strong>موسكو ــ حبيب فوعاني
الحالة «البرتقالية» الأوكرانية انهارت، فما عاد هناك مكان للديموقراطية في ظل انقسام سياسي، أفسح المجال أمام ألوان أخرى، أغرقت «ساحة الاستقلال»، التي كانت حكراً على «البرتقاليين»

في أوكرانيا تعيش ثلاثة شعوب: الأول في أوكرانيا الغربية ومركزها لفوف، حيث ولد زبيغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي لدى الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر، وكانت تابعة لبولندا، وتعتنق أكثرية سكانها الكاثوليكية. والثاني «الشعب السوفياتي الأوكراني»، لغته روسية وأوكرانية، ويعدّ سوفياتياً بتفكيره وانفتاحه وتوجهه التاريخي، ويقطن في الغالب في وسط أوكرانيا. والشعب الثالث، وهو الأقرب إلى روسيا، يتألف من سكان المراكز الصناعية في جنوبي شرق أوكرانيا.
لكن الانقسام بينها لم يكن ظاهراً في العهد السوفياتي بفضل الإيديولوجيا التي صهرت الشعوب والمجموعات العرقية في مرجل النظرية الاشتراكية. ولم تبدأ المشكلات القومية في الجمهوريات السوفياتية بالتفاقم إلا بعد نيلها الاستقلال إثر انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991. ولذا كان ليونيد كرافتشوك أول رئيس لأوكرانيا المستقلة وخلفه ليونيد كوتشما يناوران بين هذه الشعوب وبين روسيا والغرب، وتمكنّا بذلك من الحفاظ على وحدة البلاد.
بيد أن النظام السياسي في أوكرانيا لم يكد يختلف عن النظام الروسي، حيث البرلمان قليل الفعالية، والرئيس وإدارته هما الأشد نفوذاً (مثل المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي)، وتخضع لهما الحكومة. وفي كلا البلدين تم الشروع ببناء رأسمالية قومية أعطيت فيها الملكيات الضخمة إلى المجموعات الصناعية ـــــ المالية الوطنية المختلفة. وجرى تلاحم هذه المجموعات مع الجهاز الحكومي والأحزاب في ظل هيمنة تامة للرئيس والمقربين منه.
وقد استمر الأمر على هذا المنوال في أوكرانيا إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية في 31 تشرين الأول 2004. ولكن بسبب عدم حصول أي من المرشحين، رئيس الوزراء السابق فيكتور يوتشينكو ورئيس الوزراء آنذاك فيكتور يانوكوفيتش على 50 في المئة من الأصوات زائداً صوتاً واحداً، جرت الدورة الثانية من الانتخابات في منتصف تشرين الثاني من العام نفسه. وبعد اتهام يانوكوفيتش بتزوير الانتخابات في المناطق الشرقية الأوكرانية، نُظّم اعتصام لمدة شهر في «ميدان الاستقلال» بمساعدة المنظمات الأميركية غير الحكومية وبتمويل منها وبإشراف من خبرائها النفسيين على كل شيء: من اختيار اللون البرتقالي وأساليب الدعاية وأنواع وجبات الأطعمة السريعة، التي لم يعرفها الأوكرانيون في السابق، والتي قُدمت بسخاء، إضافة إلى عروض المطربين المشهورين والشعارات وملابس المعتصمين.
وهددت الولايات المتحدة أوكرانيا في حينه بفرض عقوبات عليها إذا لم تتمّ إعادة الانتخابات، وهرع الاتحاد الأوروبي إلى نجدة «الديموقراطية الوليدة». وانتصر يوتشِينكو بعد إعادة الانتخابات الرئاسية للمرة الثالثة وخلافاً للدستور. وتلقّت روسيا صفعة مهينة بعدما جاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرتين إلى كييف لدعم يانوكوفيتش. ويرى المحلل السياسي الروسي ستانيسلاف بيلكوفسكي أن روسيا فقدت في أوكرانيا عام 2004 هيبتها كدولة كبرى إقليمية، وبدأت تولّي وجهها شطر الغرب فقط غير آبهة بمشاعر الناس شرق نهر الدنيبر.
الرئيس الواجهة
يجب القول إن المنظمات الأميركية غير الحكومية وزعيمة المعارضة يوليا تيموشينكو، التي كانت بحاجة إلى يوتشِّينكو رئيس الوزراء في عهد كوتشما كواجهة، جعلت من التكنوقراطي الضعيف الشخصية رمزاً لأوكرانيا الجديدة، وحولت تردده إلى شهامة وعصامية، كادت أن تجعل منه شهيداً، عندما دُسَّت له كمية من سم الديوكسين تكفي لقتل حصان، في حادثة اتهم بها قادة أمنيون أوكرانيون ولم تكشف خيوطها حتى الآن، وذلك ليتم توجيه أصابع الاتهام بشكل آلي نحو موسكو. لكن خلافاً لكل التقديرات الكيميائية نجا بأعجوبة ليصاب بتشوهات جلدية في وجهه، ولتضفي عليه هذه الحادثة هالة «الشهيد الحي»، الذي عبثت بوجهه «يد موسكو الطويلة»، ولتلعب الدور الأكبر في إنجاح الثورة «البرتقالية».
وبدلاً من أن تظهر لدى الدولة الأوكرانية مع انتصار الثورة «البرتقالية» و«أميرتها» يوليا تيموشينكو في نهاية عام 2004، فكرة تحل محل فكرة الاشتراكية الجامعة أو هدف يسمح بتكوين أمة موحدة من هذه الشعوب، جرى توتير الأوضاع بتحريض من تيموشينكو، وبدأت حملة قمع ضد رجال الأعمال من شرق أوكرانيا، وطرحت مواضيع مثيرة للنزاع مثل الانضمام العاجل إلى حلف شمال الأطلسي والانفصال عن الكنيسة الروسية وإعادة الاعتبار إلى النازيين الأوكرانيين.
واتخذت في كييف الفكرة القومية لنموذج غرب أوكرانيا كإيديولوجيا رسمية، إلا أن هذه الإيديولوجيا رُفضت على الفور من شعبي وسط وجنوبي شرق أوكرانيا. ومنذ ذلك الحين، أصبح نهر الدنيبر خطاً ثقافياً وحضارياً فاصلاً بين شرق أوكرانيا وغربها. وأصبح رئيس الوزراء يانوكوفيتش عامل الاستقرار الاقتصادي في البلاد. وكان طبيعياً أن يهبط مؤشر شعبية يوتشِّينكو ويحتل حزبه «أوكرانيا لنا» المرتبة الثالثة، فيما احتل حزب المناطق المرتبة الأولى وكتلة تيموشينكو المرتبة الثانية. ومنذ ذلك الحين، بدأت أسهم يانوكوفيتش بالارتفاع وصلاحيات يوتشِّينكو وشعبيته بالانحسار.
ولكي لا تتكرر استبدادية نظامي كرافتشوك أو كوتشما، قامت «الثورة البرتقالية» بإصلاحات سياسية تضمّنت إدخال تعديلات جذرية على النظام السياسي في أوكرانيا، حوّلتها إلى جمهورية برلمانية، وجعلت من رئيس الوزراء «مستشاراً ألمانياً» بنفوذه السياسي، وأفقدت الرئيس الأوكراني سلطته الفعلية.
وأصبح البرلمان الأوكراني (الرادا) بعد انتخابات عام 2006 حَكـَماً بين الرئيس الصوري والحكومة والغالبية الحاكمة فيه (تتألف حالياً من حزب المناطق، الذي يتزعمه يانوكوفيتشوالحزب الاشتراكي بزعامة رئيس «الرادا» ألكسندر موروز، والحزب الشيوعي بزعامة بيوتر سيمونينكو)، هي التي تؤلّف الحكومة وتعين جميع الوزراء باقتراح من رئيس الوزراء، ما عدا وزيري الخارجية والدفاع ورئيس جهاز الأمن والمدعي العام وحكام المقاطعات، الذين يعينهم البرلمان باقتراح من الرئيس.
وأصبحت هذه التعديلات، التي شارك في وضعها الرئيس الأوكراني نفسه نافذة منذ 1 كانون الثاني 2006، لكن فيكتور يوتشـِّينكو لم يستطع الرضوخ لجعله «ملكة بريطانيا». وتقدّم في 15 كانون الثاني الماضي بشكوى إلى المحكمة الدستورية الأوكرانية لاسترجاع ولو بعضاً من صلاحياته الرئاسية، التي انتزعها منه البرلمان في 13 كانون الثاني الماضي نهائياً بواسطة قانون صوت عليه 366 نائباً من بين 370 حضروا الجلسة، بينما كان المطلوب لاتخاذه موافقة 300 نائب فقط عليه من أصل 450 نائباً يتألف منهم البرلمان. لكن المحكمة لم تصدر حكمها حتى الآن.
ويعدّ اتخاذ هذا القانون أقوى ضربة تلقاها يوتشـِّينكو منذ مجيئه إلى السلطة في أواخر عام 2004. وقد لعبت «جان دارك» الأوكرانية يوليا تيموشينكو دوراً حاسماً في اتخاذ القانون المذكور، فيما اتهم أنصار حليفها السابق الرئيس يوتشـِّينكو زعيمة المعارضة الحالية بالخيانة، وأكدوا آنذاك أنها بذلك تمهد الطريق لنفسها للعودة إلى ترؤس الحكومة، التي استقالت من رئاستها عام 2005، عبر الانتخابات البرلمانية المبكرة، التي سيجد يوتشـِّينكو نفسه مضطراً إلى تحديد موعد لإجرائها في نهاية الأمر، والتخلي عن مراوغته لعلمه بأنه لن يحصل على أصوات الناخبين الأوكرانيين الموالين للغرب، والتي ستذهب لمصلحة تيموشينكو، وهي ما تعوّل عليه في ضوء ضآلة حظوظ الرئيس في الحصول على تأييد المحكمة الدستورية.
الرئيس الشمشوني
وخطوة الرئيس الأوكراني «الشمشونية» في 2 نيسان الجاري بحل البرلمان الأوكراني وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة جديدة، بسبب انتقال 11 نائباً من المعارضة إلى ائتلاف الوحدة الوطنية الموالي للحكومة، تعدّ اعترافاً بانهيار «الثورة البرتقالية»، وتعدّ أيضاً اعترافاً بعدم الأهلية السياسية ليوتشِّينكو نفسه كرئيس دولة، إذ ليس لديه أي مبرر قانوني لحل «الرادا».
ورأى الرئيس الأوكراني الأسبق ليونيد كرافتشوك في حل «الرادا» كارثة «تشيرنوبل دستورية» ستؤدي إلى تقسيم البلاد. وأعرب عن اعتقاده بأن يوتشِّينكو خضع لتخويفات تيموشينكو من فقدانه السلطة وأغرته بخرق الدستور، الذي ينص في المادة 90 منه، على إمكان حل «الرادا» في ثلاث حالات فقط، أولها «إذا لم يشكل خلال شهر ائتلاف الأجنحة النيابية في الرادا. وإذا لم تشكل الحكومة الجديدة خلال ستين يوماً من استقالة الحكومة القديمة. وإذا لم يجتمع «الرادا» خلال ثلاثين يوماً من انتخابه.
ويبدو أن يوتشينكو يحاول السير على نهج الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، حين لجأ إلى القوة عام 1993، بعدما رفض البرلمان الامتثال لقرار حله، فأمر يلتسين بقصفه، ومع ذلك بقي في أعين الغرب رجل الديموقراطية المدلل.
وتشهد الأيام الأخيرة إحياء المواجَهة بين «البرتقاليين» وممثلي حزب المناطق «الزرق» والشيوعيين «الحمر» والاشتراكيين «القرمزيين». وأصبحت أوكرانيا على شفا هوة الانشقاق السياسي. ويوتشِّينكو أظهر منذ وقت طويل أنه رئيس ضعيف الإرادة، لذا فهو ينقاد لإملاءات «الأميرة البرتقالية» وربما لبعض الأوساط الغربية، التي يقلقها كثيراً تطور الأوضاع في أوكرانيا، ولا سيما أن رئيس الحكومة الأوكرانية أدلى أخيراً في بروكسيل بتصريح أكد فيه عدم جهوزية أوكرانيا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي «بسبب عدم تجاوز نسبة مؤيدي ذلك من الأوكرانيين 20 في المئة برأيه، وعبّر عن الحاجة إلى إجراء استفتاء شعبي في شأن ذلك».
خيار الانتخابات
تثبت خطوة فيكتور يوتشِّينكو أن «الثورة البرتقالية» انهارت لأنها لم تقدّم إلى أوكرانيا شيئاً في مجال الاقتصاد ورفع مستوى حياة المواطنين. ولذلك فاز زعيم حزب «المناطق» فيكتور يانوكوفيتش بفارق كبير في الانتخابات البرلمانية في آذار عام 2006.
وتثبت الخطوة أيضاً أن الديموقراطية كانت «للبرتقاليين» وليوتشِّينكو نفسه، مجرّد شعار ليس أكثر، وكانت السلطة في الواقع هي هدفهم فحسب.
وبحسب كل استطلاعات الرأي العام، التي جرت في أوكرانيا، يلاحظ أنه لو جرت الانتخابات في القريب العاجل لانتصر فيها من جديد حزب المناطق، ولنال 35.3 في المئة من الأصوات، وحزب يوليا تيموشينكو لنال 25.1 في المئة، بينما سينال حزب الرئيس «أوكرانيا لنا» فقط 5.4 في المئة.
وهذه النتيجة نالها حزب «المناطق» في آذار 2006. أما حزب «أوكرانيا لنا» فسينال أقل مما نال قبل عام، وربما كان ذلك لأن أصواته ستتحوّل إلى حزب تيموشينكو. لكن بشكل عام تناسب القوى بين «البرتقاليين» (يوتشِّينكو + تيموشينكو) وكتلة يانوكوفيتش سيكون تقريباً كما هو الآن، ولن تكون هناك تغييرات جوهرية سوى في كسب تيموشينكو لمقاعد جديدة، ولذلك أثيرت كل هذه الضوضاء في المجتمع الأوكراني.
موقف روسيا والغرب
بالرغم من التصريحات البرلمانية الروسية النارية ضد «البرتقاليين»، تقف روسيا بعد درس عام 2004، موقف الحذر من الأزمة الأوكرانية، ولا يمكن التأكيد أيضاً أن الولايات المتحدة ستقف من دون قيد أو شرط إلى جانب «البرتقاليين»، لأن واشنطن غارقة حتى أذنيها في العراق وليست في وارد فتح معركة سياسية في أوكرانيا.
غير أن الأميركيين مهتمون استراتيجياً بالطبع بإضعاف المعسكر الموالي للروس بأكبر قدر ممكن في أوكرانيا. والأوساط الغربية، التي تريد جر أوكرانيا إلى حلف الأطلسي، مهتمة بإضعاف يانوكوفيتش وتقوية معسكر «البرتقاليين».
وهكذا فمن الواضح أن تعاطف الغرب في النزاع بين يوتشِّينكو و«الرادا» هو بالطبع إلى جانب الأول، بالرغم من انتهاكه لدستور بلاده وخرقه لمفاهيم الديموقراطية «الغالية على قلوب الغربيين».
«لبنان ليس أوكرانيا»، لكن يبدو أن أوكرانيا أصبحت حالة لبنانية. ويجري الآن اعتصام في ميدان الاستقلال نفسه في كييف، ولا وجود للأعلام «البرتقالية» فيه، لأن الأعلام الزرقاء لحزب «المناطق» و«الاشتراكية» القرمزية والشيوعية الحمراء هي سيدة الميدان.




«أميرة الغاز»

دور المغامرين السياسيين في المراحل الانتقالية كبير جداً، وهو كذلك في أوكرانيا. وتعدّ يوليا تيموشينكو مثالاً للمغامرين الأوكرانيين. فقد عملت في حكومة عرابها وابن مدينتها دنيبروبتروفسك رئيس الوزراء السابق بافل لازارينكو، الذي يقضي عقوبة السجن الآن في الولايات المتحدة بتهمة غسل الأموال، والذي فتح لها أبواب العاصمة كييف، وتخلت عنه في ما بعد. وعملت أيضا مع ابن مدينتها الرئيس السابق ليونيد كوتشما، وشغلت مناصب عالية سمحت لها بالإثراء الخرافي بواسطة الفساد.
وبعد ذلك، عملت مع الرئيس فيكتور يوتشِّينكو ومع خصمه يانوكوفيتش، بل حاولت، وهي (السياسية الموالية للغرب) مغازلة روسيا. ويقول الصحافيون الأوكرانيون إن زواجها عندما بلغت التاسعة عشر من ابن رجل حزبي كان صفقة فتحت لها المجال لبدء أولى خطواتها في «البيزنس». وكان افتتاح «صالون ــــ فيديو» عام 1989 أولى مغامراتها في هذا العالم الشائك. وبعد ذلك، انخرطت في مجال الطاقة الخطر والمربح، وأصبحت عام 1989 مديرة لشركة «البنزين الأوكراني»، الذي لا وجود له في الطبيعة الأوكرانية ويستورد من روسيا. وفي عام 1997 أصبحت رئيسة لشركة «نظام الطاقة الموحد في أوكرانيا» على غرار «نظام الطاقة الروسي الموحد». وفي هذه الشركة، التي تخصصت في بيع الغاز الروسي الرخيص بأسعار عالمية في أوروبا، حصلت تيموشينكو على أول ملايينها. ولا تزال هذه الشركة مدينة حتى الآن لشركة «غاز بروم» الروسية بمبلغ 900 مليون دولار، فيما يقدر الخبراء ثروة «أميرة الغاز» الآن بعشرة مليارات دولار.
وفي نهاية عام 1999، عيّنت تيموشينكو نائبة لرئيس الوزراء يوتشِّينكو لشؤون الطاقة والوقود، ما دفع بالملياردير الأميركي جورج سوروس إلى تشبيه ذلك بتعيين سارق الدجاج شرطياً بلدياً. وسرعان ما أقيلت عام 2000 وسجنت بضعة أسابيع بتهمة الاحتيال.