أربيل ــ وائل عبد الفتاح
الرحلة إلى كردستان العراق تحمل الكثير من الإثارة والشوق لرؤية هذه الجزيرة القائمة وسط بحر من الفوضى، والتعرف إلى مكنوناتها وطبيعة قاطنيها وحياتهم وأحلامهم، ولا سيما «حلم الدولة» الذي لا يبدو يفارقهم، حتى وإن أبدوا غير ذلك

  • حكاية حلم انفصالي اصطدم بالواقعية فاكتفى بـ«الفيدرالية»

    كانت مفاجأة مثيرة؛ إنها صورة صدام حسين في أربيل «عاصمة» كردستان. الصورة معلقة على جدار محل تحف في القلعة ضمن سلسلة حكام العراق من عهد الملكية إلى الجمهوريات المتعاقبة، وصولاً إلى عهد جمهورية «العراق الحديث». وفي المقابل، كانت صور زعماء كردستان.
    إيمان غريب بالتتابع الذي لم يكن بالهدوء الذي تستقر فيه الصور على الجدار. صاحب كل صورة وصل إلى الحكم بالدم والثورات، وروائح الموت تخنق الحكايات عن السلطة في العراق من الملك فيصل، أول ملوك العراق، إلى صدام آخر رؤساء «البعث»، إلى الآن. ومن الملكية إلى البعثية، احترق العراق أكثر من مرة. لكن الصور مستقرة، وأصحابها ودعاء طيبون كأنهم في لوحة شرف عادية.
    مفاجأة أربكت الإحساس بأننا سنرى العراق من دون صور صدام، التي كان حرقها وتحطيم تماثيل صاحبها العلامات الأولى لنهاية عهد دموي وبداية عهد أكثر دموية من نوع مختلف وبمزاج أميركي.
    لا يوجد الكثير من الأميركيين في أربيل، ولا في كردستان كلها. لمحناهم مرات قليلة، مرة وراء تحصينات في طريق المطار، ومرة في ملابس مدنية ضمن حرس الرئيس جلال الطالباني. والأخيرة بملابس المارينز المزركشة بأناقة أصحاب المهام الإدارية أثناء السفر من مطار أربيل، وبجوارهم تجمع طيارون بريطانيون.
    لم يكن صعباً ملاحظة أن الأميركيين والبريطانيين لا علاقة لهم بمن حولهم. هم في مهام وفي عزلة عن الجميع؛ غرباء يسيرون داخل أنابيبهم الشخصية وضمن مجموعاتهم التي تمنحهم الأمان.
    وفي إحدى المرات، لمحنا جنديين أميركيين يعبران الطريق في حي الأسواق القديمة في أربيل. كانا مميزين. كل منهما يكاد يكون نسخة عن زميله: جسد ضخم وملابس نصف عسكرية، تماماً كدمى للعرض كانت تقف عند باب محل بيع الملابس الجاهزة بالزي التقليدي للجيش الأميركي.
    في عهدة الكوريين
    سألت موظف الأمن في الفندق: أين الأميركيون؟ فرد باستنكار: «ولماذا يوجدون هنا. القوات الكورية هي المسؤولة من التحالف عن الإقليم».
    القوات الكورية تتمركز في معسكرات إلى جوار المطار. ليس لهم وجود في الشوارع التي تبدو فيها قوات الأمن الكردية مسيطرة تماماً. هي المسؤولة عن تحوّل سمعة الأمن في الإقليم إلى أسطورة، في بلد تأكله الفوضى، وتحويل كردستان إلى جزيرة مطمئنة وسط الجحيم العراقي. لكن بعد ساعات من مغادرة أربيل، الأسطورة تحطمت والجنة انفجرت.
    حفلة التفتيش
    نهاية الرحلة إلى أربيل اصطبغت بالدماء. بعد مغادرتنا بساعات، انفجرت شاحنة أمام وزارة الداخلية. وبعدها بأيام فشلت سيارة مفخخة في عبور حدود أربيل، ففجرت مقر الحزب الديموقراطي الكردستاني على أطراف الإقليم.
    أما الطريق إلى المطار فكانت مليئة بحملات التفتيش من جهات متعددة، ما جعلها أقرب إلى نهاية ساخرة لرحلة كانت في حراسة أجهزة أمن كردستان وفي مقدمتها الاستخبارات.
    لكن ما أن تركتنا السيارات على باب المطار حتى أصبحنا في قبضة أخرى: خليط متنوع من أجهزة أمن من كل صنف ولون: جيش عراقي، وشرطة كردية، وخبراء أمن في المطارات. وحدهم قادة المارينز ببدلات أنيقة كانوا بعيدين عن حفل التفتيش. أما نحن فكانت معاناتنا مرهقة، وعمليات تفتيشنا كانت محترفة، إلى حدٍّ بدا لنا كأننا في أكبر مطار في العالم، رغم أنه بالكاد يضاهي أي مطار محلي في مدينة صغيرة.
    الحلم الكرديورغم أن تأسيس العراق بعد الحرب العالمية الأولى كدولة حديثة تلخص في نجمتين على العلم: نجمة ترمز إلى العرب والأخرى إلى الأكراد، إلا أن الديكتاتورية، وهي توحد بين كل العراقيين في القهر، حوّلت الوضع الكردي إلى مأسأة كاملة الأوصاف.
    حكاية كبيرة. لكنها الآن لا تعود إلى الصعود إلى السطح لكونها مأساة وضحايا، بل لكونها مشروعاً وحلماً. مشروع «انفصال» عن العراق الكبير، وحلم بدولة «دفعنا ضحاياها. ونملك مقوماتها»، حسبما قال شاب عاش طوال عمره في الجبل ضمن ميليشيات الدفاع عن الحلم الكردي التي تسمى «البشمركة»، وهي تعني بلغتهم «الفدائيين».
    تضم البشمركة أقوى وأشرس مقاتلين في العالم؛ لقد عاشوا سنوات طويلة بين الجبال، تطاردهم جيوش حديثة. الخبرة بالجغرافيا الصعبة للجبال منحتهم قوة إضافية، والإحساس بالاضطهاد شحنهم بطاقة كبيرة على القتال.
    عرض أحد السياسيين الجدد في كردستان، خلال جلسة نقاش مع مثقفين أكراد، فكرة أقل ما يقال فيها أنها ساذجة. قال: «لا بد أن يتم التعاون بين الأقلية القبطية المضطهدة في مصر والأقلية الكردية في العراق». الإجابة عليه كانت سريعة، وحادة: «لكننا لسنا أقلية تبحث عن الانفصال وتريد تقسيم الدولة». فما كان من السياسي نفسه إلا أن أضاف: «نحن أمة من حقها دولة. دولتنا ليست ضد العرب. ولا نشعر برغبة انتقام من العرب حتى الذين ذبحونا. العرب هم الذين يبعدوننا عنهم. يتهموننا بالخيانة. ويروجون لأكاذيب تصورنا على أننا عملاء لإسرائيل».
    إنه الغضب الكردي. لكنه ليس كل شيء. هناك الواقعية أيضاً، التي لا ترى في التعاون مع الاحتلال من أجل إسقاط صدام جريمة. واقعية تؤكد أن قيام دولة كردية الآن حلم مستحيل، والحل في الحفاظ على استقلالية الإقليم ضمن دولة عراقية واحدة نظامها فيدرالي (أي كل إقليم مستقل، لكن هناك حكومة مركزية واحدة. وأميركا وسويسرا هما أقوى نموذجين للجمهورية الفيدرالية).
    واقعية الأكراد هي سرّ الحذر من التعامل معهم. فهم يكسبون بينما يخسر الآخرون. إقليمهم آمن، بينما العراق يحترق. يسيرون باتجاه الاستقلال والتنمية، بينما تنام بغداد تحت حظر التجوال ولا تنقطع سيرة القتل اليومي عن ساحاتها.
    والتفسير الأقرب والأسهل: أنها مؤامرة، بل أنها، حسب الصورة الشائعة، مشروع إسرائيل ثانية ستمزق العالم العربي وتصبح شوكة في القلب.
    هذا رغم أن الأكراد الذين تقابلهم يبادرونك بسؤال متكرر: «لماذا لا تقبلون أحلامنا؟ نحن أمة مختلفة. لماذا لا تتعاملون معنا على أننا واحد صحيح؟ نحن نعرف أننا نحتاج إلى محيطنا العربي، لكن العرب يهربون ويجففون المنابع معنا. لماذا لا يتقدم العرب تجاهنا بدلاً من أن يقفوا بعيداً ويتهمونا؟».
    السؤال عن علاقتهم بإسرائيل يصبح مثل الهواجس يتكرر هو الآخر. ويكون الرد عليه: هل رأيت علم إسرائيل هنا؟ إنه مرفوع على النيل في مصر. وفي أماكن كثيرة في الأردن وقطر. نحن لا نحتاج إليه ولا نريد أن نرفعه».
    إجابة ذكية، لكنها لا تشفي غليل العرب المولعين بالعواطف والمواقف الحماسية. والأكراد الآن عمليون، يعيشون نشوة الانتصار والخوف من ضياعه. لا يعنيهم سوى الأمن والاستقرار. ولا يهم كيف، ولا من أين.
    كردستان حكاية كبيرة تبعد عنا مسافة قصيرة، لكننا لا نعرف عنها شيئاً تقريباً. نسمع عنها اختصارات مرعبة، ونتركها بلا تفكير ولا اقتراب، رغم أن ما يحدث هناك يؤثر بقوة على ما يحدث في كل العالم العربى.
    مرافقي في الرحلة اسمه يوسف كريم اعترف لي: «لا أزال أشعر بأننى ابن الجبل». عمره 43 سنة. ترك دراسته وكل حياته وصعد من أجل حلم كردستان. كان يسارياً يؤمن بالعدالة والحياة الحديثة، وتقدمياً ينظر إلى المرأة بتحرر أكثر. لكنه يؤمن بتعصب بالقومية الكردية والسعي إلى الاعتراف بها.
    وكان في البداية مع حزب الطالباني (الاتحاد الوطني) الأميل إلى اليسار، لكنه انتقل إلى حزب مسعود البرزاني (الحزب الديموقراطي). يقول: «سنحقق العدل والتقدم. لكن لا بد أولاً من كردستان. نحن نستحقها. دفعنا ضحايا.
    ولدينا إمكانات».
    الواقعية الكردية قادت الحزبين الكبيرين إلى الوحدة بعد حرب أهلية بينهما راح ضحيتها آلاف.
    كان الطالباني، في بداياته السياسية، عضواً في الحزب الديموقراطي الكردستاني، لكنه مع الميل إلى اليسار، انشق وشكل الاتحاد الوطني. كان الاختلاف الواضح بينهما؛ الأول، حزب عشائري أقرب إلى الطبيعة المحافظة، فيما يميل الثاني إلى أنموذج التمرّد الموجود في فصائل الثورة الفلسطينية في أيام عزها. وبالفعل تطوع الطالباني في الجبهة الشعبية، وأصبح في ما بعد مستشاراً للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (أبو عمار). الطالباني أنموذج للسياسي الحديث القادر على إقامة علاقات مع أضداد العالم كله. والبرزاني أنموذج لسياسي تقليدي يتمتع بذكاء فطري وقوة وراثة أبيه الملا مصطفى البرزاني، الذي كان يجمع بين القيادة السياسية والدينية.
    انتهت الحرب الأهلية بين الطالباني والبرزاني بعد دخول قوات الاحتلال بغداد في 2003. ساعتها ارتفع حلم كردستان ونامت الخلافات، لكن وفق اتفاق على تقسيم السلطة: الطالباني لرئاسة العراق والبرزاني لرئاسة الإقليم، على أن يكون لكل منهما 50 في المئة من إدارة مؤسسات الإقليم.
    ونزل «البشمركة» من الجبال ليكونوا «نواة» «مشروع الدولة المستقلة». لكن حتى الآن لم تتوحد «بشمركة» الطالباني مع «بشمركة» البرزاني. لكل منهما وزارة: واحدة في أربيل للبرزاني وأخرى في السليمانية للطالباني.
    هذا ما يجعل نقاد التجربة الكردية يقولون بأنها «مجرد قشرة لامعة» تخفي تحتها قنابل سريعة الاشتعال. وهو وصف يستحق التأمل.


    لعنة الله على صلاح الدين!صور «الكوكب الكردي» تملأ المكان. «هو نجم الأغنية الكردية الكلاسيكية، وهذه كل تسجيلاته». أشار إلى رفوف كاملة عليها شرائط مكتوب عليها بخط اليد، ففهمت أنه تاريخ الحفلات وعناوين الأغاني. لم يتركني أستغرق في طلاسم الحروف الكردية، وأشار إلى رفوف أعلى: «هنا أيضاً كل تسجيلات أم كلثوم... وكل أغاني فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وعبد الوهاب».
    هنا قفز الرجل بسؤاله، وعندما لاحظ ارتباكي أعاد السؤال بصيغة أخرى: «كيف لا تعرف اللغة الكردية ومحمود المليجي كردي». ابتسمت فأكمل الناس الذين تجمعوا في المحل ليروا الصحافي المصري، «وعبد الباسط عبد الصمد أيضاً كردي» وفريد الاطرش وليلى مراد. كان كل شخص يشارك باسم فنان يتذكره، بينما فسر رجل أكبر سناً: «كل هذه عائلات كردية بدأت الهجرة مع صلاح الدين الأيوبي».
    هنا هتفت: «صلاح الدين أعرف أنه كردي». فرد علي صاحب السؤال بهتاف مضاد: «لعنة الله على صلاح الدين». وتركني وتوجّه إلى فرشة بيع السجائر بجوار المحل وهو يكمل: «لم يفعل شيئاً للأكراد».

    اجزاء ملف "كردستان العراق: الدولة الحائرة":
    الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالت | الجزء الرابع