strong>حسن شقراني
تشكّل الأحلاف وإعادة التمركز داخلها أسس الاستراتيجيا التي تعتمدها أيّ دولة في علاقاتها الدوليّة. ومتى استوفت شروطاً اقتصادية وعسكرية، تطرح أيّ عاصمة نفسها مركزاً عالمياً تعتبره الصين، ومنذ أزمان، من حقّها. فكيف تفعل في زمننا هذا لاستعادة أمجادها؟

  • «ليونة عدائية» في علاقة «التنين» و«النسر»... والمعارك في الكواليس

    يعكس ردّ الصين على التخوّف الأميركي من نموّ قدراتها العسكريّة نوعاً من التجاهل ذي الطبيعة الدبلوماسيّة. فلدى سؤاله عن الموضوع أجاب المتحدّث باسم البرلمان الصيني جيانغ إنزو بالإشارة إلى النفقات العسكريّة الأميركيّة المطروحة لميزانيّة العام المقبل. وأوضح أنّ الرقم المقترح في بكّين لا يشكّل سوى جزء بسيط من المبلغ الأميركي الذي يوازي الـ 481,4 مليار دولار من دون نفقات حربي أفغانستان والعراق.
    «التخوّف» جاء بعد إعلان إنزو، خلال افتتاح الجلسة السنوية للبرلمان الصيني الشهر الماضي، نية الحكومة الصينيّة رفع قيمة المبلغ المخصّص للميزانيّة العسكريّة بحدود الـ 17,8 في المئة ليقارب الـ 350 مليار ين (نحو 45 مليار دولار)، ما أثار عواصف توتّر آسيويّة ودوليّة.
    “المواجهة” مع الولايات المتّحدة
    تتميّز العلاقات الأميركيّة ــــــ الصينيّة بطابع «الليونة العدائيّة». عدائيّة لأنّ «الشيوعيّة» هي الدين المكفّر لـ«الحلم الأميركي»، وليّنة لأنّ الحرب الباردة دفعت واشنطن إلى إيجاد أيّ حليف قويّ أو واعد ضدّ الاتحاد السوفياتي، وإن بمعنى العداء الفكري فقط.
    لكن كيف تنبعث هذه العلاقات في عالم اليوم، وهل تعيد إنتاج نفسها؟
    بالعودة إلى «التخوّف»، هو بطبيعة الحال ذو صبغة إعلاميّة. بمعنى أنّ معدّل ارتفاع الإنفاق في حقل «الدفاع» لدى الصينيّين لم يأت فجأة. فقد سجّلت الأعوام منذ 1990 إلى 2005 معدّلاً في نسبة رفع الميزانيّة العسكريّة يقارب 15 في المئة. تخلّلها رقم قياسي في عام 2002، حيث بلغت النسبة 19,4 في المئة. وكانت حدود ردود الفعل الأميركية المطالبة بنوع من «الشفافيّة» حول النيات العسكريّة التي تضمرها بكّين. فقد جاء تعقيب البيت الأبيض على الحدث، وعلى لسان المتحدّث باسمه طوني سنو، بالقول إنّ «تلك الشفافيّة التي نطالب بها هي فقط لمنح الشعوب ثقة بما يجول في خاطر الإدارة الصينيّة»، فيما وصف مجلس الأمن القومي الأميركي الخطوة بأنها «مقلقة» لجيران البلد الآسيوي، ودعا إلى «مزيد من الوضوح في المستقبلتدرّج بكين الإجراء في خانة «الدفاع». فهي ترى العلاقات الأميركيّة ــــــ التايوانيّة وتراً مهماً في ضغط تايبيه عليها للانفصال. ويبدو أنّ رقصة التوازن الاستراتيجي بين واشنطن وبكّين يحددها التلاعب بمصير «المقاطعة الـ 23» بحسب التصنيف الصيني.
    وفي خطوة، سبقتها أخريات أمّنت تفوّقاً في سلاح الجو التايواني على الصيني، وافقت واشنطن أواخر شباط الماضي على بيع تايبيه 450 صاروخ أرض ــــــ أرض، وأرض ــــــ جوّ؛ خطوة نظر إليها الجانب الصيني بـ«قلق» على قاعدة «مدى تهديدها لساحل البلاد الجنوبي الشرقي».
    راكمت الصين، منذ إقرار «الصفحة البيضاء» لموازنة النمو الاقتصادي بالعسكري في ثمانينيات القرن الماضي، جيشاً يعدّ 1.3 مليون عنصر، وترسانة عسكريّة مهمّة. ويبدو الهاجس السيادي الذي تغذّيه السياسة الأميركيّة في منطقة شرق آسيا، رافداً أساسياً لتخوّف الصين من محاولات تايوان الانفصاليّة.
    والمواجهة بين الدولة الأمّ والمقاطعة «المتمرّدة» مستمرّة منذ انتصار الثورة الشيوعيّة. ولن تكون تصريحات الرئيس التايوانيّ شين شوي ــــــ بيان الشهر الماضي الحلقة الأخيرة في هذا المسلسل، حين عبّر عن رغبة بلاده الحقيقيّة في الانفصال عن الدولة الشيوعيّة، محرّكاً بالتالي حسّاً وطنيّاً تايوانيّاً معيّناً، يعطيه دفعة في الانتخابات المقرّرة العام المقبل، يطمح فيها لولاية ثانية.
    وحدّد شين «عقيدة» من أربعة مطالب هي «الاستقلال» و«تغيير اسم البلاد في الدستور» (إخراجه من إطار جمهوريّة الصين) و«دستور جديد» و«تحقيق النمو والتطوّر». ذاك التوجّه هو بالتحديد ما وصفه وزير الخارجيّة الصيني لي زاوزينغ بأنه «جريمة».
    هل توجّهات تشين مجرّد زيادة في رصيده الانتخابي، أم إشارة إلى خطوات انفصاليّة حقيقيّة؟ طرح السؤال وحده يرعب المنطقة، بحكم التفاعلات الخطيرة جدّاً لأيّ تدبير «انفصاليّ»، تدعمه واشنطن بسريّة أو علنيّة، وتواجهه بكّين.
    إلّا أنّ سلسلة «التنين بمواجهة النسر» تمتدّ إلى قارّة بلاد العمّ سام أيضاً، حيث إنّ باحة واشنطن اللاتينيّة متمرّدة، وبكين لا تهمل واجباتها الجنوبيّة ــــــ الجنوبيّة، ويشكّل الاتفاق النفطي، الذي وقّعته السنة الماضية مع كاراكاس مثالاً مهمّاً لأفق التعاون. فقد حصلت الصين بموجبه على 120 ألف برميل نفط يوميّاً (يتوقّع أن يرتفع الرقم إلى 1.6 مليون برميل نهاية العام الجاري) بسعر خيالي لا يتعدّى الـ 4 دولارات للبرميل (نسبة بسيطة من سعره العالمي).
    ولا عجب من التوتّر الأميركي من الموضوع. فالولايات المتحدة تسقي 60 في المئة من استهلاكها المتعطّش للطاقة، بالنفط الفنزويلي.
    إلى ذلك كلّه، تبقى الليونة والمهادنة العلنيّتان غطاءً لجميع معارك الكواليس، ويأتي التعقيب الأميركي على الضربة الأخيرة التي تلقّتها بورصة نيويورك (الهبوط الأعنف في مؤشّرات الأسهم منذ أربع سنوات في أعقاب إجراءات اقتصاديّة أطلقتها الحكومة الصينيّة الشهر الماضي) في هذا الإطار.
    فقد وصف رئيس الخزانة الفيديراليّة الأميركيّة علاقة بلاده الاقتصاديّة بالصين بأنها «مهمّة جدّاً للولايات المتّحدة وعلينا مضاعفة مكوّناتها»، مشدّداً على أنّ «من الخطأ تحويل الصين إلى عدوّ».
    “الحليف” الروسي
    أثارت المناورات العسكريّة المشتركة الأولى بين الصين وروسيا في آب عام 2005، حفيظة العديد من المراقبين السياسيّين ومتابعي الاستراتيجيا العسكريّة. فقد كانت تحت عنوان «مهمّة السلام 2005»، وظهرت على شكل رسالة واضحة إلى واشنطن وتايوان والدول الباقية كتوضيح لما يمكن أن تكون عليه طبيعة الأحلاف في شرق آسيا بكلّ اتّجاهاته.
    التعاون في الميدان العسكري يُبرز مدى أهميّة الروابط بين بكّين وموسكو. و«الأمن القومي» للبلدين، الذي تضاعفت أهميّته بعد 11 أيلول 2001، يطرح على الطرفين تحدّيات متجدّدة في ظلّ عالم الهيمنة الأميركيّة و«الإرهاب الدولي».
    لكن كيف يتمّ التعاون؟ تحديد الهدف هو الجواب. فلقد خاض البلدان تجربتي النهوض من منظورين مختلفين. الصين نجحت في تهجين ثورتها الشيوعيّة لغزو العالم اقتصاديّاً، واعتمدت سياسة التطوير الصاعق (النهوض السلمي السريع). أمّا روسيا فإنّ تجربتها السوفياتيّة الخائبة وانضمامها الأوّلي إلى اقتصاد السوق، الذي جاء أكثر خيبة، شكّل حافزاً قويّ البنية لبناء الفيديرالية الروسيّة التي نعهدها اليوم تحت جناح العقيدة البوتينيّة (نسبة إلى الرئيس فلاديمير بوتين).
    والعلاقات بين العملاقين مرّت بفترات جفاء خلال زمن الاتّحاد السوفياتي، بسبب الخلافات الفكريّة بين ماو تسي تونغ والحزب الشيوعي في موسكو. إلّا أنّ وحدة الأهداف، « النهوض في زمن العمالقة»، لم تبرح تدفع البلدين نحو التعاون.
    التشابه كبير بينهما. فالصين ستجري تجربتها الفضائيّة الثالثة العام المقبل، بعد انضمامها إلى النادي الفضائي عام 2003 وحلولها إلى جانب روسيا والولايات المتّحدة. والطموحات الضخمة، التي دخل هاجس غزو سوق الطائرات التجاريّة (المتوقّع أن يدرّ 2.6 تريليون دولار خلال العقدين المقبلين) ليسدّ إحدى ثغراتها، لا تبرح تفرض على الطرفين جموحاً نحو التعاون الاقتصادي والعسكري. الموضوعان اللذان شكّلا لبّ زيارة الرئيس الصيني هيو جينتاو إلى موسكو الشهر الماضي.
    «العام 2007 علامة فارقة في العلاقات الروسيّة ــــــ الصينيّة، التي ستدخل عقدها الثاني فيه، وسيشكّل مرحلة جديدة في تطويرها». توصيف أطلقه جينتاو قبيل زيارته، يعطي انطباعاً كافياً عن آفاق بكّين وموسكو المشتركة، والمتمثّلة في تنسيق استراتيجي أسسه «تأمين الاستقرار والسلام في العالم» على حدّ تعبير جينتاو.
    وتحت عنوان «سيمفونيّة الربيع»، افتتحت مراسم الزيارة التي تطرّقت إلى الاقتصاد والطاقة ومعضلات السياسة الدوليّة مروراً بكيفيّة التعاطي مع عالم القطبيّة الواحدة.
    فقد أشرف بوتين وهيو على توقيع شركات صينية وروسية 21 عقداً بقيمة 4 مليارات دولار، منها المختصّ بالفضاء لاستكشاف المريخ، وبالشؤون الجمركية، إلى جانب توقيع اتفاقية تعزيز التعاون في مجال نقل النفط الروسي إلى الصين بواسطة القطارات ورفع حجمه من 11 مليون طن إلى 15 مليون طن سنوياً.
    وأطلق المحور الاقتصادي الحيوي جدّاً بين البلدين (يتخطّى مستوى التبادل التجاري بينهما الـ 29 مليار دولار)، العنان لخطاب يدفع لإقامة «نظام دولي متعدّد الأقطاب» قادر على احتواء «الشراكة الاستراتيجيّة» بينهما، التي شدّدا عليها في بيانهما النهائي.
    وبما أنّ توازن القوى يولّد الاستقرار والسلام، فإن تصريح هيو الأخير يعبّر، بمعنى ضمني، عن حاجة لتعاون متقدّم يوازن النظام الدولي بعيداً عن أحاديّة أميركيّة ويؤمّن للبلدين طريقاً معبّداً يحلّ مكان الاستقطاب الذي تولّده هذه الأحاديّة والذي، بكلّ بساطة، لم يعد يناسبهما.




    الصين ــ اليابان... جوار وعداوةوفي إطار السعي الحثيث إلى ترتيب العلاقات الصينية ــــــ اليابانيّة، ارتأى معظم القادة السياسيّين في طوكيو التعليق الحادّ على المسألة، بينهم رئيس الوزراء شينزو آبي.
    يمكن وصف العلاقة بين الجارين بأنها «حسّاسة». فرغم انقضاء زمن الإمبراطوريّة اليابانيّة ومحاولة سيطرتها على الصين (تجربة إقليم منشوريا الفاشلة في ثلاثينيّات وأربعينيّات القرن الماضي)، يبقى التوتّر هو الحاكم بين البلدين.
    فاليابان تشكّل أحد محاور الرأسماليّة الحديثة، إلى جانب الولايات المتحدة وأوروبا المتحدة. وإنجازاتها الاقتصاديّة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية خاضعة دوماً للتهديد، الآتي أساساً من «نهضة الصين السلميّة» وارتفاع رصيدها في المنطقة والعالم.
    ولا عجب من اعتبار تلك «النهضة» باعثةً للروح الوطنيّة الصينيّة أيضاً. فقد شكّلت الاحتجاجت في بكّين منذ عامين على التعديل الياباني لمعطيات تاريخيّة (حول الاعتداءات اليابانيّة خلال الحروب مع الصين) في كتاب التعليم المدرسي، مثالاً جديراً بالمقاربة.
    إلّا أنّ السعي الثنائي إلى تهدئة التوتّرات في شرق آسيا، ومحاولة التصرّف العقلاني حيال الأمور العالقة والأزمات المستجدّة (بصفة اليابان حليفاً أميركيّاً بامتياز) يطغى على عموميّة العلاقة، رغم استمرار ميزانيّة الدفاع الصينيّة بالارتفاع وتلك اليابانيّة بالهبوط.
    وتُعتبر الزيارة المرتقبة للرئيس الصيني هيو جينتاو إلى بلاد الشمس الشهر الجاري الأولى من نوعها منذ عام 2000، وتأتي في سياق إعادة العلاقات إلى سكّة إيجابيّة، واستكمالاً لحوار قد يكون بدأه آبي خلال زيارته إلى بكّين العام الماضي، بعد انتخابه مباشرةً، في محاولة للتكفير عن ذنوب سلفه جونيشيرو كويزومي، والتي تمثّلت بزيارات متكرّرة إلى أضرحة جنود الحرب المثيرة لحساسيّة وطنيّة معيّنة في الصين.
    الأحلاف وإعادة التمركز فيها، لعبة يجيد المارد الصيني تحوير إحداثيّاتها. وكما على الصعيد الاقتصادي، فإنّ بلاد التنّين وكونفوشيوس ترى في القرن الواحد والعشرين فسحة للإبداع في العلاقات الدوليّة التي لا شكّ في غنى أوراقها فيها.