أربيل ــ وائل عبد الفتاح
«أرض عذراء» وصف تسمعه على لسان أكثر من مسؤول. وتراه شعار مرحلة غير معلن، فهم يعرفون أن كردستان تحتاج الى الاستثمارات وتغيير ملامحها الريفية لتصبح «عاصمة» بالمعنى الحديث

  • «أرض عذراء» تجتاحها جيوش من المستثمرين يحمونها من التهديدات... التركية

    «الأرض العذراء» الكردية، تنبت فيها الآن مراكز تجارية متوحشة. تخرج من بين مبانٍ قديمة، تبدو كمدينة أقزام تختفي.
    في الطريق من المطار لافتات ضخمة تشير الى «الإمبراطورية»، العنوان مكتوب بالإنكليزية وأسفله توضيح فرعي «البناء في المستقبل». اللافتات تحيط بأراضٍ شاسعة تتحرك فيها رافعات البناء الضخمة، كأنها حيوانات خرافية تعلن سيطرتها على الأرض وتتحرك برشاقة من يدرك ما يفعله.
    هذه هي ضريبة التحديث أو الخروج من زمن حروب العصابات. وبمعنى أدقّ محو آثار الماضي المؤلم. حركة العمران الضخمة تحاول دفن علامات النظام القديم. شوارع جديدة بعرض مئة متر. ومباني ضباط جيش صدام حسين وزّعت على الفقراء وأصبحت أسعارها فلكية بعد تفاقم أزمة السكن. والقصر الضخم مع الحديقة الشاسعة، الذي كان محجوزاً باسم نائب الرئيس السابق عزة إبراهيم الدوري، تحوّل إلى مبنى للمخابرات.
    إحلال وتجديد مرتبك، يعتمد على فكرة الغفران، كما حدث سياسياً مع عملاء صدام في كردستان، وهم الذين تعاونوا مع مخابرات النظام السابق. ويروي مسؤول في الحزب الديموقراطي الكردستاني التابع لرئيس الإقليم مسعود البرزاني أن «هناك العديد من الأكراد سمّوا أولادهم على اسم صدام. هؤلاء كانوا يتوقعون أن ننكّل بهم. لكننا أعلنا بعد 2003 العفو العام. لن نحاسب أحداً على الماضي».
    هذه قاعدة ذهبية من قواعد بناء الدول. لكنها لا تكفي وحدها. لا بد ان تعرف ماذا تريد من المستقبل؟ ومن معك؟ وكيف تلعب مع الوحوش التى تبدو من بعيد أنيقة؟.
    الشركات وجيوش المستثمرين
    كردستان تسير وفق نموذج يزرع علامات الحداثة في قلب المدن القديمة؛ مراكز تجارية أميركية بواجهات، غالبيتها من زجاج عاكس، وهذا مرعب في مدينة يجتاحها الحر صيفاً.
    في الأيام الأولى جُلْنا في الشوارع المحيطة بالقلعة في أربيل، التي صممت أساساً على شكل هلال يحيط بالقلعة.
    من السهل ملاحظة طبيعة الحياة في محيط القلعة؛ نماذج قديمة للمحالّ والمقاهي البسيطة جداً والباعة المشغولين بالبضائع المهربة. مدينة من السبعينيّات. لكنها تحاول أن تقفز إلى عام 2007 في خطوة واحدة، علامات القفزة الصعبة في كل مكان.
    مدينة تعيش على القلق والرعب من هجمات هدفها إنهاء أسطورة الأمن الكردي. تفتح أبوابها للاستثمار والمستثمرين. هناك أكثر من 750 شركة أجنبية تعمل الآن في كردستان، معظمها هارب من جحيم العراق القديم. الهروب لا يقتصر على الشركات، بل أيضاً على باحثين عن فرصة عمل آمنة. هؤلاء يدخلون بضمان من صاحب العمل. أما العائلات التي تريد الهجرة من بقية مناطق العراق فعليها حسب وصف ضابط أمن: «تقديم طلب الى وزارة الداخلية. ومعها معلومات عن العائلة. وبالطبع سيكون أفضل اذا كانت له معارف في كردستان. وهنا ستصدر له بطاقة تعريفية معتمدة من السلطات الكردية». ويرد الضابط على التعجّب بأن «هذه إجراءات عادية. فالإرهاب يبعد عنا 95 كيلومتراً فقط».
    هل كردستان هي العراق الحديث؟ هل هي البديل؟ أم مجرد بوابة يتنفّس منها العراق هواءً جديداً بدلاً من دخان الانتقام وحقول الموت المزروعة في كل شبر؟.
    إنها الآن تحت حكم التوازن بين الأفكار التقليدية للبرزاني وحزبه ومقرها في أربيل، والأفكار الحديثة، للرئيس جلال الطالباني ونموذجه في الحياة والسياسة. التوازن صعب، والخلافات مكتومة، فلا صوت يعلو فوق صوت بناء «الدولة» أو «الإقليم». وهنا تأتي قوة الشركات في صناعة اتجاهات السياسة الكردية.
    الاستثمار يحمي كردستان. يضعها في قلب صراعات المصالح بين الشركات الأجنبية، 300 منها جنسيتها تركية. هذه الشركات هي التي تمنع تركيا من جنون ضربة عسكرية موجّهة إلى كردستان. وحسب مسؤول في الحكومة الكردية فإن «الشركات التركية تعمل في كل المجالات تقريباً، وخصوصاً في الإنشاء وبناء الجسور والشوارع. لا نريد أن نتدخل في شؤونهم ولا شؤون أي دولة مجاورة. لكن اذا كانوا هم مصرين على التدخل في شؤوننا فإننا بالطبع لن نسكت. وسنتدخل في شؤونهم».
    أكراد العراق هم هدف لتركيا الخائفة من شحن أحلام أكرادها بقوة قيام «شبه دولة» كردية في العراق. تريد تحطيمها وتلعن اليوم الذي تركت فيه فوضى العراق الأكراد على راحتهم من دون حروب أهلية ولا قهر من السلطة المركزية.
    والأكراد، كما قال مسؤول رفيع المستوى هناك، «يعرفون من أين يوجعون الأتراك. لدينا اتصال مع 15 مليون كردي. نعرف مناطق تحركهم، لا يستطيع الجيش التركي الوصول اليهم فى مناطق جبلية صعبة. واذا فكروا في ضربة، نعرف كيف نرد».
    لم يقل المسؤول ما قاله صاحب متجر خردوات: «تركيا ستخاف بالتأكيد من اميركا. تركيا تغيّرت بعد 2003. لم يعد لها وجود في الشارع واختفت مقارّ أكشاك المعونات الغذائية التي كانت توزعها مجاناً على أهالي مدن كردستان». وكرر صاحب المتجر فكرة أن مصالح الشركات ستوقف تحركات الجيوش: «إنها المصلحة التي تضبط إيقاع آلة الحرب».
    «المصلحة أوّلاً وقبل كل شيء». شعار سمعته في مناسبة، وعلى لسان مسؤول في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني (حزب الطالباني). المناسبة كانت الحديث عن العلاقة بين الحزبين الكبيرين، وهل التوافق بينهما مرحلي.
    قال المسؤول نفسه «إننا الآن في مرحلة تأجيل الأفكار من أجل المصلحة»، مضيفاً «نعرف أن دول الجوار تنتظر منا غلطة واحدة».
    أغنياء الاستقلال
    الأحاديث السرية تشير الى بداية تكوّن أغنياء الاستقلال. أساطير تُروى عن مالك نصف أربيل: الفندق الكبير والمركز التجاري. وآخر سيبني محطة كهرباء كبيرة، وهو صاحب شركات دواجن كبيرة في هولندا. كلهم يخلطون الثروة بالسلطة والمال بالهوى السياسي، ويبحثون عن طرق لوجودهم ليكونوا عما قريب ورثة «أبطال الحرب» في السطوة والنجومية الاجتماعية.
    المال لا يخيف الأكراد والثروات المهولة ليست علامة فساد، بل علامة تقدم.
    يقول الطالباني «من ضمن علامات تقدم العراق أنه قبل سقوط صدام، كان هناك 6 مليونيرات فقط في السليمانية (مدينته ومعقل قوته)، الان هناك ألف مليونير». ويرد أحد المسؤولين ساخراً على هذا القول «لم يتحدث الرئيس عن عدد المليارديرات».
    ضحك المشاركون، ولم يعلّقوا على ما يقال عن نظام «الكفيل الكردي» لكل شركة أجنبية تعمل في كردستان، الذي يخلق شريحة من وأصحاب ثروات تأتي عبر النفوذ السياسي. أو عن اليساري الذي يملك شركة هاتف نقّال في السليمانية، ويصرف على نشاطات وجمعيات أهلية.
    يشيرون الى أربيل الحديثة، التي تعني بالنسبة إليهم: «مجمّعات سكنية على الطريقة الأميركية والإنكليزية»، والتي وصل ثمن البيت فيها إلى 150 الف دولار لحظة الشراء، ويباع الآن بـ200 الف دولار. والسوبر ماركت الحديث علامة اخرى. لقد أصرّ المسؤول في الحكومة على أن يصحبني المرافق في جولة خاصة اليه. كان يريد أن يقول إن «هذه هي المدينة الجديدة. البضائع غالبيتها تركي وسوري وإيراني».
    السوبر ماركت يشير الى وجود شريحة اجتماعية قادرة على الشراء. هي نفسها تتنافس على مساكن العصر الجديد. ربما هي فوضى ما بعد «شبه الانفصال»، أو على الأقل إنه زمن الشطّار القادرين على تحويل الرغبة في الراحة بعد الحرب إلى حسابات في المصارف. ويقول بائع على الرصيف إن «الحكومة لا بد أن تكون حاسمة أكثر فى قراراتها حتى يلتزم الناس».
    تصوّرت أنه يقصد الحسم السياسي او الاقتصادي، لكنه كان يقدم حلولاً لأزمات النظافة والمرور في الشوارع.
    علامات الدولة الحديثة
    هناك علامات أخرى لبناء «دولة» حديثة، أهمها التعليم؛ فطالب الجامعة يحصل شهرياً من حكومة الاقليم على 50 دولاراً. كما أن كل حاصل على الدكتوراة تمنحه الحكومة 300 متر أراضي بناء هدية. وكما يحدث في كل القطاعات، قفز التعليم إلى «العصر الجديد» بافتتاح جامعة كردستان هذا العام وفق النظام البريطاني.
    هناك أيضاً الصحافة والإعلام، وحسب مسؤول إعلامي «يصدر في أربيل وحدها نحو 200 مطبوعة، غالبيتها باللغة الكردية، وبعضها بالعربية والإنكليزية». تحصل الصحف على الترخيص من وزارة الثقافة، لكن لا رقابة عليها. ولا وزارة إعلام على طريقة الدول الشمولية. و«من يغضب من المسؤولين يلجأ الى القضاء»، على حد تعبير المسؤول الإعلامي، الذي يشير الى أن المحاكم تنظر عدداً ضخماً من القضايا بين المسؤولين والصحافة، «أشهرها واحدة حكم فيها على الكاتب كمال سيد قادر بالسجن 40 سنة لأنه اتهم المحافظة ببيع الأراضي إلى الإسرائيليين، والقيادة السياسية بالولاء لإسرائيل».
    وهذا ما رواه أيضاً محافظ أربيل نوزاد هادي، معتبراً أن الكاتب الذي يعيش في سويسرا «مختلّ عقلياً، لأنه لا يملك وثائق على ما يقول. ولا يفعل سوى إثارة الفتن وتحريض المجتمع المسلم علينا. فرغم أنه ماركسيّ، إلا أنه يكتب بمزاج المتطرفين الإسلاميين. ولا نريد أن يخلق لنا مشاكل مع الجماعات التي تدّعي الإسلامية. وهو بالطبع لم ير ولم يتحرك لكي يثبت ما يقوله، لأن الأحياء السكنية التي قال إننا بعناها لليهود كان يعيش فيها يهود أصلاً قبل قيام إسرائيل. والآن ليس هناك يهودي واحد في كردستان».
    «هذه صحافة للشهرة فقط»، يقول المحافظ وهو يكمل الرواية: «حُكم على الكاتب بالسجن ثم صدر عفو عنه من كاك مسعود، وأشقاؤه يعيشون في كردستان قبل اتهاماته وبعدها». وبالطبع هذه ليست المرة الوحيدة التي توجّه فيها تهمة التعامل مع إسرائيل إلى الأكراد. لكن مسؤولاً شيوعياً يرى التهم «دعاية من فلول البعثيين».
    وفى الحزب الديموقراطي الكردستاني يقول مسؤولون إن «هناك عرباً في كردستان، وبالتأكيد كانوا سيلاحظون وجود إسرائيليين ولن يمر الموضوع بسلام. كما أننا نسمح بوجود مكتب لقناة الجزيرة هنا ولم نغلقه مثل بغداد. وكان من الطبيعي أن يلحظ فريق العمل أي وجود إسرائيلي. كما أننا من الأساس لا نحتاج الى دعم إسرائيل».


    السلطان واللبن
    كيف ستكون كردستان بعد 5 سنوات؟
    كنت أبحث عن ملامح خاصة لمدينة فى لحظة تحوّل. أربيل الأقل مقارنة بأساطير الجمال التي يردّدها أهل كردستان عن الطبيعة المتفوقة على جبال الألب في سويسرا ومصايف شقلاوة وصلاح الدين، التي يتسرب بين جبالها ماء مثلج حتى في شهر آب. وبين سحر الطبيعة وبساط الخضرة المفروش على التضاريس الوعرة، التي ولدت مخابئ مقاتلي الحلم الكردي، ينتظر الأكراد أن تتحوّل الآن إلى ينابيع ثروة جديدة من سياحة غابت عن ساحات الحرب الطويلة الأمد.
    ولأن كل شيء هنا مستورد، حتى الفاكهة، ولأن الفلاحين المطرودين من قراهم التي دمرها صدام عادوا ببطء الى الحقول وليس لديهم عمالة، فهم تعوّدوا حياة الهروب في المدن.
    ولاحظ مرافقي أنني أبحث عن شيء يحمل خصوصية المدينة، فاقترح خطوتين: الأولى، زيارة مرقد السلطان مظفر الدين الكواكبي، وهو صاحب المنارة الشهيرة في وسط اربيل، وزوج أخت صلاح الدين الأيوبي، ومخترع طقوس المولد النبوي.
    وشرح محافظ أربيل: «عاد السلطان من زيارة الى المدينة المنورة واكتشف أن هناك من يريدون حرق قبر النبي محمد فقرر أن يقيم احتفالاً ضخماً بمولده».
    الخطوة الثانية كانت «لبن أربيل»، فمن «لم يأكل لبن أربيل، لم يعرف طعم اللبن».

    اجزاء ملف "كردستان العراق: الدولة الحائرة":
    الجزء الأول | الجزء الثاني | الجزء الثالت | الجزء الرابع