strong>باريس ــ بسّام الطيارة
جان ماري لوبن (٧٨ سنة)، يمكن المرء أن يكرهه أو أن يعجب به، ويمكن أن يوافقه بعض الناخبين الرأي، كما يمكن البعض الآخر أن يتقزز من أفكاره، إلا أنه لا يمكن إلا الاعتراف بأنه منذ عقدين أو أكثر بات أحد معالم الحياة السياسية الفرنسية، وليس من الغريب أن يدّعي اليوم أن معظم المرشحين يستوحون من أفكاره وينسخونها

جان ماري لوبن كان من أوائل الواقعيين في السياسة الفرنسية الحديثة، فهو، كما يصف نفسه، يقول إن «الهر هر»، أي يسمي الأشياء بأسمائها من دون محاولة تلبيس مقولاته بما بات يعرف بـ «بوليتكلي كوركت».
منذ بدأ حياته السياسية عام ١٩٥٠، اختار لوبن الأفكار المتطرفة، فهو التحق بتيار «بوجاد» الذي دغدغ مشاعر التجار الصغار والحرفيين بإمكان التخلّص من الرأسمال الكبير ومن الغبن الناتج من سيطرة أقلية على الاقتصاد الوطني.
وقد انتخب على رأس هذه الموجة نائباً في البرلمان عام ١٩٥٦، إلا أنه سرعان ما استقال ليلتحق بالجيش الفرنسي، الذي كان يحاول قمع الثورة الجزائرية، وارتقى إلى رتبة ملازم في كتائب المظليين حيث ارتبط اسمه بالعديد من حالات تعذيب المجاهدين. وهو لم ينف بتاتاً هذه التهم، لا بل اعترف بأنه «فعل ما كان يجب فعله في الظروف السائدة». ونشر مذكراته في مجلة «كومبا» (القتال)، حيث أتى على ذكر ممارساته «الحربية» ونشاطه في محاولة سحق الثورة الجزائرية.
وقد كان لوبن من مؤسسي «حركة الجزائر الفرنسية»، التي حاربت مريراً لإبقاء الاستعمار الفرنسي في الجزائر، ومن هنا نبت «كره لوبن العميق للجنرال (شارل) ديغول» الذي قبل باستقلالها.
انطلق بعد ذلك في أعمال النشر المتخصصة بأبطال النازية، ما استجلب له كمّاً من الدعوات القضائية وحكم بتهمة «تمجيد جرائم الحرب»؛ فخرج من هذه المعمعة القضائية أكثر تشدّداً وتطرفاً في محاربته لكل ما يعتبره «غير فرنسي»، وأسس عام ١٩٧٢ الجبهة الوطنية.
وكان أحد المعجبين به وبأفكاره المتطرفة «امبراطور الأسمنت» الكونت ألبير لامبير، فأورثه ثروة طائلة في ظروف غامضة جداً. وقد سمحت له هذه الثروة باستنهاض الجبهة الوطنية وفتح مراكز لها في مختلف المقاطعات الفرنسية.
ترشح للمرة الأولى للانتخابات الرئاسية عام ١٩٧٤، ولم تتجاوز الأصوات التي حصل عليها الواحد في المئة. ولم يحصل في عام ١٩٨١ على عدد كاف من تواقيع التبني، إلا أنه أوصل، عام ١٩٨٦، ٣٥ نائباً إلى البرلمان بسبب إدخال فرانسوا ميتران «بعض النسبية إلى النظام الانتخابي»، قبل أن يعود ويلغيها في الانتخابات التالية بحيث لم تحصل جبهة لوبن على أكثر من نائب واحد. غير أنه أدهش الجميع عام ١٩٨١ حين حصد 14.5 في المئة من الأصوات، وبدأ يحتل موقعاً لا مجال لتجاهله في المشهد السياسي الفرنسي. ثم ١٥ في المئة في عام ١٩٩٥، وهو عام انتخاب جاك شيراك ضد ليونيل جوسبان الاشتراكي. وشكّل الصدمة الكبرى عام ٢٠٠٢، حين وصل إلى الدورة الثانية على حساب الأخير، ما دفع القوى السياسية إلى التحالف والتصويت لشيراك «لقطع الطريق بينه وبين الإليزيه».
ومنذ عشرين سنة ولوبن يبني استراتيجيته السياسية على أساس طلب إدخال النسبية في عمليات التصويت، لأن ذلك يمكن أن يؤمن له تمثيلاً لا بأس به في البرلمان.
وهو يذهب مردّداً مقولة «إن معظم الأحزاب السياسية تتكالب لمنع نسبة من الفرنسيين من التمثل في الحياة السياسية». ولا يتردّد في استعمال عبارت ديغول في وصف الأحزاب الأخرى بأنها «أكلة جبنة».
ويمكن القول إن الكثير من التكتيك الذي يسود الحملة الانتخابية اليوم في محاولة لكسب أصوات لوبن في الدورة الثانية يدور حول هذه المسألة، وليس غريباً أن تصدر تصريحات لنيكولا ساركوزي تلوح بإمكان إدخال «نبضات من النسبية» في الانتخابات المقبلة، وهي حركة فسرها الكثيرون بأنها موجهة لمؤيدي لوبن.
هناك مرشحان ينافسان لوبن بـ«أفكاره اليمينية»؛ واحد لا أمل له بتجاوز واحد في المئة وهو فيليب دو فيليه، الذي جعل من إحياء طروحات لوبن برنامجه المعلن. ويعتقد دو فيليه أنه إذا «قرف» ناخبو لوبن من صفات زعيمهم والاتهامات الموجهة إليه مثل «العنصرية وكرهه للعرب ولليهود وللمثليين ولاساميته ورغبته في ترك الاتحاد الأوروبي وطرد المهاجرين»، يمكنهم أن ينقلوا أصواتهم إليه حتى لا تنعكس عليهم هذه النعوت.
أما المنافس الثاني للوبن فهو ساركوزي الذي «يخفي طروحات لوبن» تحت ألوان مختلفة من دون أن يمنعه هذا من أن يذهب أبعد من لوبن في بعض الأحيان، وأن يكون أكثر تطرفاً وعنصرية في بعض المسائل. وهنا يتهم لوبن «المؤسسات الإعلامية بإخفاء حقيقة ساركوزي ومحاربته شخصياً».
ويرى لوبن بأن محاربته تأتي بالدرجة الأولى «من اللوبي اليهودي» ومن «لوبي الإعلام والميديا»، اللذين ينكران عليه حقه بإعطاء رأيه في التاريخ وبالحديث كمــــا «يتحدث الـــفـــرنسيـــون فــــي منــــازلــــهم وبينــــهم».
ويتهم هؤلاء بأنهم «يفرضون لغة خشبية على سياسيي فرنسا» ويعملون على «هيمنة تفكير واحد»، ما يسهّل «انحلال فرنسا وتذويبها في نظام العولمة» الذي يحاربه لوبن بشدة.
ويضحك لوبن كثيراً هذه الأيام حين يرى الاستطلاعات التي تضعه في المرتبة الرابعة، ويذهب مردداً أمام الصحافة والصحافيين والأقرباء، بأنه سيكون في الدورة الثانية لأن ساركوزي، الذي يحتل المرتبة الأولى، هو نسخة غير أصلية والمواطن في النهاية سيختار الأصل.
ولا يستبعد بعض المراقبين أن يشكل لوبن مفاجأة مرة ثانية ويكون حاضراً في الدورة الثانية. إلا أن المفاجأة والمغامرة لا يمكن أن تذهب أبعد من الدورة الثانية أياً كان منافسه فيها. إذ إن في فرنسا نوعاً من التوافق على عدم السماح للوبن بالوصول إلى سدة الرئاسة؛ فبمجرد وصوله إلى الدورة الثانية، تختفي الحدود بين اليسار واليمين، ففرنسا ليست مستعدة لأن تعيش تجربة النمسا حين انتخبت يورغ هايدر مستشاراً وقضت في عزلة أوروبية ودبلوماسية سنوات عديدة.
قد تكون فرنسا انحرفت كثيراً نحو اليمين، إلا أن هذا الانحراف لا يتجاوز بعض الخطوط الحمر، ومنها انتخاب زعيم شعبي تحمل طروحاته الكثير من المسائل الحارقة والمؤلمة مثل إعادة كتابة تاريخ النازيين والتشكك بالمحرقة والدعوة إلى طرد العرب والمهاجرين من فرنسا. قد تقبل برئيس يحمل بعض من هذه الطروحات، لكن ليس كلها دفعة واحدة. علّ ابنة لوبن «مارين»، ووريثته السياسية المعلنة، تتعلم الدرس فتنسخ طريقة تعليب «اليمين» لطروحاته، فيكون لها أمل في الدورات المقبلة.