strong>واشنطن ــ عمر أحمد
«الدرع الصاروخية» الأميركية تهدّد بأزمة بين حلف شمالي الأطلسي وروسيا بعد إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعليق «معاهدة القوات التقليدية في أوروبا». فما هي هذه الدرع وغاياتها، ومن المستفيدون من إنشائها؟

تثير خطة الولايات المتحدة لنشر نظام دفاع صاروخي في أوروبا الشرقية مخاوف روسيا، وأيضاً بعض دول أوروبا الغربية من أن يؤدي ذلك إلى إحياء انقسامات قديمة في تلك القارة.
وتريد واشنطن أن تكون قاعدة النظام الدفاعي الصاروخي في بولندا وجمهورية التشيك لاعتراض وإسقاط أي صواريخ تطلق من دول تعاديها الولايات المتحدة وتصفها بأنها «مارقة»، مثل إيران وكوريا الشمالية وكوبا.
لكن حقيقة الأمر هي أن الولايات المتحدة لا تزال ترى أن روسيا، رغم انهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي في أوروبا الشرقية، تشكّل خطراً مستقبلياً، في وقت ترى فيه موسكو أن الصواريخ الأميركية تستهدفها وتشكّل تهديداً لها. كما أن واشنطن تخشى من تمدّد الصين وازدياد قدراتها العسكرية والاقتصادية بما يؤثر مستقبلاً على تفرّد الولايات المتحدة في الهيمنة العالمية.
ويرى الروس أن نشر نظام الدفاع الصاروخي في أوروبا الشرقية انتهاك لحدود روسيا القومية، كما أنه يشكّل تقييداً كبيراً لإمكاناتها الصاروخية، من شأنه أن يحدث خللاً في ميزان القوى النووية لأوروبا ويفتح الباب واسعاً لسباق تسلّح جديد.
وأثارت الخطة بالفعل توتّرات بين دول حلف شمالي الأطلسي. ورفضت التشيك الانتقادات لمحادثاتها مع الولايات المتحدة بشأن احتمال مشاركتها في استضافة النظام الصاروخي، بعدما قالت لوكسمبورغ إن هذا يهدّد بخلق توتّرات جديدة مع روسيا.
وأظهرت استطلاعات الرأي أن نحو ثلثي مواطني التشيك يعارضون نشر الصواريخ الأميركية على أراضيهم، كما أن غالبية البولنديين تعارض ذلك.
وفيما تشهد دول أوروبية معارَضة لنشر البرنامج، أعلنت بريطانيا في 23 شباط الماضي أنها مستعدّة لاستقبال الصواريخ الأميركية. لكن حلفاء آخرين تردّدوا للغاية بشأن رغبتهم في المشاركة، بينهم ألمانيا التي دعا وزير دفاعها فرانتس يوزيف يونج إلى إجراء محادثات بشأن درع تغطّي دول حلف شمال الأطلسي، ما دفع الحزب الديموقراطي الاشتراكي الشريك في الحكومة الألمانية الائتلافية إلى التحذير من أن مثل هذا التحرّك قد يبدأ حرباً باردة جديدة مع روسيا.
ويتلخّص الموقف الرسمي الروسي بشكل عام إزاء زحف حلف الأطلسي نحو الحدود الروسية بالتأكيد على أن لدى موسكو الإمكانات للرد المناسب على أي مخاطر تهدّد أمنها القومي من دون التورّط في «حرب باردة» من جديد.
بداية الفكرة
تعود فكرة برنامج الدفاع الصاروخي الأميركي إلى عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان في الثمانينات من القرن الماضي، والتي كان اسمها في ذلك الوقت مبادرة الدفاع الاستراتيجي أو «حرب النجوم» في مواجهة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي آنذاك. ويحلو لخبراء عسكريين ومحللين سياسيين أميركيين إطلاق اسم «ابن حرب النجوم» على برنامج الدفاع الصاروخي الذي أطلقه الرئيس الأميركي الحالي جورج بوش في خطابه عن حالة الاتحاد في 27 شباط 2001، أي بعد نحو شهر من تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة، الذي أشار فيه إلى أن توازن الرعب إبان الحرب الباردة قد ولّى وأن واشنطن بحاجة إلى استراتيجية واضحة للرد على «تهديدات القرن الحادي والعشرين».
وأعلن بوش في 13 حزيران 2002 انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة الحد من الأسلحة البالستية (إي بي إم) الموقعة مع الاتحاد السوفياتي (السابق) في عام 1972، والتي قصدت بنودها عن عمد إبقاء الأجواء مفتوحة وغير محمية بغرض الردع المتبادل بين الدول الكبرى.
وكان الانسحاب من معاهدة (إي بي إم) ضرورياً لإطلاق «برنامج الدفاع الصاروخي»، الذي يدعو إلى بناء شبكات حماية مكوّنة من أنظمة صواريخ أرضية مضادة للصواريخ مستندة إلى نقاط ارتكاز جغرافية عديدة قادرة على إسقاط أي صاروخ بالستي عابر للقارات يستهدف الأراضي الأميركية.
وتدعي إدارة بوش بأن نظام الدفاع الصاروخي لا يحدث أي تغيير جذري في التوازنين الأمني والعسكري الدوليين وأنه ليس موجهاً ضد الصين أو روسيا اللتين تمتلكان صواريخ عابرة للقارات، وهو الأمر الذي يدفع خبراء ومحللين منتقدين للبرنامج الأميركي إلى القول إن الادعاء بأنه لا يستطيع صد هجوم صاروخي فعال مع روسيا أو الصين أمر غير صحيح، إذ في حال إتمام إقامته سيوفر للولايات المتحدة تفوقاً استراتيجياً غير مسبوق على موسكو وبكين. كما أن الولايات المتحدة تسعى مستقبلاً إلى ضم دول حلف الأطلسي إلى هذا النظام بما يعنيه من عولمة الاستراتيجية الأمنية الأميركية، حيث تصبح الصين وروسيا بالكامل في «المجال الحيوي» الأمني للولايات المتحدة.
وقد أوضح وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس في معرض تبريره لنشر نظام الدفاع الصاروخي أن الولايات المتحدة «تحتاج إلى كل الوسائل العسكرية المطلوبة لجيش يخوض صراعاً لأننا لا نعرف ماذا سيحدث في أماكن مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران».
أما مدير الوكالة الأميركية للدفاع المضاد للصواريخ هنري أوبرينغ فقال: «نرغب في نشر رادارات ومواقع صواريخ في أوروبا في إطار توسيع غطاء الحماية ليشمل قواتنا العسكرية في الخارج وحلفاءنا معاً، وفي إطار التصدّي لتهديد مثل تهديد إيران». وأضاف أوبرينغ: «أما روسيا فتملك مئات الصواريخ وآلاف الرؤوس النووية. وعليه فنظام الاعتراض الأميركي ليس مصمّماً للجم تهديد روسي. فهذا يفوق طاقة النظام الأميركي على الاستيعاب. والصينيون، من جهة أخرى، يطورون برنامج صواريخ هجومية يفوق من غير شك طاقات نظامنا الدفاعي. ونحن لن نتستر على ما نعمل، وندعو الروس إلى مراقبة منشآتنا. فنحن نخطط لنصب عشرة أجهزة اعتراض تتصل برادارات، بموقع أوروبي. والغاية هي التبكير في رصد الإنذار».
المحافظون الجدد
رغم أن الاستراتيجية الأميركية الحالية القائمة على التسلّح في درجته القصوى تعود إلى تراث الحرب الباردة، التي أرسى أسسها الرئيس الأسبق هاري ترومان في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إلا أن انتهاء الحرب الباردة لم تضع حداً لها؛ فقد اندفعت إدارة بوش الجمهورية، التي يهمين عليها التيار المتطرف للمحافظين الجدد، إلى تبني التسريع في تنفيذ برنامج الدفاع الصاروخي كإحدى قضايا الأمن القومي، رغم أن الرئيس السابق بيل كلينتون قد أرجأ العمل به لعدد من العوامل، أهمها أنه كان يأمل بدلاً من المواجهة مع روسيا والصين والاتحاد الأوروبي أن يصل إلى صيغة توافقية معها لتنفيذ البرنامج، إضافة إلى الشكوك العميقة في فاعلية البرنامج عقب فشل العديد من تجاربه والكلفة المالية الباهظة له التي كانت قد فاقت تقديراتها آنذاك أربعين مليار دولار.
وقد جاء المحافظون الجدد بنظرية الحرب الاستباقية في عالم ما بعد هجمات الحادي عشر من أيلول 2001 ليعطوا مبرراً مركزياً لتسويق مفهوم «التهديد الوشيك»، وفق أحدث صيغه، وهو مجابهة «الإرهاب المسلح بأسلحة الدمار الشامل»، ليتم إدخال برنامج الدفاع الصاروخي في إطار الأدوات الفعالة للقضاء عليه.
كما أن البرنامج نفسه هو جزء من مساعي إدارة بوش والبنتاغون تحت قيادة وزيره السابق دونالد رامسفيلد لإعادة هيكلة القدرات النووية والصاروخية الأميركية وتطوير مستوياتها لتصبح ملائمة لاحتياجات العصر الراهن، بحسب فلسفتهم العسكرية الاستراتيجية.
المستفيدون
في سياق المخاوف من تراجع الزخم لمواصلة برنامج الدفاع الصاروخي عندما تنتهي ولاية بوش الرئاسية، فإن دعاة الحرب والمجابهات العسكرية صعَّدوا حملتهم لعسكرة الفضاء حيث تجمعوا العام الماضي في إطار «مجموعة العمل المستقلة حول الدفاع الصاروخي وعلاقات الفضاء والقرن الحادي والعشرين»، ناشرين دراسة تقع في 200 صفحة تدعو إلى برنامج عسكري فضائي مكثّف.
وتقف في مقدمة المستفيدين من برنامج الدفاع الصاروخي، الشركات الأميركية لتصنيع الأسلحة، التي تتبنى في العادة موقفاً مؤيّداً بقوة لأي مشروع جديد أو تحرّك يهدف لتشغيل مصانعها، بما يدر عليها مزيداً من الأرباح، وإضافة استثمارات إلى الصناعات العسكرية في أعقاب انتهاء الحرب الباردة، الذي أسهم في تراجع التهديدات الخارجية، وبالتالي إلى تضاؤل فرصة الاحتياج إلى الأسلحة الاستراتيجية.
وبين الشركات المستفيدة الشركات الأربع الكبرى في صناعة الأسلحة وهي «بوينغ»، «لوكهيد مارتن»، و»رايثيون»، و»نورثروب غرومان»، التي تلقّت مجتمعة 15 مليار دولار في إطار البرنامج الصاروخي في الفترة من 2001 ــــــ 2004. وتستخدم تبرعاتها المالية لحملات انتخابات الكونغرس وعلاقاتها السياسية مع أعضائه للإبقاء على البرنامج حيّاً، فقد دفعت نحو عشرين من شركات صناعة الصواريخ الأميركية 4.1 ملايين دولار لثلاثين عضواً بارزاً في الكونغرس في الفترة من 2001ــــــ2006.
ومن أبرز متلقي التبرعات، العضوان الجمهوريان في مجلس الشيوخ ريتشارد شيلبي (204334 دولاراً) وجيف سيشينز (145250 دولاراً) من ولاية أوباما.
كذلك الأمر بالنسبة إلى قادة البنتاغون العسكريين؛ فقد استقطب هذا المشروع عدداً كبيراً من الخبراء والعاملين في وزارة الدفاع لفترة طويلة، ويمثّل التراجع عنه إهداراً لوقت وجهد وأموال طائلة أنفقت عليه، فضلاً بالطبع عن وجود مصلحة دائمة للعسكريين في تزايد الخطط والمشروعات العسكرية التي يجري استخدامها، بغض النظر عن ضرورتها فعليّاً.
فتّش عن إسرائيل
حول هاتين القوتين تنشأ بالضرورة أطراف أخرى ذات مصلحة بالتبعية، مثل الفنيين العاملين في مجال التقنية، وغير ذلك مما يعرف بالصناعات التكميلية، فضلاً عن احتمال وجود دور،ٍ ولو محدوداً، للوبي اليهودي في واشنطن، الذي كان يقف بقوة سابقاً وراء مشروع «حرب النجوم»، الذي كانت إسرائيل طرفاً في عملية إنشائه وتشغيله، ما يجعل من المحتمل بقوة أنها تتطلع إلى الاضطلاع بالمهمة ذاتها مع المشروع الجديد.
فقد انخرطت الولايات المتحدة في برنامج «الدفاع الصاروخي» الإسرائيلي المعروف باسم «حيتس»، حيث قدمت ما يزيد على مليار ومئة مليون دولار إلى جانب المشاركة الفنية والبرامج الثنائية. كما أن الاستراتيجية الإسرائيلية تتماشى مع نظيرتها الأميركية في مجابهة إيران وسوريا. غير أن نظام «حيتس» يواجه هو الآخر مشاكل، حيث مرّ بتجارب فاشلة في الإطلاق والاعتراض.
وقد أظهر العدوان على لبنان في تموز الماضي عدم قدرة «حيتس» وصواريخ «باتريوت» أيضاً على اعتراض صواريخ حزب الله، وهو ما دفع أوبرينغ إلى القول إنه «أثناء الأزمة اللبنانية ــــــ الاسرائيلية، صيف 2006، شهدنا حليفاً معروفاً بطاقاته العسكرية الفاعلة، هو إسرائيل، أعزل تقريباً في وجه هجوم بالكاتيوشا والصواريخ القصيرة المدى، وكلتاهما تصويبهما غير دقيق وغير تلقائي».
واتفقت إسرائيل والولايات المتحدة في شهر شباط الماضي على تمديد العمل باتفاقية المشاركة في برنامج «حيتس ــــــ2» للدفاع الصاروخي الذي ينتهي في العام المقبل حتى عام 2013. وتشارك في البرنامج شركتا «بوينغ» والصناعات الجويّة الإسرائيلية الحكومية.
وتملك الولايات المتحدة شبكة لأقمار الإنذار الاصطناعية والرادارات وثماني قواعد لاعتراض الصواريخ في ألاسكا واثنتين في كاليفورنيا. وتريد إكمالها بمنظومة في أوروبا تقضي ببناء محطة رادار في جمهورية التشيك ومنصة إطلاق صواريخ اعتراضية في بولندا بكلفة تناهز 6.1 مليارات دولار.
ويقول الباحث الأميركي البارز في شؤون الدفاع الصاروخي ويليام هارتونغ إن برنامج الدفاع الصاروخي غير ضروري، وهو ليس أكثر من إهدار للأموال والجهد في ضوء تأكيد الخبراء أن الحديث عن تهديد كوري شمالي أو كوبي أو حتى إيراني يفتقر إلى الصدقية، مشيرين على سبيل المثال إلى أن كوريا الشمالية أجرت مطلع شهر تموز الماضي تجربة على ستة صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى وعلى صاروخ سابع بعيد المدى هو «تايبودونغ ــــــ2» سقطت جميعاً في البحر. ولم يحاول الأميركيون آنذاك اعتراض أي من هذه الصواريخ.
وفيما بلغت ميزانية الدفاع الأميركية لعام 2007 أكثر من نصف تريليون دولار، فإن ميزانية الفضاء الأميركية السنوية تبلغ 36 مليار دولار، وهي تعادل، استناداً إلى «مشروع أمن الفضاء»، 73 في المئة من نفقات الدول الكبرى مجتمعة في الفضاء، بمن فيها الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي واليابان والهند.
«الدرع الصاروخية»: مكوناته وعمله
يتكون برنامج «الدرع الصاروخية» من ثلاثة أنظمة:
ــــــ نظام أرضي وطني يتألّف من ثمانية أجهزة رصد صواريخ نشرت في ألاسكا واثنين في كاليفورنيا.
ــــــ نظام مداري قادر على تحطيم الصواريخ في نصف طريقها، لكنه لم يبلغ بعد مرحلته العملانية بسبب صعوبات خطيرة في التسديد.
ــــــ نظام أرضي متقدم، خارج الأراضي الأميركية لرصد الصواريخ مبكراً بعد إطلاقها مع قاعدتي رادار موجودتين في فيلينغدال في إنكلترا وثولي في غرينلاند (أراضٍ دانماركية ذات حكم ذاتي).
وتدعي الولايات المتحدة أن صاروخاً عابراً للقارات، إذا أطلقته إيران على الولايات المتحدة، فسيسلك طريقاً قطبياً تقريباً، وأنه سيحلّق بالتالي فوق أوروبا الوسطى. ويبلغ الوقت المتاح لاعتراض الصاروخ دقيقتين إلى خمس دقائق.
والصواريخ المضادة للصواريخ هي قذائف من ثلاث طبقات، آخرها «آلية للضرب خارج الفضاء» أو «جهاز ضارب»، قادر على تحطيم هدف عدو بعد تحديد هويته والتبين بأنه ليس تمويهاً.
ويتم التعرف إلى الهوية مبدئياً بواسطة الرادارات المنتشرة على الأرض وفي البحر وفي المدار.