يحيى دبوق
تنشر «الأخبار» في ما يلي موجزاً لدراسة أعدّها معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب (مركز جافي سابقاً) تعرض السيناريوهات المختلفة التي يمكن أن تسلكها الأزمة الداخلية في لبنان ومخاطر كل منها على إسرائيل مع «الخيارات» المتوفرة أمام الدولة العبرية للرد على كل منها


يطرح الجمود الحالي في لبنان علامة استفهام حول امكان تأسيس «وضع جديد» في هذا البلد. المعركة التي شنها حزب الله في لبنان ـــ بدعم من سوريا وإيران ـــ من اجل إسقاط حكومة (الرئيس فؤاد) السنيورة، لها ابعاد متعددة: انها معركة على مكانة الشيعة في لبنان؛ على مكانة حزب الله كمنظمة مسلحة؛ على هوية لبنان؛ وهي مرحلة حرجة في المعركة على طابع المنطقة. وإذا ما توصلت الأطراف إلى تسوية تمنع التدهور في لبنان، فإنها لن تكون نهاية الطريق بالنسبة لحزب الله.
ماذا يريد حزب الله؟
منذ أن انفجرت الأزمة في لبنان مع استقالة الوزراء الشيعة من حكومة السنيورة (11 تشرين الثاني 2006)، طالب حزب الله بحكومة وحدة وطنية وبحق التأثير السياسي، وتلمس في ذلك النقد الموجه للحكومة على ضعف ادائها وعلى صلاتها بالولايات المتحدة.
ادرك حزب الله، بعد الحرب الأخيرة، ضرورة الاستحكام سياسياً وضرورة ضمان خط سياسي خلفي استعداداً للجولة المقبلة من المواجهة مع إسرائيل، ويحاول تصحيح هذا النقص ويعمل عليه، كي يكون على استعداد، ليس فقط على المستوى الميداني، بل ايضاً على المستوى السياسي، وصولاً إلى ضمان ألّا تقدم أي حكومة على طعنه في الظهر، خلال المواجهة مع إسرائيل. ونتيجة لذلك، حوّل حزب الله جهده الاستراتيجي إلى الساحة الداخلية اللبنانية. أحد اهدافه هو إسقاط حكومة السنيورة وتأليف حكومة أكثر قبولاً بالنسبة إليه. وإحدى الوسائل الرئيسية التي يتوسلها هي اجراء انتخابات نيابية مبكرة، تتيح للمعارضة النصر، أو في اقل تقدير، تحسين اوضاعها.
المواجهة الحالية بين المعارضة بقيادة حزب الله، والتحالف بقيادة معسكر 14 آذار، يمكن أن تأتي بنتيجتين صعبتين على إسرائيل:
ـــ شل الحكومة لمنع قيام وضع جديد في لبنان من المشكوك فيه أن يرضى حزب الله بصيغة تسوية تزود حكومة السنيورة بنفوذ سياسي ممتد حتى الانتخابات المقبلة، ولن يجد صعوبة في توفير الأسباب لمهاجمة الائتلاف (قوى 14 آذار) وتعميق الشلل السياسي والعملياتي لحكومة السنيورة. وبالتالي فإن إحراز تسوية ما سيكون مجرد استراحة وسيؤدي فقط إلى تأجيل الأزمة.
من جانب إسرائيل، الشلل السياسي والتوترات الداخلية اللبنانية كفيلة بمنع تغيير الوضع في لبنان وتطبيق القرار 1701؛ فالحكومة اللبنانية لن تكون قادرة على القيام بأكثر مما تقوم به اليوم، وسيبقى الوجود العسكري على طول الحدود في الجنوب يحاذر الصدام مع حزب الله. وستكون الحكومة اللبنانية مشغولة بحرب بقائها السياسي وستعمل بوتيرة منخفضة من اجل منع محاولات حزب الله تجديد قواعد لعبة الاحتكاك مع إسرائيل.
شرعنة حزب الله تدريجاً
إن عملية مأسسة حزب الله قوةً أساسية في النظام السياسي اللبناني، كانت السبب وراء السعي إلى التحالف مع مجموعات لبنانية أخرى في لبنان، مثلما هي الحال مع الزعيم المسيحي (رئيس التيار الوطني الحر) ميشال عون. الأمر الذي ساعد حزب الله على تشويه الصبغة الشيعية للمعارضة.
هذا التحالف يؤدي بالمجتمع الدولي إلى تبنّي خيار الانفتاح على حزب الله والإقرار بالمنزلة الخاصة التي يتمتع بها، باعتبار انّ تدخّله في السياسة (الداخلية) مفتاح حل لاعتداله. وقد شهدت أوروبا، وخاصة فرنسا، توجهات من هذا النوع بعد الانسحاب السوري من لبنان. لكن من المستبعد أن يتحول ذلك إلى اتجاه على الصعيد الأميركي، رغم وجود اصوات تنادي بذلك، والولايات المتحدة لن تكون على عجلة لاعتبار حزب الله جزءاً من الحل.
رغم كل ذلك، ولدى تحصّن حزب الله بشكل كبير في الديموقراطية اللبنانية فيما تجري شرعنته قوةً مركزية في لبنان، سيصعب اجتثاثه بصفته منظمة عسكرية، بل سيستحيل اجتثاثه بوسائل دبلوماسية.
الحرب الأهلية: الرفض اللبناني
برغم أن الظروف الاجتماعية والسياسية والتاريخية اللبنانية لها قابلية تعريض لبنان للتدهور وصولاً للحرب الأهلية، هناك عوامل تقف حائلاً أمام الحرب حالياً:
منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1989، مر النظام السياسي اللبناني بعملية استقرار، وربما أيضاً بمستوى من النضوج، في ما يتعلق بما يمكن أن يؤدي إلى أزمات داخلية. وتدرك كل القوى في لبنان مساوئ الحرب الأهلية التي لن تخدم مصالح احد، وحزب الله جزء من هذه الرؤية.
يمكن حزب الله، القوة السياسية والعسكرية الأكثر تنظيماً في لبنان، أن ينجو من مواجهة داخلية. لكن المواجهة ستؤدي إلى اضعافه على حساب كفاحه المحتمل ضد إسرائيل؛ ومن غير المضمون أن تبقى الطائفة الشيعية على تأييدها لحزب الله، خاصة إذا رأوا أنه مسؤول عن التسبب بالحرب. وكل ما يقوم به (الامين العام لحزب الله السيد حسن) نصر الله من عنف سياسي، يهدف إلى اخافة خصومه والضغط عليهم، لكنه لا يريد دفع لبنان إلى هاوية التدهور الداخلي.
رغم ذلك، هناك عوامل لا تضمن عدم التدهور الداخلي: التوترات الطائفية ـــ السياسية التي لا يمكن احتواؤها دائماً؛ وجود أكثر من قوة مسلحة في البلاد؛ التقارير الواردة عن تسلح المجموعات السياسية المختلفة؛ وجود عناصر خارجية منها سوريا، تشجع على التدهور كي تسقط حكومة السنيورة؛ إضافة إلى عناصر أخرى في لبنان لن تخسر شيئاً في حالة التدهور الداخلي: فالفلسطينيون وأعضاء الجهاد العالمي، يزدادون قوة في الدول الضعيفة التي تعاني صراعات داخلية.
في ما يتعلق بإسرائيل، يمثل التدهور الأمني الداخلي في لبنان خطراً يعيد تعريف طبيعة التهديد المتأتي من الساحة الشمالية. ومثلما قللت الحرب الأهلية الأخيرة ماهية التهديد الفلسطيني في لبنان وأنتجت خطراً شيعياً، فإن أي تدهور نحو حرب داخلية، وإن كان بإمكانه إضعاف حزب الله، إلا أنه لا يضمن عدم ظهور تهديد جديد في صورة الجهاد العالمي، الذي يعتقد انه يوسع نشاطه في لبنان.
سيطرة حزب الله على لبنان
تطور آخر يمكن ان يحدث في لبنان على المدى البعيد، نتيجةً لإطالة أمد الأزمة السياسية، يتعلق بسيطرة حزب الله على البلاد، وبالتأكيد بدعم من سوريا وإيران. ومصطلح «سيطرة» يتعلق بسيناريوهين.
أولاً، سيطرة بواسطة القوة: لدى حزب الله الإمكانات والقدرة، بمساعدة شركاء من الداخل والخارج، على إخضاع أجزاء كبيرة من البلاد (الجنوب والبقاع). وحزب الله يحتفظ بهذه القدرة لمواجهة سيناريوهات متطرفة، إذا ما أعلن لبنان وحده، أو بمساعدة عناصر أجنبية، الحرب على حزب الله من اجل نزع سلاحه، إضافة إلى مواجهة إمكان نشوب حرب أهلية.
من الصعب الاعتقاد أن لحزب الله اهتماماً بانقلاب عسكري في لبنان. فلبنان البلد متعدد الطوائف، يعتمد في وجوده واستقراره على الموازنة بينها، وأي سيطرة لأي طائفة على بقية الطوائف، هي مدخل لعدم الاستقرار وللحرب الأهلية.
ثانياً، السيطرة السياسية التدريجية. أي يجهد حزب الله للسيطرة على لبنان من دون ممارسة العنف والانقلاب السياسي، من خلال الضغط والتهديد والتحالف على غالبية في البرلمان، وتأليف حكومة تدعمه بالكامل مثل منظمة عسكرية تدافع عن لبنان. ويمكن حزب الله لاحقاً أن يستغل القاعدة البرلمانية الواسعة لفرض تغييرات دستورية مادية: إعادة توزيع الحصص بين المجموعات الطائفية وإعطاء الشيعة مناصب أساسية من اجل السيطرة على البلاد، وربما لتدعيم مكانة حزب الله «مقاومةً شرعيةً»؛ بكلمة أخرى، إعادة صوغ اتفاق الطائف.
بالنسبة لإسرائيل، مكانة حزب الله الداخلية، في ضوء هذا السيناريو، ستصبح أكثر تحصناً وستصعب هزيمته، وسيتحول لبنان إلى نقطة مركزية نشطة لتصدير عقيدة «المقاومة» إلى الساحة الفلسطينية والساحة العراقية، على نحو أكثر شمولية مما هي عليه الآن. ونجاح حزب الله في السيطرة على لبنان سيعدّ نموذجاً تحتذيه أطراف أصولية أخرى في المنطقة، تريد محاكاته. الأمر الذي يعزز بقوة إمكان حصول مواجهة أخرى بين إسرائيل وحزب الله.
الخيار السوري: العصا المكسورة
هناك اعتراف في الساحة الدولية بأن سوريا تملك تأثيراً، سلبياً أو إيجابياً، على الاستقرار الإقليمي عموماً، وفي لبنان على وجه الخصوص. ويرد ذلك بوضوح في تقرير بيكر ـــ هاملتون الذي يعزو لكل من سوريا وإيران دوراً أساسياً في استقرار المنطقة؛ وينعكس في مغازلة المسؤولين الأوروبيين، وحتى النواب الأميركيين، لدمشق من خلال زياراتهم لها.
إن الدور السوري بصفته عنصراً يمكن أن يساهم في تخفيف احتقان الأزمة في لبنان، هو أيضاً أحد العوامل الرئيسية في عدم استقراره.
في كل الأحوال، لا تواجه سوريا ضغوطاً مهمة ولا محفزات إيجابية لتغيير سلوكها، خاصة في ما يتعلق بمصالحها الحيوية في لبنان. على العكس، قياساً على طريقتها في التفكير، فإنها موجودة في مكان جيد نسبياً: المزيد والمزيد من الجهات في العالم الغربي بدأت تعترف بعلاقتها بحل الأزمات في الشرق الأوسط (أي العراق)، وتقرير بيكر ـــ هاملتون يعزز هذا الشعور، حتى لو لم يتم تبنيه سياسةً رسميةً أميركياً؛ أما حكومة السنيورة، فلم تكن يوماً في وضع أصعب مما هي عليه الآن. إضافة إلى ذلك، إن عصا العقوبات الاقتصادية ليست جدية جداً، ما دام لسوريا «خبازوها» الروس والصينيون.
التداعيات على إسرائيل
لم تنته بعد المعركة على لبنان، ويمكن أن نتوقع صراعاً ممتداً بين المعسكرات المختلفة فيه. في الوقت الحالي، ما زال «تحالف 14 آذار» يتمتع بدعم الرأي العام اللبناني، ولدى العالم العربي السني والمحافل الدولية، خصوصاً فرنسا وإدارة بوش الذي يرى في وجود حكومة لبنانية مستقلة مؤيدة للغرب، مرحلة رئيسية من مراحل المعركة على النظام الإقليمي.
على أية حال، الدعم الاقتصادي والمادي والسياسي هو جانب احد جانبي العملة. الجانب الآخر، الذي لم يطبق بعد، يتعلق بتنفيذ صارم لقراري مجلس الأمن 1559 و1701، خصوصاً البنود التي تنظر في تفكيك الميليشيات. ومنع تطبيق القرارين يعني أنه لا أمل حقيقياً أمام أي حكومة تنوي الوصول إلى «وضع جديد» في لبنان.
الأوضاع الحالية تضع لبنان أمام خيارات ثلاثة، وكلها صعبة على إسرائيل. يتعلق الخيار الأول بالفترة المقبلة، ويتمثل في شلل سياسي طويل الأمد مع احتمال ترافقه مع توترات وعنف سياسي. وهذه الحالة تفتح المجال أمام الخيار الثاني المتعلق بالتدهور الداخلي. بينما يتعلق الخيار الثالث بخروج حزب الله أقوى مما كان عليه ويصبح القوة المهيمنة في لبنان، الأمر الذي يحوّل هذا البلد إلى نقطة مركزية إقليمية للراديكالية المدعومة من إيران وسوريا.
هل يمكن إسرائيل أن تؤثر في المعركة على لبنان؟. إن إيقاف ما يقوم به ثلاثي دمشق طهران وحزب الله في لبنان فيه مصلحة مشتركة لكل من إسرائيل والعالم العربي السني والمحافل الدولية، إلا أن قدرة إسرائيل في المرحلة الحالية على التأثير بما يجري في لبنان محدودة جداً، وأغلب العبء ملقى على عاتق القوى الدولية. يمكن إسرائيل أن تدعم من بعيد أي نوع من التحالف الدولي للمساعدة في استقرار لبنان، لكن أي تدخل من جهتهاها سيثير حساسية كبيرة في العالم العربي وفي لبنان. وفي هذا السياق:
* على إسرائيل أن تدرك مساوئ أي تدخل منها في التوتر الداخلي اللبناني: «فالدليل» الذي يعمل حزب الله على تسليكه ضد «قوى 14 آذار»، هو الشراكة المزعومة بين هذه القوى وإسرائيل والولايات المتحدة خلال حرب لبنان الثانية مثلما في الأزمة الحاضرة، ويرى أن المواجهة الحالية هي امتداد للحرب. لذا، فإن أي نوع من التدخل الإسرائيلي سيجري استغلاله من جانب حزب الله سبباً إضافياً لطلب إسقاط هذه القوى ويساهم في تعميق الاستقطاب في البلاد. بالإضافة إلى ذلك، أي حادثة أو إطلاق نار تقع على طول الحدود ستكون فرصة للاستدلال على فشل الجيش اللبناني في ردع إسرائيل.
في الوقت نفسه، يتوقع المجتمع الدولي أن تقوم إسرائيل ببادرات حسن نية تجاه حكومة السنيورة بهدف تطبيق القرار 1701، باعتبار أن ذلك يعزز من قوة هذه الحكومة. ويتضمن ذلك إيقاف الطلعات الجوية فوق لبنان أو استعداد إسرائيل للوصول إلى حل يفضله لبنان في ما يتعلق بمزارع شبعا. وهذه الخطوات قد تُظهر إسرائيل بمظهر ايجابي في نظر المحافل الدولية، لكن من المشكوك فيه أن تؤدي إلى فائدة مهمة لحكومة السنيورة أمام التحدي الذي تواجهه والمتمثل في حزب الله. علماً بأن هذا الحزب لا يعمل على استبدال الحكومة اللبنانية انطلاقاً من هذه الأسباب، بل إنه سيفسر هذه الإجراءات (وبحق)، على أنها موجهة ضده، مما يوجب عليه بذل جهوده لتحييد هذا التهديد.
* حتى إذا قبلت إسرائيل بعرض دمشق لتجديد المفاوضات السياسية معها، وحتى إذا وصلت معها إلى اتفاق سلام، فإن الفائدة المتأتية من هذه المفاوضات في السياق اللبناني ستكون محدودة في أحسن الأحوال، ومتأخرة جداً في أسوإها. إن المردود اللبناني بالنسبة لسوريا تحت حكم بشار الأسد محدود جداً مقارنة بالمردود في فترة حكم أبيه. فقدرة سوريا في ظل انسحاب الجيش السوري من لبنان باتت محدودة على تحييد حزب الله، إضافة إلى أن ذلك يعدّ تحدياً لإيران.
* إذا فشلت الجهود الدولية والإقليمية في إيجاد حل سياسي للأزمة في لبنان، على إسرائيل أن تأخذ في حسبانها إمكان حصول تغيير مضاد في الوضع الراهن وبداية انحدار عميق في بيئتها الاستراتيجية، خصوصاً إذا تعززت مكانة حزب الله وأصبح القوة المهيمنة في لبنان. في مثل هذه الحالة، ستجد إسرائيل نفسها بين لاعبين، حماس في الجنوب وحزب الله في الشمال، مع وجود مصالح متبادلة تجمعهما ويشتركان معاً في «عقيدة المقاومة» ويعارضان اصلاً وجود إسرائيل. لذا، وفي ضوء هذا السيناريو المحتمل، من الحكمة أن تبادر إسرائيل فوراً إلى دراسة خياراتها العملية بالتنسيق مع الولايات المتحدة. لكن رغم كل ذلك، فإن خيار نشوب حرب جديدة مع حزب الله، سيبقى دائماً على جدول الأعمال.