strong>حسن شقراني
تطبع تاريخ الصين الحديث سلسلة تحوّلات اجتماعيّة ــ اقتصاديّة، حاول العملاق الآسيوي عبرها تهجين المعطيات لتهدئة الداخل المتوجّه دوماً نحو الانفجار بالمعايير كلها، إلى جانب التكيّف مع النظام الكوني. تحوّلات لا تبرح تفرض الاحترام لـ «ديكتاتوريّة»، قد لا تكون كذلك بالمعنى الواسع

لم تمنع أصوات المتمسّكين بجذريّة “الماويّة” تمرير الحزب الشيوعي الصيني الحاكم “قانون حماية الملكية” في إطار حملة الإصلاح الاقتصادي داخل زوبعة الإصلاح “العام” المنعتق من دائرة التصلّب الإيديولوجي، والمتجسّد تطويعاً للنظم والآليّات التي تحكم علاقة الدولة بالسوق منذ 30 عاماً، أي منذ انطلاق ما يسمّى بالثورة التصحيحية عام 1978.
وليس الشارع الريفي الفقير الذراع الوحيدة الضاغطة على توجّه جمهوريّة الصين الشعبيّة، حيث يعيش مأساة مصادرة الأراضي الزراعيّة، الموزّعة أساساً وفق النظام، بالتوازي مع النمو الاقتصادي. إذ تبرز في المجتمع الصيني “طبقة وسطى” لا تنفكّ تطرح مطلب وجوب بلورة قانون يمنحها طمأنينة المحافظة على أصولها الماديّة لتسري في العائلة عبر الأجيال.
والقانون، الذي أقرّه الشهر الماضي مجلس الشعب الصيني (البرلمان)، الذي يضمّ نحو 3000 نائب ويجتمع مرّة واحدة سنوياً، ليس الأوّل في هذه الألفيّة الذي يوجّه صفعةً لمن يريد المحافظة على نموذج “ماويّ” بشيفرة سوفياتيّة محدَّثة.
فالصفعة الأولى جاءت من خلال تحوّل نوعي عام 2002 حين فتح المجال أمام رجال الأعمال للانضمام إلى الحزب الشيوعي. تبعته بعد سنتين التعديلات الدستوريّة التي احتضنت “حقّ الملكيّة الخاصّة”.
وفي المحصّلة، فإنّ دخول طبقة “النبل الاقتصادي” إلى حقل السياسة يتعارض تلقائيّاً مع مبدأ حكام “الحزب الواحد”، ويشكّل تهديداً ينسلّ تدهوراً في بنية فكريّة سياسيّة، ولا يتوقّف للإجابة عن سؤال “من يملك ماذا؟” داخل بوتقة الملكيّة الجماعيّة في الأرياف.
ولعّل مفهوم الثورة الماركسيّة أصبح مزدوجاً الآن في النموذج الصيني؛ فمن جهة، تبرز النخبة البرجوازيّة الصاعدة التي تفيد كثيراً من القانون، والتي ستمثّل، في مرحلة معيّنة، رافداً لثورويّة معيّنة تؤدي دور “الجوكر المعاكس” في جدليّة ماركس. ومن ناحية أخرى، يبرز “الكبت الريفي” الذي لا يرى في القانون تجسيداً معيّناً لمصلحة الفلّاح، بل توجّهاً يسعى في مضامينه الأشمل لتعبيد الطريق أمام نموّ اقتصاي تتفاعل معه مصالح الطبقة المذكورة أعلاه، إذا بقي مبدأ النمو المتوازن مجرّد خطاب داخل مجمع الحكم.
وممّا لا شكّ فيه، أنّ القانون سيحدّد معالم جديدة للنظام، قواعدها التناقض مع أسس الجمهوريّة الشعبيّة ودولة التخطيط المركزي، استكمالاً لتحوّلات، بدأت قبل ذلك، وتعدّ أكثر جذريّة نسبةّ إلى طبيعة الحكم.
الأمّة العظيمة,/strong>
“الطريق المختصر نحو الاشتراكيّة”، وهو ما سمّي بـ “الدفعة القوية إلى الأمام”، شعار شكّل محور توجّهات الزعيم وقائد الثورة الشيوعيّة ماو تسي تونغ (1893ـــ1976). وهو تعبير عن برنامج اقتصادي ـــ اجتماعي ـــ سياسي بدأ تطبيقه منذ بداية ستّينيّات القرن الماضي، ورأى الحزب الشيوعي فيه خطوةً لتطويع النطرية الاشتراكية بما يتماشى والخصوصيّات الصينيّة.
وهدف البرنامج إلى إيلاء الجانبين الثقافي والاجتماعي حيّز الاهتمام الاقتصادي نفسه، وجرى حثّ الشعب الصيني على الانخراط في ثورة شيوعيّة تطمح إلى تخطّي بريطانيا بهامش 15 عاماً في مجال الصناعات الأساسيّة.
وجاءت “إعادة الهيكلة” الاجتماعيّة على شكل إلغاء للمركزيّة الإداريّة، وحلّت “الجماعية” في العمل الزراعي والصناعي، مكان العائلة، التي كانت الخلية الأساس للمجتمع. وألّفت وحدات، قوام الواحدة منها نحو 10 آلاف فرد، تعمل وفقاً لمبدأ “السير على رجلين”، بحيث يتطوّر القطاعان الزراعي والصناعي بوتيرة متوازية مدروسة تضمن للشعب الصيني، الذي كان يعيش انفجاراً سكانيّاً، هامشاً من الأمن الغذائي.
إلّا أنَ المحصّلة تمثّلت فشلاً ذريعاً، أنتجه انتفاء الحوافز الفرديّة وغياب التقنيّين، الذين كان معظمهم سوفياتيّين (حيث كان الاتّحاد السوفياتي حينها على خلاف منهجي مع الصين)، وهو ما ولّد أول خطوة إلى الوراء منذ سيطرة الحزب الشيوعي على الحكم عام 1949، وأضعف السلطة عموماً.
يظهر مفهوم “الأمّة العظيمة”، الذي كان الشعب الصيني، بتشعّباته الإثنيّة الممتّدة من جماعة “الهان” وصولاً إلى البوذيّين، يمثّلها منذ حكم سلالة “تانغ” (618 ـــ 907)، جليّاً في قدرة هذا الشعب على تخطّي “الردّات التاريخيّة” وبلورة التكيّف مع التحوّلات.
ويبرز اسم دينغ زياو بينغ رائداً في حقبة ما بعد ماو، حيث تسلم زمام قيادة النظام عام 1978 وأطلق برنامج “الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي” الذي تبنّى مبدأ “المبادرة من أجل النموّ”، وعقلن مبدأ “التخطيط المركزي”، وحرّر المؤسّسات من السيطرة الرسميّة الكليّة، وطرح الربح حافزاً أساسياً للحياة الاقتصاديّةوانضمّت بكّين عام 1980 إلى البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، قبل أن يتكرّس مفهوم الانفتاح على الرأسماليّة عام 1992، والذي عبّر عنه زياو بينغ من خلال شعاره الشهير “أن تصبح ثريّاً هو مجد”.
أمّن زياو بينغ استمرار نهجه عبر شخص جيانغ زيمين، الذي تربّع على عرش رئاسة الجمهوريّة والحزب منذ 1993 حتّى 2003. وبالفعل استكمل الأخير مسيرة معلّمه، حيث شهد عام 1997 إعلان الاستعداد لخصخصة المؤسّسات العامّة، وزيارة تاريخيّة لزيمين إلى الولايات المتّحدة.
وإضافة إلى إطلاقه حملة لـ “مكافحة الفساد” في أروقة الحزب الشيوعي وداخل دهاليز الإدارات الرسميّة، فتح زيمين، الذي لم يُعدّ أكثر من رئيس انتقالي بعد وفاة زياو بينغ بسبب شخصيّته الجافّة والآفاق الدبلوماسيّة الضيّقة التي كانت تعد بها، الباب على مصراعيه أمام انخراط بلاده في النظام الدولي.
ومثّل انضمام الصين إلى منظّمة التجارة العالميّة عام 2001، وفوزها باستضافة الألعاب الأولمبيّة الدوليّة لعام 2008، إنجازين ضخمين، يعدّان خروجاً من خانة التهميش الدوليّ على الصعد كلها.
الجيل الرابع... وتحدّياته
عقد الحزب الشيوعي الصيني مؤتمره السادس عشر عام 2002، وانتخب هيو جينتاو (59 عاماً حينها) أميناً عاماً له، وكان أصغر عضو في اللجنة المركزيّة للحزب، ويمثّل عيّنة ممّا يسمّى “الجيل الرابع” في تاريخ السياسة الصينيّة، أي ذلك الذي انخرط في غمارها بعد الثورة الشيوعيّة.
وفي العام التالي، انتخب مجلس الشعب هيو رئيساً للجمهوريّة، أي الرقم واحد في النظام.
بقي زيمين رئيساً للجنة العسكريّة المركزيّة (الجيش)، التي تُعدّ مفتاحاً أساسياً وإن لم يكن الأهمّ في هيكليّة السلطة وآليّة صنع القرار، حيث كان التقليد قد سرى على زياو بينغ من قبله. إلّا أنّ الإصرار الذي أبداه هيو على ضبط مفاصل نظامه كلها، أنتج مجموعة من التضاربات مع سلطة زيمين، الأمر الذي دفع الأخير إلى الانسحاب من الساحة السياسيّة عام 2004 وتولّي الأوّل رئاسة الجيش والجمهوريّة والحزب الشيوعي.
وأطلق رئيس الوزراء الصيني وين جياباو مجموعة من العبارات الرنّانة خلال مؤتمر البرلمان بداية الشهر الماضي ركّزت على “وضع المواطن على أعلى سلّم الأولويّات... وضمان مشاركة الشعب كلّه في ثمار الإصلاح والنموّ”، و“إيلاء أهميّة اكبر لادّخار الطاقة”، و“هجر السعي إلى نموّ أكبر، وإحلاله بالتنافس إلى تحقيق نموّ أكبر”.
يندرج الاقتصاد الصيني في خانة اقتصاديّات “الظمأ للطاقة”، فهو يأتي في المرتبة الثانية دولياً، بعد الولايات المتّحدة، من حيث استهلاك النفط. وقد سجّل العام الماضي، بحسب وكالة “شينخوا” الصينيّة، استيراد 47 في المئة من حاجة البلاد النفطيّة، أي ما يمثّل ارتفاعاً بنسبة 4 في المئة مقارنةً بالسنة السابقة.
وحاجة بلاد التنّين للذهب الأسود تشتدّ يوماً بعد يوم، إذ تطرح عجلة الإنتاج الضخمة، التي دفعت البلاد نحو التحوّل إلى مستورد نفطي منذ عام 1993، معضلة استيراد 162.87 مليون طن من البترول، إلى جانب الـ 183.68 مليون طن المنتجة محلياً.
ولا عجب من تداول موضوع نسبة النموّ، التي سجّلت السنة الماضية ما يقارب الـ 9 في المئة، بعد أربع سنوات توّجت نسبة نموّ الاقتصاد خلالها أرقاماً تتعدّى 10 في المئة.
ويبرز تدبير البنك المركزي الصيني الشهر الماضي، من خلال رفع سعر فوائد القروض الممنوحة، على قاعدة سنويّة، بمقدار 0،27 نقطة، أي إلى 6.39 في المئة، في إطار سعي البلاد إلى كبح جماح التضخّم، الذي بدأ يقارب نسبة الـ 3 في المئة مع ارتفاع مؤشّر أسعار المستهلك خلال الشهر الماضي 2.7 نقاط.
وعلى صعيد آخر، يظهر التحدّي في مجال مكافحة الفساد، الذي لا يعصى عليه الاستشراء في بلد يحوي 1.31 مليار نسمة أي 21 في المئة من سكّان الأرض (بحسب آخر الإحصاءات)، أساسياً لضمان ارتباط شبكة الطموحات الحكوميّة بإدارات تدبّر، بطريقة فعالة، شؤون 22 مقاطعة (الـ 23 هي تايوان) إلى جانب 5 أقاليم ذاتيّة الحكم هي منغوليا الداخليّة وغوانكزي وتيبت ونينيكزيا وزينغ جيانغ.
وعلى الرغم من أنّ تدبير إقالة رئيس الحزب الشيوعي في شانغهاي (أكبر المدن الصينيّة) تشين ليانغ ليو في أيلول الماضي، على أسس الفساد في الإدارة، لم تلق أصداءً سوى في مدى ارتباط العزل بـ “إصرار جنتاو على إبعاد منافسيه عن حقل صناعة القرار والتأثير”، فإنّ اعتماد الصين سياسة “التطهير” يبدو معقولاً وإن لم يكن خارقاً.
فقد عبّر جياباو عن هذا الهاجس بانتقاد ممارسات بعض الحكومات المحليّة والمكاتب والمنظّمات التي “تتنافس بين بعضها لأسباب تافهة وتنفق الأموال بطرق همجيّة، وهو ما يثير غضباً شعبيّاً على الحكومة”.
وعلى الصعيد الاجتماعي، عبّر رئيس الوزراء، خلال اجتماع البرلمان الذي تزامن مع مؤتمر الحزب الشيوعي، عن نيات الحكومة زيادة الإنفاق على شبكة الأمان الاجتماعي (الضمان) بنسبة 86.8 في المئة لتصل إلى 31 مليار ينّ (4 مليارت دولار)، والإنفاق على التعليم بنسبة 42.7 في المئة لتقارب الـ 85.8 مليار ين (11 مليار دولار).
وفيما وعد بإبقاء نسبة التضخّم، المرتبط بتماسك السياسة النقديّة، تحت الـ 3 في المئة في العام المقبل، تعهّد جياباو بخفض عجز الميزانيّة المركزيّة إلى 245 مليار ين (32،5 مليار دولار) أي أقلّ بـ 50 مليار ين عن السنة الماضية، إلى جانب ترشيق النظام الضرائبي الذي يتولّى الرقابة على محاسبة الشركات الأجنبيّة.
الديموقراطيّة والاقتصاد
يربط الكثيرون بين مفهوم “صعود” الأمم وضرورة إيلاء السلطات فيها حيّزاً أساسياً لحريّة التعبير والتعدّديّة.
وبالتالي يصبح مدى احترام حقوق الإنسان فيها المعيار الأساس في كيفيّة النظر إلى أفق تطوّرها.
تسعى تلك النظريّات إلى إفراغ “عظمة” أيّ نظام من الموجبات غير تلك المتعلّقة بالجانب الموضوعي، مثل الناتج المحلّي ونسبة البطالة إلى آخره.
ولم يكن ردّ بكّين على التقرير السنوي الأميركي بشأن حقوق الإنسان، الذي صدر الشهر الماضي واتّهم الصين بانتهاكات متزايدة في هذا الحقل، عبثيّاً. فقد أوردت الإدارة الصينيّة، معتمدة على تقارير ودراسات وأميركيّة، باقةً من التجاوزات الأميركيّة التي تخترق حدود الأخلاق والحقوق الإنسانيّة بدءاً من داخليّة مجتمعها ووصولاً إلى حربيها في أفغانستان والعراق.
هل يجب على الصين التحوّل إلى التعدّدية الحزبيّة؟ يبدو السؤال وجيهاً في ظلّ مجموعة التحوّلات التي ابتكرتها وتبتكرها للتربّع على عرش المرشّحين إلى ريادة اقتصاديّة دوليّة مستقبليّة.
الوضع معقّد جدّاً. إلّا أنّه من الواضح أنّ الصين اليوم ليست صين تمّوز عام 1989 حين تضرّجت الدماء في ساحة “تيان أن مين” في بكّين، بعد مواجهة بين الجيش ونحو مليون منادٍ بالديموقراطيّة أسقطت بين 3 و5 آلاف طالب ومواطن صيني. لحظ الاقتصادي آدم سميث عام 1776، أنّ “السوق الداخلي الصيني هو بحجم اقتصاديّات بلدان أوروبا مجتمعة”، والعظمة مستمرّة في يومنا هذا حيث سجّل الاقتصاد الصيني، الذي يبلغ حجم الناتج المحلّي الإجمالي فيه 1،42 ترليون دولار (تقديرات عام 2005)، ارتفاعاً بلغ نسبة 18،5 في المئة من صادراته الصناعيّة في الشهرين الأوّلين من العام الجاري مقارنة بالفترة نفسها من السنة الماضية.
وعلى الرغم من أيّ تحفّظات غربيّة تسعى لتقييد التنّين الآسيوي، الذي فهم لعبة “التكيّف الدولي” على امتداد تجربته، إلّا أنّه لا ينفكّ يطرح نفسه منافساً... وبقوّة.