strong>حسام كنفاني
تطلّ أزمة كوسوفو مجدّداً على الساحة الدولية كعامل
انقسام جديد، يحمل في ثناياه فتيل تفجير في قلب أوروبا، وبوادر مواجهة بين اتجاهين سياسيين، برز تناقضهماً جليّاً في الفترة الأخيرة بين الولايات المتحدة من جهة وروسيا من جهة ثانية، ولا سيما أن معطيات الأزمة التي أشعلت آخر حروب القرن الماضي تعود لتطل في البلقان، مع اختلاف في موازين القوى

  • البلقان ساحة لـ«حرب باردة» جديدة بين واشنطن وموسكو

    يخوض مجلس الأمن الدولي، منذ شهر، نقاشات وخلافات محورها استقلال إقليم كوسوفو عن صربيا، تلبية للتعهّد الذي قطعه المجتمع الدولي على نفسه بعد الحرب على يوغسلافيا السابقة في عام 1999، بعدما منح القرار الدولي 1244 كوسوفو حكماً ذاتياً تحت وصاية بلغراد لكن بإشراف دولي، ريثما يتم البحث في وضعها النهائي، الذي أُرجئ أكثر من مرة، من دون وضع جدول زمني محدّد لنهاية الوصاية.
    فجأة، خرج الوضع النهائي إلى العلن، عندما قدّم الوسيط الأممي والرئيس السابق لفنلندا مارثي أهتيساري، المكلف بوضع خطة تحديد الوضع النهائي للإقليم، رؤيته، ما أعاد عقارب الساعة إلى الوراء، وأحيا بعض المعطيات التي حرّكت قوى حلف شمال الأطلسي ضد نظام الرئيس اليوغوسلافي الراحل سلوبودان ميلوسوفيتش، ولا سيما أن حدة الرفض الصربي، ومن ورائه الروسي لمنح الإقليم استقلالاً تاماً، لا تزال هي نفسها، وإن كانت أوراق الضغط تغيّرت بلا شك.
    خطة أهتيساري
    لا تقدّم خطة الوسيط الدولي كل ما كان ألبان كوسوفو يرغبون فيه، إلا أنها تعطي الحد الأدنى من الممكن في ظل المواقف الدولية، أو ما يمكن أن يطلق عليه اسم «نصف حل»، فالخطة لا تتكلم عن استقلال تام، ولكنها تمنح الإقليم كل مقومات الدولة وتمنحه حق التفاوض وتوقيع الاتفاقات والانضمام إلى المنظمات الدولية، على أن يتمتع الإقليم بشكل من السيادة، لكن تحت رعاية الاتحاد الأوروبي، وتُمنح في المقابل الأقلية الصربية في الإقليم حكماً ذاتياً.
    ومن الملاحظ أن الخطة راعت بعض المخاوف المعلنة لبلغراد في شأن الأقلية الصربية، إلا أنها لاقت، على رغم ذلك، رفضاً قاطعاً من صربيا التي كانت قد أصدرت في تشرين الثاني من عام 2006 دستوراً جديداً يؤكد وحدة الأراضي الصربية، بما فيها إقليم كوسوفو الذي يعتبر في نظر المتطرفين الصرب مهد الدولة الصربية التي هُزمت على يد السلطان العثماني مراد الأول عام 1389.
    مثل هذه الخلفية التاريخية والعقائدية الصربية، مدعومة بموقف روسي متعدد الأسباب، لا شك تمنح الصرب حصانة في مجلس الأمن من خروج إقليم جديد من حظيرة الحلم الذي راود ميلوسوفيتش مراراً، ولا يزال عالقاً في أذهان أنصاره إلى اليوم، وهو «صربيا الكبرى».
    strong>الرفض الروسي والتأييد الأميركي
    معطيات كثيرة، منها القديم ومنها المستجد، تحدّد خلفية الموقف الروسي المعارض بشدة، حتى أكثر من الصرب أنفسهم، لاستقلال إقليم كوسوفو، ولا سيما أن ظهور القضية فجأة إلى العلن من دون سابق تمهيد، تراه موسكو موجّهاً إليها مباشرة، وخصوصاً بعد خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام مؤتمر ميونخ في شباط الماضي، الذي رأى فيه الكثيرون عودة إلى حقبة الحرب الباردة.
    ويبدو أن لهذه الحرب أكثر من ساحة، وإقليم كوسوفو إحداها؛ فإصرار واشنطن، ومن ورائها الاتحاد الأوروبي، على تمرير مشروع الاستقلال، ليس حبّاً بالألبان المسلمين، بل فرصة لمناكفة موسكو، والحصول منها على ما يلزم من الصفقات التبادلية في ملفات أخرى، ليس أقلها أزمة البرنامج النووي الإيراني.
    وترى واشنطن، ومن ورائها حلف شمال الأطلسي، في كوسوفو قاعدة عسكرية وسياسية متقدمة في أوروبا الشرقية، إضافة إلى المصالح الاقتصادية التي تبلورت خلال سنوات الوصاية الدولية.
    فكوسوفو تمتلك ثاني أضخم احتياطات الفحم في أوروبا، وكميات هائلة من الفحم الحجري، والرصاص، والزنك، والذهب، والفضة والنفط. كل هذه القطاعات كانت خاضعة لعملية خصخصة لمصلحة شركات أجنبية، عبر وكالة «تراست كوسوفو» التي كانت مكلفة من قبل الأمم المتحدة الإشراف الاقتصادي على الإقليم.
    وسمحت بعثة الأمم المتحدة لوكالة «تراست كوسوفو» بتعديل قانون ملكية الأراضي، لجعل الإقليم أكثر جذباً للمستثمرين، فباتت الوكالة تبيع عقود إيجار للأرض مدتها 99 سنة مع المشاريع المقامة عليها، وهو ما وصفته حكومة بلغراد بأنه «سرقة للأراضي المملوكة من الدولة».
    هذه المعطيات سمحت بظهور موقف أميركي وأوروبي، غطاؤه إنساني، مؤيد لاستقلال كوسوفو.
    في المقابل، يعتمد الرفض الروسي على أكثر من عنصر. فبداية، من المعلوم أن لموسكو مصالح مع الصرب من أيام التحالف الشيوعي في عهد يوغوسلافيا والاتحاد السوفياتي السابقين. فالصرب والروس يتحدّرون من القومية «السلافية» واللغة الروسية قريبة في مفرداتها من اللغة الصربية.
    وهناك أيضاً الرابطة الدينية، فالروس كالصرب ينتمون إلى الديانة المسيحية الأرثوذكسية خلافاً لغالبية دول أوروبا الغربية التي تنتمي إلى المذهب الكاثوليكي أو البروتستانتي.
    وروسيا تريد موطئ قدم في أوروبا الشرقية بعد اتساع النفوذ الأميركي في المنطقة وانضمام عدد من دول أوروبا الشرقية إلى حلف الأطلسي.
    هذه الروابط يمكن أن تفسّر الموقف الروسي من إقليم كوسوفو بالتحديد، ولا سيما أن موسكو لم تعارض مطلقاً حصول جمهورية الجبل الأسود (مونتينيغرو) على استقلالها أواخر العام الماضي إثر استفتاء شعبي، باعتبار أن الروابط القومية والدينية واللغوية هي نفسها بين جمهوريتي الصرب والجبل الأسود.
    الموقف الروسي، وإن كان يأتي متناغماً مع الحليف الصربي التقليدي ونصرةً للعرق السلافي، إلا أنه يحمل في المرحلة الحالية أهدافاً استراتيجية في السياسة الروسية الجديدة. فموسكو تريد تعويض تهميش موقفها خلال الحرب على بلغراد، وإهانتها خلال الحرب السابقة، حين ضُرب باعتراضها عرض الحائط، وشن حلف الأطلسي هجومه الشهير على بلغراد في عام 1999.
    وترى موسكو مخاطر كبيرة في تمدّد حلف شمال الأطلسي، وهي غير مستعدة، في الظرف الروسي الراهن وأوراق القوة التي تملكها، لخسارة جولة جديدة من المواجهة مع الحلف عموماً، والولايات المتحدة على وجه الخصوص.
    مقاربة المواجهة
    بغض النظر عن المذابح التي شهدها كوسوفو وأخرجته إلى العلن كقضية دولية وإنسانية، فإن السبب المباشر لاندلاع الحرب قد يكون متطابقاً مع حالة الانقسام الحالية حول مصير الإقليم.
    فقد برّر حلف شمال الأطلسي تدخّله العسكري في كوسوفو برفض الصرب قبول «اتفاق رامبوييه» ومنح الإقليم حكماً ذاتياً موسعاً، برعاية قوات أطلسية توجد فيه، الأمر الذي دفع الأمين العام للحلف آنذاك خافيير سولانا إلى إعلان العمل العسكري باعتباره «أمراً مؤلماً... ولكن لا مفر أمام تطبيق الشرعية الدولية».
    المواجهة السياسية في هذا الإقليم تختلف حالياً عما كان الوضع عليه عام 1999، حين وقف الرئيس الروسي بوريس يلتسين عاجزاً، إلا عن التنديد والاستنكار، أمام هجوم الأطلسي، حتى إن تهديداته حينها بتحريك الأسطول لاقت بعض التصريحات المستهجنة من جانب قادة عسكريين داخل الجيش الروسي نفسه، على اعتبار أن القطع البحرية الروسية لا تملك ما يكفي من الوقود للوصول إلى شواطئ البلقان، وخصوصاً أن روسيا الاتحادية كانت تعيش أسوأ حالات الانحدار السياسي والاقتصادي.
    الوضع اليوم ليس نفسه، وفلاديمير بوتين ليس بوريس يلتسين، وأوراق اللعب والقوة التي يملكها الرئيس الروسي قادرة على تغيير الكثير من موازين القوى داخل القارة الأوروبية، فهو خاض سباق تسلّح بجدارة، وأثبت في أكثر من ساحة قدرة السلاح الروسي على المواجهة والانتصار. وأسس لحقبة قوة سياسية تعيش روسيا اليوم أوجها. وهو لا شك طامح إلى خوض حرب باردة جديدة، تعيد تنصيب روسيا قطباً في عالم السياسة الأحادية اليوم.
    مخاوف عسكرية
    هل هناك خوف من اندلاع حرب جديدة في أوروبا على خلفية الوضع في البلقان؟
    هناك مواقف في الكواليس تخشى اندلاع موجة عنف جديدة موجّهة إلى قلب أوروبا في حال فشل المجتمع الدولي في الاتفاق على الوضع النهائي لكوسوفو. حتى إن البعض، وفي مقدمهم المندوب الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة ريتشارد هولبروك، لا يستبعد اندلاع حرب جديدة في أوروبا، على اعتبار أن حالة الانقسام على كوسوفو حالياً هي «اختبار رئيسي لعلاقة روسيا مع الغرب».
    وفي مقال في صحيفة «هيرالد تريبيون»، يقول هولبروك «إذا كان هناك فيتو روسي في مجلس الأمن، أو جهد ومحاولة لإبطاء أو إرجاء خطة أهتيساري، فإن السلام الهش في كوسوفو سيتبخّر في غضون أيام، وستندلع موجة جديدة من العنف، وربما حتى حرب أخرى».
    ويرسم هولبروك، الخبير في شؤون البلقان على اعتبار أنه كان المفاوض الأميركي في اتفاق دايتون الذي أنهى حرب البوسنة، السيناريو الآتي: «إذا استخدمت روسيا الفيتو أو عطّلت وأرجأت خطة آهتيساري، فسيعلن ألبان كوسوفو الاستقلال من جانب واحد. وربما ستعترف بهم بعض الدول، بما فيها الولايات المتحدة وكثير من الدول الإسلامية، ولكن معظم الاتحاد الأوروبي لن يعترف. وسنضمن أزمة أوروبية كبرى. وستعود إراقة الدماء إلى البلقان. وسيجد حلف شمال الأطلسي، الذي تعهد حفظ السلام في كوسوفو، نفسه مرة أخرى في معركة في أوروبا».


    قصة كوسوفوهذا القرار دفع ألبان كوسوفو إلى الرد بإجراء استفتاء عام حول استقلال الإقليم في أيلول 1991، حيث صوّت 99 في المئة ممن شارك في الاستفتاء لمصلحة الاستقلال. وبناء عليه، نُظّمت انتخابات رئاسية نجح فيها إبراهيم روغوفا.
    وعارضت يوغسلافيا بالقوة كل الإجراءات الكوسوفية، ما دفع مجموعات من الشباب إلى تكوين جيش تحرير كوسوفو الذي أخذ يشنّ حرب عصابات على الجيش وقوات الشرطة الصربية الموجودة في كوسوفو ابتداء من عام 1998، وهو ما ردت عليه صربيا بحملات إبادة شديدة في المناطق التي ينطلق منها جيش التحرير.
    استمرت هذه العمليات إلى أن شُنّت الحرب في آذار عام 1999، بعدما فشلت مفاوضات رامبوييه. ودخلت القوات البرية لحلف شمال الأطلسي إلى إقليم كوسوفو في 9 حزيران من العام نفسه، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ كوسوفو كان الحكم فيها لإدارة مدنية موقتة تابعة للأمم المتحدة.


    بطاقة تعريف
    تبلغ مساحة إقليم كوسوفو 10,577 كيلومتراً مربعاً. عدد سكانه 2,500,000 نسمة، وتبلغ نسبة الألبان داخله نحو 92 في المئة، والأقليات هناك 8 في المئة تشمل الصرب والمونتينيغريين والبوسنيين والغجر والأتراك. ويعتبر الإسلام هو الدين الرسمي داخل الإقليم، حيث تبلغ نسبة المسلمين وسط الألبان نحو 99 في المئة. وهناك أقلية ألبانية صغيرة جداً تعتنق المذهب الكاثوليكي تتمركز في شمال كوسوفو.