بودابست ــ مهى زراقط
«التحوّل السياسي»، «الانتقال الهادئ»، و«الديموقراطية»، كلها عبارات تؤلّف لازمة على ألسنة جميع المجريين الفخورين بتصحيح الخطأ التاريخي الذي حرمهم لعقود من الاضطلاع بدورهم الطبيعي في قلب أوروبا. غير أن عملية التحوّل التي بدأتها هنغاريا نهاية التسعينات لم تخل من مشاكل اقتصادية، يمثّل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الحلّ الوحيد لها

  • سعادة بتصحيح «الخطأ التاريخي» لا تخفي المشاكل الاقتصادية

    تصعد الحافلة «جبل غاليرت» في بودابست ويرتفع صوت غابرييلا، الدليل السياحي، ليروي قصة تمثال الحرية الذي أقيم في عام 1947 تحيةً للجنود السوفيات الذين حرّروا هنغاريا من الألمان. وتعلّق ساخرة «لكنهم نسوا الخروج من هنغاريا لأكثر من أربعين عاماً».
    لا تخفي غابي، كما طلبت منّا مناداتها، ابتسامتها وهي تستمع إلى تعليقات اللبنانيين على معاناة مماثلة مع السوريين «لكن فترة نسيانهم كانت أقصر، ثلاثين عاماً فقط».
    هكذا يبدأ «التواطؤ» اللبناني ــــــ الهنغاري مع بداية الزيارة، التي استغرقت سبعة أيام بدعوة من «المركز الدولي للتحوّل الديموقراطي» في إطار ورشة عمل للتدريب على تنظيم حملات مطلبية تشجّع على التغيير وتفعيل المشاركة النسائية في العمل العام.
    ليس الوجود «السوري» أو «الروسي ــــــ السوفياتي» سبباً وحيداً للتواطؤ أو ليفهم كلّ من الطرفين اللبناني والمجري «معاناة» الآخر. هناك ما هو أهم، الخصوصية التي يراها مواطنو هاتين الدولتين في بلديهما.
    هناك تكتشف فجأة محاذير وضع هنغاريا في إطار «أوروبا الشرقية» (كالقول بعروبة لبنان) إذ تستفزّ هذه العبارة كلّ شاب مجري يمكنك أن تقابله: «نحن نؤلف وسط أوروبا، قلب أوروبا، ولا ننتمي إلى أوروبا الشرقية»، يقول فرانك بإنكليزية متقنة. ويتابع بالفرنسية: إن «سلخ» هنغاريا عن موقعها الجغرافي الطبيعي هو الذي عاق تقدّمها.
    هذه الخلاصة يتقاسمها أيضاً عدد لا بأس به من الشباب الذين أتيح لنا التواصل معهم باللغة الانكليزية، حيث يسيطر الشعور بأن ظلماً تاريخياً لحق بهم وبدولتهم. هم أصحاب تاريخ عريق تعاقبت الظروف السيئة لتجعل منهم دولة فقيرة لا دور لها: من الاحتلال العثماني إلى «المعسكر الاشتراكي» معاناة طويلة. والحلّ السحري الوحيد الذي يعوّلون عليه هو تفعيل دورهم في الاتحاد الأوروبي الذي انضموا إليه رسمياً في الأول من أيار عام 2004.
    يؤكد فرانك وجود فوارق كبيرة بين الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والاتحاد السوفياتي، أولّها «أننا نحن من اختار الانضمام إلى الاتحاد الاوروبي ولم يفرض علينا».
    فرانك، مثل كثيرين من مواطنيه، غير مستعدّ للحديث عن أيّ من محاسن النظام السابق الذي عاشوا في كنفه: «يكفينا النظام البوليسي». ولا تخفي البائعة الشابة امتعاضها أيضاً من النظام السابق. يستفزّها الحديث عن محاسن الشيوعية. «كيف يمكن تقبّل نظام يكره الدين»، تقول لزبون عربي وتراقب بعينيها السياح الأوروبيين الذين بات يغصّ بهم بلدها. تضيف، وهي تشير إلى وفد سياحي فرنسي، «مكاننا الطبيعي معهم، نحن أقرب إلى أوروبا الغربية».
    لكن «الانفصال» عن الاتحاد السوفياتي ليس شاملاً؛ فلعب الـ«ماتريوشكا» الروسية موزعة في أرجاء المحل، بينها نموذج «كل الدكتاتوريين»، تقول البائعة وهي تحمل دمية تمثل لينين، في داخلها ستالين وصولاً إلى بوتين. تؤكد أن هذه اللعبة لم تكن موجودة قبل 15 عاماً في بلدها. «لم يكن عندنا شيء. ولم نكن أحراراً». أما الآن، فهناك مطاعم الـ «ماكدونالد» و«بيرغر كنغ» و«كنتاكي»، إضافة إلى المجمّعات التجارية الكبرى التي تضم مختلف الماركات العالمية.
    هذا «الانفتاح» الاقتصادي الذي ترافق مع التحوّل السياسي الذي عاشته دول أوروبا الشرقية نهاية الثمانينات من القرن الماضي لم يحلّ مشاكل الهجرة والفقر التي يعيشها المجريون. الشباب الذين يفاخرون بعودتهم إلى قلب أوروبا، يحلمون بالسفر إلى إحدى الدول الأوروبية الغربية، مثل ستيفان، سائق تاكسي كان يلاحق فتاتين في شارع فانسي السياحي.
    تقول البائعة إنه لا يفوّت فرصة دون محاولة التعرّف إلى السائحات وبناء علاقة مع إحداهن علّها تنقله إلى العالم الآخر. وهو عندما بدأ حديثه مع الفتاتين غمزها مبتسماً كأنه سيحقق غايته قريباً، لكنه عاد إليها ضاحكاً ليخبرها أنه اعتقدهما ايطاليتين «لكنهما من لبنان... أين يقع لبنان؟».
    في مقابل هذه المحادثات العامة مع بعض الشباب، تلفت مظاهر الغنى الفاحش الذي تعيشه طبقة من الهنغاريين، لكن في أماكن محددة في العاصمة مثل شارع آندراسي «الشبيه بالشانزيليزيه الفرنسي»، كما تقول غابرييلا ناصحة بزيارته ليلاً، وهذا ما نفعله لنجد كلّ مطاعم الرصيف ممتلئة بالروّاد في منتصف الأسبوع.
    أما مساء الخميس الفائت، فقد غصّت قاعة الأوبرا بالحضور. سيارات من أحدث الموديلات وثياب سهرة تشير إلى مستوى حياة معيّن تعيشه فئة حضرت للاستماع إلى أمسية موسيقية يقودها المايسترو «كوباياشي كين ايشيرو» عزفت خلالها الاوركسترا السيمفونية التاسعة لبيتهوفن، التي أخذ منها الاتحاد الاوروبي لحن نشيده الخاص إحياء للاحتفالات التي تقام في الدول الأوروبية بالعيد الخامس لتأسيس الاتحاد.
    كان يجب أن ننتظر ظهر يوم الجمعة لتنقلب الصورة في ساحة موسكو وسط العاصمة. هناك ألّف عشرات الهنغاريين صفاً طويلاً منتظرين شيئاً ما. نمشي بمحاذاة الصف نحو خمس دقائق قبل أن نعرف أن ما ينتظره هؤلاء في مكان ليس فيه إلا محطات الترامواي والباصات إن هو إلا صحن من الفاصولياء وكوب عصير توزعه مجموعة من المتطوّعين على المتشرّدين، الذين تتضاعف أعدادهم يوماً بعد يوم ويمكن رؤيتهم بوضوح مفترشين زوايا محطات المترو في أكثر من مكان.
    ويخبرنا موظف في السفارة اللبنانية «لا شك في أن عدد العاطلين من العمل تزايد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لكن يجب ألا ننسى أن الرغبة في توفير فرص عمل للجميع تسبب تضخماً للمصانع التي كانت تتحمّل أكثر من طاقتها». ويضحك، لدى السؤال عن عدد اللبنانيين المقيمين في بودابست، قائلاً «لا يتجاوز المئة، وهذا أكبر دليل على فقر هذه الدولة. اللبناني لا يوجد إلا في الدول التي توفّر له مردوداً مالياً جيداً».
    هذا عنصر إضافي للمقارنة بين لبنان وهنغاريا. الهجرة. تحدثنا عنها «بشكلها الإيجابي» أندريا بوتو، الأستاذة في «الجامعة الأوروبية». تقول إنها أجرت عدداً من الأبحاث عن أهداف «ايجابية» للهجرة، منها النساء الهنغاريات اللواتي سافرن بدافع الحب: «أن تقرر امرأة السفر للعيش مع حبيبها الذي ينتمي إلى دولة أخرى فهذا أمر جميل. لا ينبغي أن ننظر إلى الأمور بشكلها السلبي دائماً». لكن أندريا تبدو غارقة في التفاؤل وهي تحكي عن بحث آخر «إيجابي» وهو علاقة المهاجرات الهنغاريات بطعام بلادهن.
    الإصرار على «الإيجابية» في التعاطي مع موضوع المهاجرين، الذين يبلغ عددهم نحو ثلاثة ملايين، ينسحب بدوره على وزيرة الخارجية كينغا كونز، التي أجابت زميلة لبنانية عن سؤال بشأن احتمال أن يصبح الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي (من أصل هنغاري) مثلاً للشباب المجري حيث يحققون أنفسهم خارج وطنهم، قائلة «بالطبع لا». وتتابع ضاحكة «لسببين: الأول أن ساركوزي لا يأتي على ذكر أصله الهنغاري ولم يستخدمه في معركته الانتخابية، والثاني أن اللغة الهنغارية قد تكون عائقاً أمام الراغبين بالهجرة».



    المرأة للتنفيذ
    تشدّد رئيسة مجلس النواب الهنغاري كتالين سيزلي على أن التحوّل السياسي الذي شهدته هنغاريا كان هادئاً لأن الحوار الداخلي كان الأساس، وترفض الاعتراف للنظام الشيوعي السابق بأي فضل في وصولها إلى موقعها الحالي.
    سيزلي استقبلت الوفد اللبناني في مبنى البرلمان التاريخي الذي يؤمه السيّاح بالملايين سنوياً، وهي ترأس المجلس النيابي لولاية ثانية. هي، العضو في الحزب الاشتراكي الحاكم، تعيد سبب وصولها إلى كفاءتها فحسب. وتنتقد نظام الكوتا الذي كان قائماً خلال النظام السابق. ترى أن «التمثيل النسائي كان شكلياً فقط»، ناصحة النساء الراغبات في الوصول إلى مراكز صنع القرار أن يلجأن إلى الرجل إذا أردن إيصال صوتهن «لأنه يجيد الصراخ، أما إذا كنتن تبحثن عن التنفيذ فعليكن اللجوء إلى المرأة».



    كينغا كونز: واقعيون مع روسيا
    ترى وزيرة الخارجية كينغا كونز في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي صمّام أمان لهنغاريا. لكنها ترفض انتقاد روسيا رغم تعدّد الأسئلة التي طرحت عليها في هذا الموضوع. تقول «نحن نتعامل مع روسيا بواقعية لأنها تمثّل سوقاً كبيرة لنا. لا نخاف من دورها السياسي لأنها غير قادرة فعلاً على التأثير، وما يحصل اليوم أنها ترغب فقط في القول أنا هنا».
    باختصار «هنغاريا تخرّجت»، تقول ضاحكة لتحسم الموضوع، مؤكدة أن التغيير لا يمكن أن يتم إلا «من فوق إلى تحت»، في معرض الإشارة إلى تمسك جيل كامل بالنظام السابق.
    لكنها تعترف، لدى سؤالها عن الصراع العربي ــــــ الاسرائيلي، بصعوبة التوصل إلى حل «إلا إذا أعطي الدور لمظلات المجتمع المدني هناك»، الذين احتكت بهم خلال زيارة لها إلى فلسطين «ولمست إمكان تقارب».


    ترويج «هادئ» للديموقراطية
    في إطار الاطلاع على تجارب نسائية رائدة، نظم «المركز الدولي للتحوّل الديموقراطي» لقاءات مع سفيرات كلّ من أميركا والسويد وبولندا، اللواتي عرضن تجاربهن الشخصية التي أوصلتهن إلى مراكز القرار. لكن ما إن أنهين كلماتهن وجلسن على الكراسي بين أعضاء الوفد اللبناني حتى انهلن هنّ بالأسئلة عن الوضع في الشرق الأوسط والصراع العربي ــــــ الإسرائيلي.
    غير أن اللافت في هذا اللقاء كان حديث السفيرة الأميركية ابريل فولي، التي مدحت الرئيس جورج بوش «زميلها في الدراسة»، وأعلنت أنها موجودة في هنغاريا لتحقيق أربعة أهداف أبرزها الترويج للديموقراطية.
    لكن أن تروّج أميركا للديموقراطية في هنغاريا مختلف عن ترويجها له في العراق، وتقول فولي «يمكن الانتظار ليحصل التحوّل ببطء». وتضحك باستفزاز لدى السؤال عن سبب عدم انتظار حصول هذا التحوّل بالبطء نفسه في العراق.