كركوك ــ وائل عبد الفتاح
كركوك هي قدس الأكراد. مدينة مقدّسة، تستمدّ قداستها من نفطها. هي القنبلة الموقوتة، التي قد تفجّر أحلام الدولة العراقية الجديدة المتعددة القوميات والقائمة على النظام الفيدرالي

  • تترقّب ثلاث مراحل لتقرير المصير... ويُخشى تحوّلها إلى «سراييفو» العراق

    الصراع على كركوك قديم، يعود إلى تاريخ انفجار النفط الكبير في «بابا كركر» قرب كركوك عام 1927، وبقوة تقترب من مليون برميل يومياً.
    الثروة كانت نعمة ولعنة. نعمة نقلت العراق كله الى قائمة الدول الثرية، لكنها جعلت المدينة تعيش على سطح من قلق، فهي أكبر نقطة قوة في الدولة، من يحكمها يقطع ثلاثة أرباع الطريق للسيطرة على بغداد، التي تبعد عنها 250 كيلومتراً.
    يقولون إن هذه نظرية قديمة وإنه لم يبق من هذه الصراعات سوى: ميراث الغضب وعودة الأحلام، بعدما أصبح نفط كركوك، نتيجة لكوارث أسلوب استخراج النفط في عهد صدام حسين، «نفطاً درجة ثانية»، كما أن الاحتياطي انخفض الى مستوىً متدنّ للغاية.
    ولهذا، فالمعركة الآن ترفع شعار «تكريد» كركوك لمحو آثار خطة «التعريب»، التي أجبر فيها صدام حسين عائلات كاملة من الأكراد والتركمان على مغادرة المدينة لتحل محلهم عائلات عربية كاملة.
    كانت هذه قفزة في التعامل مع الوضع الخاص للمدينة، التي اقترح الملا مصطفى البرزاني (الأب الروحى للمشروع الكردي) في 1974 أن تكون إدارتها مشتركة، وهو ما كان يعني بالنسبة إلى الإدارة المركزية في بغداد «حق الأكراد في نفط كركوك».
    وبعدما كانت الحكومة العراقية قد وقّعت اتفاقية الحكم الذاتي مع البرزاني في آذار 1970، جاءت المطالبة العلنية بالحصة في النفط، وهو ما رأت فيه الحكومة إعلان حرب. ردت عليه بإعلان الحكم الذاتي للأكراد من طرف واحد، وفق خريطة تستبعد كركوك ومدينة خانقين.
    كانت هذه بداية خطة تغيير المعالم، التي كانت ذروتها في عهد صدام، وهو ما حوّل الصراع على الثروة إلى صراع أبدي.
    الهجرة القسرية
    هناك الآن عائلات كردية هجّرت قسراً من كركوك وأخرى عربية هجّرت قسراً اليها. من سيدفع ثمن هذه الهجرات الإجبارية؟.
    يقترب الوضع من «مأساة» لا تزال حتى الآن تحت السيطرة. لكنها تبدو في الوقت نفسه على وشك الانفجار في أي لحظة، فهي أيضاً تحت أنظار الجيران المتحفزين، وخصوصاً تركيا التي تعدّ «كركوك حجر الأساس في دولة كردية مستقلة على حدودها»، كما قال عراقي كان يجلس في مقهى المثقفين في أربيل. وأوضح أن «تركيا لن تترك الأكراد ينفردون بكركوك. إنهم يعرفون جيداً أن هذه هي أكبر خطوة باتجاه الدولة. ولهذا فهم يضعون أصابعهم في الطبق ليفسدوا الطبخة كلها». وكذلك التركمان «كانوا ضحايا الهجمة العنصرية لصدام حسين. لكنهم الآن ليسوا سعداء تماماً بقوة الأكراد، فهم أصحاب كركوك منذ هجرات الاستيطان الأولى مع الأمويين والعباسيين وحتى حكم السلاجقة، الذي كان عز التركمان».
    وردّ مسؤول كردي على سؤال عن وضع التركمان وطبيعة منافستهم للأكراد على كركوك، بسؤال آخر: «ماذا تعني التركمان. هل هي الرجل التركي؟».
    سؤاله يشير الى رواية شهيرة عن أصل تركمان العراق. وحسب هذه الرواية (صاحبها هو المؤرخ العراقي عبد الرازق الحسني)، هم بقايا جيش السلطان العثماني مراد الرابع، الذي احتل العراق بعد طرد الصفويين منها عام 1638، وأبقى على بعض من جنوده في بلاد الرافدين لحماية الطرق بين الولايات العثمانية.
    لكركوك الآن وضع خاص؛ العائلات الكردية حاولت العودة إلى المدينة، وبدأت حروب صغيرة للنزاع على ملكية الأراضى والبيوت مع العائلات العربية التي قدمت في خطة «الاستيطان»، أو ما عُرف بعملية «الأنفال».
    العرب والتركمان يرون أن عودة العائلات الكردية لم تكن طبيعية، بل سياسية بوحي من النخبة الكردية الحاكمة. وينفى الأكراد فكرة «الخطة»، لكنهم يصرّون على فكرة «الحق في كركوك».
    اللاءات الكردية
    كركوك بالنسبة إلى الأكراد «خط أحمر». هذا الكلام يردّده كل المسؤولين الأكراد، بغض النظر عن الانتماء الحزبي أو درجة الرقي السياسي والابتعاد عن النظرة الطائفية. حتى إنّك تسمعه من أناس عاديين في الشارع.
    والغريب أنه ليس الصراع القديم على مركز الثروة النائمة تحت الأرض (النفط)، لكنه رغبة في عودة الأرض. «ليأخذوا النفط ويتركوا لنا الأرض»، هذه جملة تتكرر أيضاً مع معلومة «لم يعد النفط في كركوك فقط. هناك اكتشافات نفطية حول جنوب غرب أربيل تفوق ما في كركوك»، كما أن «هناك ثروة من حجر المرمر لم يتم استغلالها بعد».
    اذن لماذا البكاء على كركوك؟ «لأنها علاقة الإنسان بأرضه، علاقة روحية، والأكراد لا يريدون التخلي عن أرضهم»، هذا ما قاله العماد صادق، مسؤول فرع أربيل في الحزب الديموقراطي الكردستاني لـ«الأخبار» خلال جلسة شارك فيها محافظ أربيل نوزاد هادي ووزير الاتصالات في كردستان حيدر الشيخ علي.
    بعد الحوار تتبلور تصورات النخبة السياسية للأكراد لمراحل حل أزمة كركوك، وهي:
    - المرحلة الأولى: التطبيع أو إلغاء آثار عملية التعريب القسري الذي حاول صدام حسين فرضه بتهجير عائلات كردية كاملة من كركوك غصباً عنها وزرعها في بغداد وإحلال عائلات عربية مكانها في كركوك. في هذه المرحلة لا بد من إعادة العرب إلى أماكنهم الأولى. وفي المقابل تعويضهم مادياً ومعنوياً وعودة الأكراد الى كركوك.
    - المرحلة الثانية: الإحصاء السكاني.
    - المرحلة الثالثة: الاستفتاء لمعرفة هل يريد أهل كركوك الرجوع الى اقليم كردستان أم لا؟.
    يتغيّر الأكراد عندما يتكلمون عن كركوك. هي الآن مدينة متنازع عليها، لها مادة خاصة في الدستور العراقي الجديد تحمل الرقم 140. وهناك 3 مواعيد لتنفيذ خطة تقرير مصيرها. كان من المفترض أن تبدأ فى 15 آذار مرحلة التطبيع (لكنها لم تتم)، وحسب الجدول، فإن الإحصاء سيكون فى 15 تموز، والاستفتاء في 15 أيلول.
    «اذا لم يتمّ الاستفتاء فسننسحب من الحكومة»، هذا ما قاله كردي متحمّس من مؤيدي حزب مسعود البرزاني، ما مهّد لمونولوج طويل عن علاقة الكردي بالأرض، فهي «سر وجوده ومخازن ثروته، تنفجر المياه بين ثناياها وتخرج مثلجة فى الصيف تمنحه طبيعة مغايرة وتصنع له منتجعات لا تقام على بحر أو نهر، لكنها على نعيم الأرض وعطاياها المذهلة».
    هذه المشاعر تجعل الأجندة التي يصر عليها السياسيون في الأحزاب الكردية تحمل لعنة ما بين طياتها. قد تحوّل كركوك الى «سراييفو جديدة»، على حد وصف الدكتور هشام داود، الباحث العراقي المقيم في باريس.
    كركوك هي «أُنموذج مصغّر للعراق» أو فسيفساء بالغة الدقة والتعقيد لتعايش مجتمعات تنتمي إلى أجناس وعقائد متباينة من عرب وتركمان وأكراد طبعاً مسلمين (سنة وشيعة) ومسيحيين اشوريين وكلدان وأرمن إلى جانب الأقليات الدينية من يزيديين وصابئة.
    وكما يقول الدكتور هشام داوود فإن «هناك مدينتين في العراق تمثلان تعقيد الخلطة الإثنية والعشائرية والدينية: ديالى وكركوك. لكن كركوك أخطر من الناحية الاستراتيجية. فهي قبل 15 عاماً كانت مركز الثروة النفطية في العراق، تحتوي الحقول العملاقة منذ 1928. وقد يكون الاحتياطي الآن قد قلّ بدرجة كبيرة، لكنها لا تزال تمثّل أهمية استراتيجية تجعل هناك من يقول إنها كافية لكي تقوم عليها دولة كردية منفصلة. لكنني لا أعتقد أن البئر تكفي لتكوين دولة».
    محافظ كركوك الآن كردي، لكن المدينة ليست ضمن المنطقة الإدارية الكردية. وكما يقول هشام داوود: «الراعي الاميركي مرتبك. هم يتفهمون أن كركوك للأكراد. وأنها كانت بأغلبية كردية طوال الوقت. لكنهم يعرفون أن 30 عاماً في التاريخ تترك أثرها هنا وهناك».
    والوضع الآن يسير إلى تصعيد الصراع لأن «هناك ضغطاً كردياً حقيقياً لإجراء استفتاء حول مستقبل كركوك وبقرار من الحكومة المركزية. لكن جرى اتفاق، البعض يحاول أن يبطّئ خطاه، وخصوصاً من الأطراف العربية. السُّنّة طبعاً أكثر تحفّظاً. والتركمان لا يريدون تحويل الادارة إلى كردية».
    والمقترحات البديلة هي: أن تُدار كركوك وحدها باتفاقية خاصة او من خلال المركز فقط.
    وهي حلول تحاول ضبط التوازن العام حتى لا تندفع الأمور إلى نوع من الفصل القاسي والسريع يؤدي إلى مواجهة عنيفة مثل التي حدثت بعد تفكيك يوغوسلافيا. ويقول داوود إن «الجميع يتفهّم مظلومية الأكراد في ما يتعلق بكركوك. لكن التاريخ الحديث يؤكد أنه في حالات كهذه يجب التروي والاحتكام إلى العقل لإيجاد حلول لا تخلق مظالم أخرى».


    أزمة نفط في بلد النفط
    يؤكد الأكراد على «الأرض قبل النفط». رغم أن النفط يمثّل مشكلتهم الكبيرة الآن.
    الحصة من المركز في بغداد لا تكفيهم. وتزدهر السوق السوداء في البنزين، التي تعتمد على عمليات تهريب من ايران. استوقفتني طويلاً مشاهد بنزين السوق السوداء. وعرفت أن كل سيارة في أربيل لها بطاقة مثل بطاقة التموين وحصة إذا تجاوزتها فسيضطر صاحبها إلى الذهاب إلى السوق السوداء.
    البنزين بحسب السعر العادي يباع بنحو 600 دينار (المعروف بدينار بريمر، نسبة إلى الحاكم الأميركي السابق بول بريمر الذي ألغى دينار صدام الشهير) ويباع فى السوق السوداء بألف دينار تقريباً.
    ولا يُسمح بسيارات لا تحمل أرقام أربيل بأن تموّن من محطات البنزين في المدينة.
    إنها بلاد النفط تعيش أزمة نفط وسوق سوداء وكوبونات وحصة محددة وكهرباء مهددة طوال الوقت بالانقطاع.
    في الفندق الذي أقمنا فيه شعرنا بالرعب في الليلتين الأُوليين، لأن التيار الكهربائي ينقطع فجأة، لكن اكتشفنا أنه يعود بعد 40 ثانية بفعل مولدات تعمل بالكيروسين.
    وفي يوم امتد الانقطاع الى 4 ساعات. كانت كارثة تحدّث عنها ضيوف المدينة في الصباح، لكن أهل المدينة اعتبروها «مجرد طفرة استثنائية».
    هي أجواء مدينة خارجة من حروب. الكهرباء التي تصلها من العاصمة لا تكفي كما أن مصدر الكهرباء من السدود على البحيرات لم يعد كافياً. والطاقة كلها معتمدة على المولدات الأهلية. وهنا أزمة أخرى بطلها النفط. تشتري حكومة الإقليم ليتر الكيروسين من السوق السوداء بـ700 دينار وتبيعه للمواطنين مدعماً بـ340 ديناراً، وهم ينتظرون الآن مشروعاً ضخماً سيقوم به رجل أعمال كردي مقيم فى هولندا، إذ سينشئ محطة كبيرة قوتها 450 ميغاوات وتعتمد على الكيروسين والغاز.

    اجزاء ملف "كردستان العراق: الدولة الحائرة":
    الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالت | الجزء الرابع