strong>معمر عطوي
أعادت انتخابات الرئاسة في تركيا إحياء الجدل القديم بين الإسلاميين والعلمانيين، في ظل نظام يعتبر فيه الجيش سلطة قوية حامية للدستور الذي اختطه مصطفى كمال أتاتورك على رأس مجموعة ضباط غيّروا وجه تركيا الإسلامي وحولوها إلى النمط الغربي في عام 1923، وأنهوا حقبة دامت أكثر من أربعة قرون من حكم «الخلافة العثمانية»

  • أنقرة تشهد اليوم الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية... والمعارضة تقاطع

    حوّلت السيطرة الأتاتوركية على تركيا في عام 1923 البلاد من سلطة دينية مستبدة إلى نظام علماني بالغ في تطرفه تجاه مظاهر التديّن، فحظر وصول الحركات الإسلامية إلى السلطة لعقود خلت. غير ان تغلغل الإسلاميين داخل المجتمع والمؤسسات السياسية مكّنتهم من الوصول إلى رئاسة البرلمان والحكومة، فيما بقيت الرئاسة الأولى بيد العلمانيين، باعتبارها القلعة الأخيرة لهم.
    يبدو أن هذه القلعة في طريقها إلى السقوط في يد الإسلاميين، إذ تشهد معركة الرئاسة، التي تُجرى مرحلتها الأولى اليوم الجمعة والثانية في أواسط أيار المقبل، وللمرة الأولى، ترشيح شخصية إسلامية إصلاحية، أثارت نقاشاً واسعاً في إمكانية تهديدها أسس النظام العلماني.
    هذه الشخصية المتمثلة بمرشح حزب العدالة والتنمية الإسلامي وزير الخارجية الحالي عبد الله غول الذي سيصبح قائداً للجيش أيضاً في حال انتخابه رئيساً، من شأنها قيادة البلاد نحو تجربة تعتبر سابقة، وخصوصاً أن الرئيس المرتقب الذي كان تعرّض للسجن العسكري أثناء انقلاب عام 1980، سيتمكّن بمساندة البرلمان من تعديل الدستور، إضافة إلى تعيين كبار القضاة وعمداء الجامعات.
    منعطفات خطيرة
    لقد أراد مؤسس الجمهورية، مصطفى كمال أتاتورك، أن تكون الدولة التركية الجديدة ذات هيكلية وهوية علمانيتين، وبالغ في تطبيق ذلك من خلال منع المظاهر الدينية، ليس فقط في الدوائر الرسمية والسياسية، بل أيضاً في بعض قطاعات المجتمع. لذلك بقيت «تركيا الحديثة» ولعقود ثلاثة منذ تأسيسها، خاضعة لحكم الحزب الواحد وتحت حماية المؤسسة العسكرية، التي تضمّ كبار الضباط الأوفياء لأتاتورك.
    ولكن في عام 1945، فُتح الباب أمام التعددية الحزبية، مع بقاء حظر الأحزاب الدينية طبعاً، وهذا ما مكّن أحزاباً (تحمل شعار الديموقراطية في الظاهر والإسلامية في الباطن)، من التغلغل في المشهد السياسي وفق خطوات طويلة وشاقة، شملت الكثير من قطاعات المجتمع، أبرزها المؤسسات التربوية والبلديات والجمعيات الخيرية، والى حد ضئيل المؤسسة العسكرية نفسها.
    وثمة منعطفات خطيرة شهدتها تركيا منذ الخمسينيات، بسبب القيود التي فرضها الدستور العلماني. فقد تمكّن الإسلامي عدنان مندريس من الفوز في ثلاث دورات انتخابية نيابية متتالية، سمحت بإعادة بعض المظاهر الإسلامية الى البلاد، لكن مندريس أُعدم في 1960 عندما قام الجيش بأول انقلاب عسكري ضد محاولات الالتفاف على النظام العلمانيوكان آخر هذه الانعطافات حظر حزب «الرفاه» الإسلامي بقيادة رئيس الوزراء السابق نجم الدين أربكان، في مطلع 1998، بعد إطاحته من السلطة في حزيران 1997 بضغط من الأوساط العلمانية التركية المدنية والعسكرية.
    ودفعت هذه الأحداث عبد الله غول إلى ترك حزب «الرفاه» على غرار العديد من أعضاء البرلمان المنتمين لهذا الحزب، والانضمام الى حزب الفضيلة آنذاك. لكن حزب الفضيلة تعرض بدوره للحل أيضاً بحكم قضائي بسبب «أنشطة مناهضة للعلمانية» في عام 2001. وحلّ محله حزب العدالة والتنمية، الذي حصل على الغالبية البرلمانية في عام 2002، وأوصل غول في مرحلة أولى إلى رئاسة الحكومة التي انتقلت بعد ذلك إلى رئيس الحزب رجب طيب أردوغان.
    أتاتورك والحجاب
    اللافت أن الحزب الحاكم الذي برع في تقديم صورته غير الإسلامية على رغم الهوية الملاصقة لأعضائه ومسؤوليه، نجح في ممارسة سياسة براغماتية حافظت على إرث أتاتورك من دون أن تحدث قطيعة مع الموروث الديني المنغرس في المنظومة الاجتماعية منذ قرون.
    لكن المؤسسة العسكرية المتطرفة في حماية الدستور والهوية العلمانية للبلاد لا تزال حريصة على عدم وصول شخصية من حزب ذي جذور دينية الى الرئاسة، في جمهورية تمنع النساء المحجبات من ارتياد المؤسسات الرسمية والجامعات.
    وخير شاهد على أزمة الحجاب الجدل الذي رافق ترشيح غول للرئاسة، والذي جاء في إطار تحدي نواب حزب العدالة والتنمية للمؤسسة العسكرية والنظام العلماني لإدخال امرأة محجّبة (زوجة غول) إلى القصر الرئاسي كسيدة أولى للبلاد.
    ولا يزال أقطاب حزب العدالة والتنمية، الأقوى اليوم على الساحة التركية، ينفون تخطيطهم لتنفيذ برنامج إسلامي، وهذا ما تجلى أخيراً من خلال تعهّد أردوغان وغول العمل بموجب المبادئ العلمانية الرئيسية في البلاد، التي أرساها «مؤسس تركيا الحديثة»، ولا سيما ان الحكومة وفق الدستور التركي تسيطر على معظم السلطات.
    في المقابل، لا يزال العسكر وبعض الأحزاب العلمانية المعارضة يتعاطون بحذر مع هذه الموجة التي اكتسحت المشهد السياسي متسلّحة بإنجازات تمكّنت من تحقيقها خلال مراحل سيطرتها على بعض البلديات، وفي ما بعد من خلال السلطة التنفيذية التي يتربّع الإسلاميون «الإصلاحيون الديموقراطيون» على عرشها منذ سنوات قليلة.
    ولعل هذا الحذر نابع من الخوف على هوية تركيا التي تسير نحو منظومة عقائدية لا تزال راسخة في العقل الجماعي لمجتمع متديّن يتماهى مع التحولات الحاصلة في العالم والمتجسّدة بصعود الحركات الدينية وسط موجة تطرف واسعة، وخصوصاً أن هذه الموجة العنيفة جاءت رد فعل على سياسات الدول العظمى تجاه قضايا تعتبر الإساءة إليها مساساً بمقدسات وهويات راسخة في الوعي الجماعي للكثير من المسلمين، ومنهم الأتراك، أبرزها القضية الفلسطينية وما تمثله القدس من بعد في هذا الوعي.
    المقاطعة هي الحل
    يبدو أن الخوف لدى بعض الأحزاب العلمانية، دفعها الى اتخاذ قرار بمقاطعة الانتخابات الرئاسية، بعدما بات فوز الإسلاميين حتمياً لما يتمتع به حزب العدالة والتنمية من سيطرة قوية داخل البرلمان (يملك 353 مقعداً من أصل 550). وفي هذا السياق، كان قرار حزب الشعب الجمهوري (اشتراكي ديموقراطي) برئاسة دينيز بايكال، أكبر أحزاب المعارضة في البرلمان التركي، بمقاطعة هذه الانتخابات التي تجري دورتها الأولى اليوم، بحجة «عدم اختيار المرشح ضمن مقاربة تصالحية».
    ولم يكتف الحزب بقرار المقاطعة بل أشار، على لسان نائب رئيسه مصطفى أوزوريك، إلى انه سيطعن في الانتخابات أمام المجلس الدستوري إذا تمت الدورة الأولى من دون مشاركة 367 نائباً على الأقل.
    وكان أردوغان قد تعرض لضغوط قوية من النخبة العلمانية التي تضم قادة الجيش والقضاة، حتى لا يرشح نفسه لانتخابات الرئاسة بسبب مخاوف من أنه سيقوّض الفصل بين الدين والدولة في البلاد. وتعرّضت الحكومة لهزة في وقت سابق من هذا الشهر عندما احتشد أكثر من 350 ألفاً في أنقرة للتعبير عن رفضهم احتمال تولّي أردوغان الرئاسة.
    وحذر قائد الجيش يشار بويوكانيت والرئيس التركي الحالي أحمد نجدت سيزر من المخاطر التي تتهدّد الجمهورية في تصريحات فُسّرت بأنها تحذيرات لأردوغان. وقال سيزر، الذي ألقى خطاباً في الضباط الطلاب في كلية الحرب في 14 نيسان، إن «النظام العلماني التركي معرّض لتهديدات غير مسبوقة منذ 1923». وأضاف أن الخطر على العلمانية التركية ينبع من قوى داخلية وخارجية على السواء، ملمحاً الى «دول تريد تقديم تركيا نموذجاً لدول العالم الإسلامي الأخرى، باعتبارها دولة إسلامية معتدلة»، ومعتبراً أن «المعتدل» سرعان ما يتحول إلى «راديكالي».
    مفاجأة أردوغان
    يبدو ان التكتيك الذي اتبعه حزب «العدالة والتنمية» من خلال صرف النظر عن ترشيح أردوغان، والذي طالما أعلن أنه سيفاجئ شعبه في ما يخص إعلان مرشح حزبه، سببه الخشية من أن يفقد الحزب أصواتاً في الانتخابات العامة المقررة في تشرين الثاني المقبل. فإذا أصبح أردوغان رئيساً وترك العمل السياسي الحزبي، هناك احتمال قوي لأن يضطر إلى تشكيل حكومة ائتلافية مع أحزاب قومية، ما يضرّ بالإصلاحات التي تعهد السير فيها منذ وصوله وتمكن من تحقيق بعضها، وأبرزها النمو الاقتصادي والبدء بمحادثات الانضمام للاتحاد الأوروبي.
    يبقى السؤال أمام هذا الاستحقاق المثير للجدل: الى أي مدى يمكن تركيا ان تحتمل خضّات سياسية جديدة في ظل منعطفات خطيرة تتحول فيها البلاد من هوية إلى أخرى، وهي على أعتاب النادي الأوروبي ومن خلفها الأزمة الكردية التي لا يبدو أن نهايتها قريبة، وبين هذا وذاك أين سيكون موقع تركيا الإسلاموية على خريطة الشرق الأوسط الجديد؟



    الأحزاب الدينية التركية
    الأحزاب والحركات الإسلامية في تركيا ذات منبع صوفي في الأصل، حيث كانت الطرق الصوفية هي الملجأ الوحيد للباحثين عن هويتهم الدينية في ظل نظام أتاتورك العلماني. وأبرز هذه الحركات والأحزاب:
    ــ رسائل النور: أسسها بديع الزمان سعيد النورسي، في أواسط القرن الماضي. تحوّلت إلى «حزب الرفاه» (إسلامي) بعد انقلاب العسكر عام 1980.
    ــ حزب النظام الوطني: تأسس عام 1970 على يد نجم الدين أربكان، وتميّز برنامجُه بالرغبة في توطيد العلاقات بالدول القريبة من تركيا تاريخيّاً وثقافيّاً.
    ــ حزب السلامة الوطني: تأسس عام 1972 على يد فريد ملان. خاض الانتخابات البرلمانية واستطاع أن يحقق المركز الثالث في نتائجها، ودخل في حكومة ائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري. قُضي على هذا الحزب عام 1980، بعدما رفع مناصروه في أحد المؤتمرات الشعبية شعار «أنقذوا القدس»، وظهرت دعوات إلى إقامة دولة إسلامية في تركيا.
    ــ حزب الرفاه: أسسه نجم الدين أربكان عام 1983، وتحول إلى حزب «الفضيلة» بعد انقلاب عسكري عام 1988، ثم استقر أخيراً على اسم حزب «السعادة» الذي لا يمتلك تمثيلاً في البرلمان، ولم تتجاوز نسبة الأصوات التي حصل عليها 2.5 في المئة في انتخابات عام 2002.
    ــ حزب العدالة والتنمية: الذي يتزعمه رجب طيب أردوغان، هو أحد نتاجات حزب الرفاه. على رغم صبغته الإسلامية، حافظ على الأداء الديموقراطي والإصلاحي وبقي يعمل تحت عباءة أتاتورك.



    مبادئ أتاتورك
    مثّل حزب الشعب الجمهوري بقيادة مصطفى كمال أتاتورك ستة مبادئ وضعها في صورة شمس:
    1 ــ النظام الجمهوري هو النظام النهائي لتركيا.
    2 ــ الشعب التركي يشكل أمة واحدة قائمة بذاتها، وذات قومية متميزة، وتركيا هي صاحبة السيادة المطلقة على أراضيها كافة ضمن حدودها الجغرافية المعترف بها دولياً.
    3 ــ تركيا دولة علمانية وأمور الدين منفصلة عن أمور الدولة، لذلك غير مسموح لرجال الدين التدخل في أمور الحكم والإدارة والقضايا العامة.
    4 ــ النظام التركي الجمهوري العلماني نظام شعبي يقوم على التمثيل النيابي الديموقراطي، وجميع المواطنين متساوون أمام القانون.
    5 ــ نظام الدولة الاقتصادي هو نظام الحرية المراقبة، وهذا يعني أن للدولة الحق في مراقبة نشاطات القطاع الخاص والتدخل بالقوة، إذا لزم الأمر، لوقف هذه النشاطات إذا كانت ضارّة بالمصلحة العامة.
    6 ــ طبيعة النظام طبيعة ثورية، لذلك يجب ان يكون نظاماً متطوّراً باستمرار تبعاً لتطوّر مشاكل الحياة حتى يُقضى نهائياً على الفقر والجهل والتخلف.