strong>موسكو ـــ حبيب فوعاني
وضعت الولايات المتحدة، عبر خطتها الاستراتيجية، خطوات لا لمواجهة «السلوك الروسي السلبي» فقط، بل التدخل في المحيط السوفياتي السابق للحد من نفوذ موسكو، واستدراج «تنازلات» منها في ملفات العالم

خصّص الأمين العام لمجلس الأمن القومي الروسي إيغور إيفانوف جزءاً كبيراً من مؤتمره الصحافي في 17 نيسان الجاري، للعلاقات الروسية ـــ الأميركية، التي يسودها التوتر في المدة الأخيرة، وللتعليق على وثيقة أميركية دورية جديدة كرّس جزءاً كبيراً منها لانتقاد روسيا، وهي «الخطة الاستراتيجية» الأميركية، التي أصدرتها الخارجية الأميركية مع وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية.
وهذه الوثيقة هي ثالث خطة تنشرها وزارة الخارجية الأميركية في واشنطن خلال نحو شهر ونصف الشهر فقط. وكان التقرير السنوي عن وضع حقوق الإنسان في العالم، الوثيقة الأولى في هذا المضمار، قد صدر في بداية آذار الماضي. وظهر التقرير الثاني في بداية نيسان تحت عنوان «دعم الولايات المتحدة لحقوق الإنسان والديموقراطية في العالم». وخُصص في التقريرين حيز كبير لروسيا ودول رابطة الدول المستقلة. وكان عصب هذين التقريرين الانتقاد الحاد، الذي لا سابق له، لوضع حقوق الإنسان والحريات في روسيا.
وإذا كانت وزارة الخارجية الأميركية قد اقتصرت في تقريرها الأول على التقويمات الفظة لروسيا فقط، فإن الولايات المتحدة تطمح في التقرير الثاني للتدخل والتأثير بفاعلية على المسارات السياسية في فضاء ما بعد السوفياتي، بما في ذلك المساهمة في «إجراء انتخابات حرة وعادلة لمجلس الدوما في كانون الأول 2007 والانتخابات الرئاسية في آذار 2008» في روسيا، وكذلك في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.
ولم تمنع ردود الفعل الروسية الغاضبة على التقريرين الأولين ظهور التقرير الثالث، الذي يعدّ شرحاً مطوّلاً لاستراتيجية السياسة الخارجية الأميركية في السنوات الخمس المقبلة، والذي حدّدت فيه «الاتجاهات والأولويات» الأساسية سواء لإدارة كوندوليزا رايس أو للوكالة الأميركية للتنمية الدولية.
وتشير رايس، في مقدمة هذه «الخطة الاستراتيجية»، إلى «استحالة رسم حد فاصل واضح في العالم المعاصر بين مصالح أمننا وجهودنا في مجال التنمية وبين المثل الديموقراطية». وتسمي المهمة الأولى للسياسة الخارجية الأميركية على المستوى العالمي «تعميم الحرية لما فيه خير الشعب الأميركي والمجتمع الدولي».
ويعدّ تصريح رايس الوارد في مقدمة «الخطة» عن استحالة «رسم حد فاصل واضح» بين المصالح الأمنية والمثل الديموقراطية الأميركية آخر اختراعات واشنطن لتوضيح أن الدفاع عن الديموقراطية على بعد آلاف الكيلومترات من الأراضي الأميركية لا يعدّ تدخّلاً في شؤون الدول الأخرى.
وقد حاول السفير الأميركي لدى موسكو ويليام بيرنز التخفيف من الآثار السلبية لظهور «الخطة الاستراتيجية» على العلاقات الروسية ـــ الأميركية وتوضيح مغزى جهود الولايات المتحدة لدعم المؤسسات الديموقراطية في روسيا.وقال لصحيفة «كوميرسانت» الروسية، إن واشنطن تريد دعم الديموقراطية في روسيا بواسطة تعريف الروس بالتجربة التي اكتسبها الأميركيون في إنشاء المؤسسات الاقتصادية والسياسية، لا بفرض القيم الأميركية على روسيا.
غير أن المواقف والتقويمات الصارمة المعلنة في «الخطة الاستراتيجية» المتعلقة بروسيا تؤكد العكس تماماً، فالولايات المتحدة تنوي الانهماك طويلاً والانخراط بجدية في شؤون الديموقراطية الروسية وشجونها.
ومثلما يتضح من الوثيقة، فواشنطن «معنية بتعزيز النزعات الإيجابية»، بما في ذلك المساعدة في انضمام روسيا إلى المنظمات الدولية وتكاملها في الاقتصاد العالمي، والمقصود هنا بالطبع انضمام روسيا إلى منظمة التجارة العالمية، الذي يراوح مكانه منذ خمسة عشر عاماً. وستتعاون الولايات المتحدة «مع روسيا عندما نستطيع جعل ذلك التعاون مثمراً، وفي الوقت نفسه سنظهر الصلابة بمساندة حلفائنا الأوروبيين وغيرهم في ما يتعلق بالقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان والحرية والتصدي لسلوك روسيا السلبي».
ويتضح من خطة الخارجية الأميركية، أن واشنطن تشير للمرة الأولى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بهذا الوضوح إلى «السلوك السلبي» لروسيا. إذ لا يروق للإدارة الأميركية «تصاعد مركزة السلطة والضغط على المنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني، ودور الدولة المتنامي في الاقتصاد وتقييد حرية الصحافة» في روسيا، وتسمي ذلك «نزعات مقلقة». لكن ما يقلقها بالفعل هو بالطبع «بيع روسيا أسلحة لإيران وسوريا وفنزويلا».
أما ما لا يروق لموسكو فهو الجزء الذي يؤكد حتمية المنافسة الأميركية ـــ الروسية في الفضاء ما بعد السوفياتي في السنوات المقبلة، حيث يشير التقرير الاميركي إلى «وجود تحدّ كبير آخر وهو سياسة روسيا بالنسبة لجاراتها، وخصوصاً مساندة موسكو للأقاليم الانفصالية في جورجيا ومولدافيا، وضغطها السياسي والاقتصادي على جورجيا واستعمال سلاح الطاقة للضغط على الدول المجاورة لها ولإخضاعها».
وهناك جزء في التقرير يمكن أن يفاقم التوتر في العلاقات بين موسكو وواشنطن، والذي تتحدّث فيه وزارة الخارجية الأميركية عن دول منظمة «غوام» المعادية لموسكو، والتي تضم «الديموقراطيات الجديدة في جورجيا وأوكرانيا ومولدافيا»، وتحاول أن تكون بديلة عن منظمة رابطة الدول المستقلة.
ويتحدث التقرير بوضوح عن أن هدف السياسة الأميركية في السنوات المقبلة هو تعزيز تقارب «الديموقراطيات الجديدة في رابطة الدول المستقلة» مع الهيئات الأوروبية والأطلسية عن طريق تقديم «المساندة والتشجيع والنصائح التقنية» لهم. وما يثير غيظ الكرملين خصوصاً من بين 68 صفحة من الوثيقة هو العبارة التالية: «في النقاط الأخرى من أوراسيا، تتلهف الشعوب لتحقيق الأمل، الذي ألهبته الثورات الملونة في الفترة ما بين عام 2003 وعام 2005».
وهكذا، فقد أصبح التقرير الثالث الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية خلال بضعة أسابيع، والمتعلق بالعلاقات الأميركية ـــ الروسية الأكثر قسوة وليس فقط في هذا العام. إذ لم يجر الحديث بتاتاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في أي وثيقة أميركية بمثل هذا الإسهاب عن التحديات الروسية، وضرورة مواجهة «السلوك السلبي» لموسكو.
إيغور إيفانوف، أشار إلى أن اللهجة الوعظية للتقرير، الذي يعطي «فروضاً مدرسية»، لا بنبغي تنفيذها على روسيا بل على الدول الأخرى أيضاً. وأعاد ذلك إلى أنه «من الصعب على البعض في واشنطن التسليم بفشل العالم الأحادي القطب فيما ترتسم ملامح العالم المتعدد الأقطاب».
مصدر إعلامي عمل سابقاً في الكرملين، قال لـ «الأخبار»، إن توالي الانتقادات الأميركية لروسيا في المدة الأخيرة بشأن الديموقراطية وحقوق الإنسان وحرية الصحافة وتظاهرات «غير الموافقين» الأخيرة وتحريضات الملياردير بيريزوفسكي مرتبطة بتكثيف الضغوط على الكرملين للتخلّي عن أوراق كوسوفو ولبنان وإيران لكي يصار إلى تسهيل بقاء فلاديمير بوتين لولاية رئاسية ثالثة وتعديل الدستور الروسي. ولم يستبعد المصدر ظهور تقارير أميركية مماثلة إذا لم يتم الاتفاق المنشود مع موسكو في القريب العاجل.