في عملية السلام خلال السنوات المقبلة».
الخطر الحقيقي على سلامة السكّان لا ينبع من الصراع المباشر مع القوات الحكومية السودانية التي تحارب التمرّد، بل من عملية التسييس الراديكالي المتنامية في التشاد، وما يصاحبها من تعصّب قبلي. ويتابع «عدد القتلى من الصدامات القبلية على الأرض الزراعية التي تزداد ندرة بسبب التصحر، يفوق حصاد الصراع بين المتمرّدين والحكومة وأنصارها من الميليشيات».
أوجه الصراع المتجددة وما يتفرّع عنها من تشرذم التنظيمات المسلّحة، أنتجت صراعاً داخلياً، بما يجعل الحلول أبعد منالاً. والصراعات سمّمت العلاقات الاجتماعية على امتداد المنطقة، مضيفاً بغصّة «إن النسيج الثقافي والاجتماعي والاقتصادي في دارفور تلاشى».