بغداد ــ الأخبار
في الذكرى الرابعة لسقوط العاصمة العراقية بغداد بيد القوات الأميركية، يطرح الكثير من العراقيين أسئلة مقارنة بين ما كان عليه الوضع سابقاً إبان حكم صدام حسين والوضع الحالي في عهد الاحتلال، فيأتي الجواب جامعاً: «لا أمن»

  • نزلاء «المنطقة الخضراء» يأملون التنزّه بحرية في شوارع بغداد

    عندما تجلس على ضفة نهر دجلة، تتأمل في صفحة الماء، والشمس المتدلية فيها نهاراً، او انعكاسات الأضواء التي تلونها في الليل، فإنك بلا شك تتذكّر وجودك في هذا الكيان الأسطوري الجميل الذي كان اسمه بغداد، لأن الشمس لم تعد تسترخي على خد دجلة، ولم يعد لأضواء المساء وجود. مع ذلك، تبقى عاصمة الرشيد موجودة، حتى لو محتلة أو أسيرة أو مثخنة بالجراح.
    الوصف الأسطوري لبغداد، كان في نظر الكثير من العراقيين غير واقعي في ظل «الحكم الديكتاتوري» الذي كان يكم الأفواه، وزج البلد في حروب دامية أدت دوراً كبيراً في تراجعه اقتصادياً وعمرانياً، ووضعه تحت حصار أميركي ــــ دولي، يقرّ الجميع بأنه كان جائراً، لأن آثاره السلبية طالت أبناء الشعب لا الحكام. ومع ذلك بقي العراق، فأي عراق بقي الآن بعد أربع سنوات من الاحتلال؟
    الأفضل والأسوأ
    يقول داعية حقوق الإنسان المحامي الدكتور فرحان عبد الكريم إن «هناك من يتساءل أيهما أفضل الاحتلال أم الديكتاتورية، وفي الحقيقة فإن التساؤل يجب أن يكون: أيهما أسوأ، الاحتلال والديكتاتورية، فليس بينهما شيء حسن. لكن هذه المقارنة غير واقعية وظالمة، لأن الاحتلال أسوأ أنواع الديكتاتورية».
    ويضيف عبد الكريم «أنا من أهالي الفلوجة التي فقدت وفق الإحصائيات الرسمية الدولية واحداً من كل 140 من سكانها منذ بداية الاحتلال حتى الآن». ويتابع: «كم قتل نظام البعث طوال خمسة وثلاثين عاماً، هل وصل العدد في كل العراق ما وصله في مدينة واحدة صغيرة، وخلال أربع سنوات فقط؟ كان صدام حسين يعدم معارضيه، وهذا يعدّ في منتهى القسوة والديكتاتورية، أما الآن فلا يعرف العراقي من الذي يقتله، ولماذا؟».
    سياسيون ومواطنون
    بحسب سائق سيارة الأجرة طارق عبد الله «كان صدام ديكتاتوراً، لكن أهم ما كان يميّز النظام الديكتاتوري هو الأمن والأمان، أما الآن، فأنا لا أستطيع ممارسة عملي قبل السابعة صباحاً، ولن يكون بمقدور سائق سيارة الأجرة الخروج من منطقته بعد الخامسة عصراً».
    ويضيف عبد الله «أسوأ ما جاء به الاحتلال ومن أتوا معه هو التناحر الطائفي، فسائق سيارة الأجرة من هذه الطائفة لا يستطيع الذهاب الى المنطقة ذات الغالبية من الطائفة الأخرى، او حتى المرور قربها، فضلاً عن انتشار السيطرات الوهمية التي تختطف وتقتل على الهوية، وقطع الطرق بالكتل الأسمنتية والأسلاك الشائكة، حتى أصبح الدخول إلى منطقة ما أشبه بالمعجزة».
    جريمة الحصار
    أما خليل سعدون اللامي (موظف)، فيرى أن راتب الموظف في عهد صدام وصل في ذروة الحصار الى ثلاثة آلاف دينار، أي أكثر من دولار بقليل شهرياً، وذلك لا يكفي لمعيشة يومين أو ثلاثة، لكنه يضيف «كان ذلك بسبب الحصار أولاً، وبسبب السياسات الحمقاء لنظام صدام، ولهذا لا يزال شعبنا يكره الذين فرضوا الحصار، وكذلك الذين أوجدوا المبررات له».
    ويضيف اللامي «مع حالة التقشف، كان الموظف يجد عملاً آخر له، بعد الدوام الرسمي او خلاله، وكانت الحالة المعيشية مزرية، وكان العراقيون يستطيعون تدبير أمورهم من خلال مواد البطاقة التموينية التي ابتلعها أتباع الاحتلال».
    ويقول «رغم الفقر والعوز .. كانت هناك فسحة واسعة للحرية، كانت العائلات تخرج الى الحدائق والمتنزهات. وكان هناك الأمن والامان، والكثير من الخدمات التي يتحسر عليها المواطنون الآن».
    أما الطالب الجامعي محمد سعدون فيقول «منذ مجيء الاحتلال ومنافقيه لم نلمس غير التخريب. عندما ننظر إلى شارع حيفا ومدينة الطب وشبكة الطرق المجسّرة التي تعد الأفضل في المنطقة، ونقارن ذلك بالوضع الآن نجد البون شاسعاً. على الأقل كان الدواء مجانياً ومتوافراً للجميع، وفي أرقى المستشفيات والمستوصفات والعيادات الشعبية. أما الآن فإن من يتعرّض لمرض مفاجئ ليلاً، فلا يملك سوى أن ينتظر الى الصباح، إن وجد الطريق مفتوحاً، لمراجعة المستشفى».
    المتنبي قتل مبكراً
    يرى القاص سالم خضير «نحن الآن نعيش في مقبرة اسمها بغداد، وهذا هو شأن بقية المدن العراقية. أنا أستغرب موقف أولئك المسؤولين الذين تباكوا على شارع المتنبي الذي دمره انفجار سيارة مفخخة. أين كانوا من شارع المتنبي الذي أحرقت الجماعات الطائفية كتبه العلمية؟ بل أين كانوا طيلة سنوات الاحتلال. وما الذي قدموه إلى هذا الشارع؟». ويقول «سمعت أحد المسؤولين يقول إن الإرهابيين استهدفوا الثقافة العراقية، وهذه مزحة سمجة، لأن الثقافة ذبحت مع مجيء الاحتلال ومريديه الذين دأبوا على خنق الثقافة الأصيلة، ونشر الثقافة الطائفية فقط. وهي لا تمت الى الثقافة العراقية بصلة». ويضيف: «في النظام السابق، كنا في شارع المتنبي نتداول حتى الكتب الممنوعة، أما الآن فإن المثقف يقتل لأنه يقرأ هذا الكتاب او ذاك من التي تخالف الفكر الطائفي، بينما تنتشر على الكثير من الأرصفة الكتب التي تتناول الايديولوجيات الغربية، إضافة الى الكتب الطائفية».
    كارثة حقيقية
    وتقول ربة البيت شذى موسى «نحن نعيش كارثة إنسانية حقيقية.. نجري وراء لقمة الخبز بلا طائل. في الصيف يقتلنا الحر، بلا كهرباء، وفي الشتاء يقتلنا البرد بلا وقود، أما المواد الغذائية فهي شبه مفقودة لأن الأسواق مغلقة، والسبب هو نزاع طائفي للسيطرة على السوق».
    وتضيف موسى «نشتري الوقود بأسعار خيالية من وكلاء الأحزاب المتنفذة، ولسنا ندري في أي اتجاه نسير. كنا في السابق نضيق بالبسيط، أما الآن فنحن لا نريد سوى العيش بأمان حتى ولو على كسرة خبز. والخروج الى الشارع من أخطر المخاطر. وجعل المحتل وأعوانه من أيامنا وساعاتنا أعياداً، فنحن نفرح عندما يعود الأبناء إلى البيت من مدارسهم سالمين ونفرح لعودة أزواجنا، ونفرح أيضاً عندما تعبرنا قذيفة الهاون ولا تسقط على بيتنا».
    التخريب فقط
    ومن وجهة نظر إعمارية، يقول المهندس حيدر مهنّا «لقد أثبتت القوة العظمى خيبتها، فلم يتم إصلاح الجسور التي تضررت جزئياً إبان الحرب، قبل أربع سنوات، حتى الآن». ويضيف «في حرب 1991، ضرب الأميركيون كل البنى التحتية، من محطات كهرباء ومصافي نفط وجسور ومحطات تنقية الماء وحتى الشوارع، وقد أعيد بناؤها رغم الحصار». ويضيف «بغداد الجميلة تُبكي من يراها، وتبكي محبيها. هي الآن كومة من الخراب والضنك والكتل الأسمنتية والأسلاك الشائكة، وفوق كل شيء هي مدينة القتل اليومي العشوائي وغير العشوائي».
    هامش غير مستقر
    يرى جعفر عبد المطلب أن «هناك هامشاً من الحرية قد تحقق من خلال السماح بأداء الشعائر الدينية للطوائف المختلفة، ولكن هذا الهامش من الحرية مهدد هو الآخر، متى شعر الاحتلال بأنه يمثّل عقبة أمام بقائه في العراق، فالاحتلال لم يسمح بهذه الحرية من أجل عيون هذه الطائفة او تلك، بل أراد بها تغذية النزعات المتطرفة وإذكاء الروح الطائفية».
    أما السياسي ابراهيم صالح، فيرى أن للاحتلال إيجابيات بالنسبة إلى النخب السياسية، من امتيازات ورواتب مجزية وإيفادات وما الى ذلك، ورغم كل شيء، أتمنى كسياسي أن أتمشى بحرية في شوارع بغداد وأزقتها، حتى وإن كانت أنقاضاً، فلا شيء أغلى من الحرية في بلدنا، حتى لنا نحن نزلاء المنطقة الخضراء».



    مفردات عهد الاحتلال
    بغداد ــ الأخبار

    شاعت في الآونة الأخيرة مفردات شعبية أصبح العراقيون يتداولونها بكثرة في ما بينهم منذ الاحتلال، كما تشيع على ألسنتهم في كل مرحلة مفردات تناسب تلك المرحلة.
    ومن هذه المفردات التي شاعت بين الناس في العراق: كهرباء، مولد، طفت، اشتغلت، احتلال، ماكو مي (لا ماء)، ازدحام، مفخخة، انتخابات، حرامي، حصة، عركة، مات، انخطف، هاون، همر، أمريكان، تحشيش، دستور، خمطوه، علاس (مرشد للقتلة)».
    ويقول اختصاصيون في علم الاجتماع وعلم النفس «إن هذه الظاهرة وقتية وتظهر في أي مجتمع عندما يعاني ضغوطاً وأزمات تؤثر على بنائه الاجتماعي».
    وتوضح رئيسة قسم علم الاجتماع في جامعة بغداد، الدكتورة ناهدة عبد الكريم، «أن ما شاع من مفردات تعم في أي مجتمع يمكن أن تًُعزى إلى الظروف الداخلية والخارجية التي يعانيها، وتأثيرها على التركيبة الاجتماعية والبناء الاجتماعي». وتضيف «إن ما يشيع من هذه المفردات في أي مؤسسة اجتماعية سرعان ما ينتشر في المؤسسات الأخرى، إذ إن المواطن يتفاعل بنحو يومي مع هذه المؤسسات التي تمثّل بناء المجتمع لغرض إشباع حاجاته حتى ولو بصورة وقتية».
    وتقول أستاذة علم الاجتماع في جامعة المستنصرية، سناء العباسي، «إن ما تتعرض له المؤسسات الاجتماعية المكونة لبيئة الفرد من ضغوط تؤثر على أدائها لوظائفها، ما يجعلها تقوم بوظائف بديلة لإشباع حاجات الانسان، وبذلك تكون هذه المفردات وسيلة للإشباع»، مشيرة الى أن «انتشار المفردات يكون بنحو سريع في أي مجتمع يشترك أبناؤه بالمعاناة والضغوط نفسها إلا أنها وقتية تستمر لمدة ثم تزول بزوال أسباب وجودها».
    ويقول اختصاصي علم النفس في جامعة بغداد الدكتور فاضل شاكر الساعدي «إن لكل مجتمع ظرفاً خاصاً يعيش فيه، والمجتمع العراقي عانى ولا يزال ظروفاً صعبة وحروباً ومشكلات اقتصادية تجعل بروز ظاهرة جديدة ومختلفة عنه أمراً طبيعياً». ويضيف «إن حالة التحول من نظام حكم يعتمد على القسوة الى أنظمة حكم (ديموقراطية)، مثلما حدث في العراق، جعلت المواطن العراقي في حالة من التخبط فانعكست هذه الحالة على شخصيته وأصبح في قلق مستمر مما أفسح المجال لتلك المفردات بالرغم من أنها بسيطة لأن تظهر كوسيلة لإنهاء حالة القلق هذه».
    أما أستاذ علم النفس في الجامعة المستنصرية الدكتور نجم العاني فيقول من جهته «هناك عوامل جعلت المواطن العراقي يعيش حالة من العجز أجبرته على اتّباع طرق أخرى بديلة لإشباع حاجاته، وبالتالي يمكن ظهور تلك الأساليب باستخدام مفردات تتناسب مع ظرفه».