strong>موسكو ـــ حبيب فوعاني
في إطار سعيها إلى استعادة نفوذها العالمي، لا بد لروسيا من
فضاء إقليمي ودولي تتحرك فيه. وبما أن رابطة الدول المستقلة، المؤلفة من الدول المنفصلة عن الاتحاد السوفياتي السابق، لم تنجح خلال الفترة الماضية بهذا الدور، فإن تطورات قد تطرأ على عملها في المرحلة المقبلة بفعل المساعي الروسية لأخذ مكانها في العالم

لم تستطع رابطة الدول المستقلة طوال 15 عاماً من عمرها ملء الفراغ، الذي خلّفه انهيار الاتحاد السوفياتي، ولم تتبلور فيها إيديولوجيا توحيدية تحل محل الإيديولوجيا السوفياتية الغابرة، حتى أصبحت نادياً للرؤساء في فضاء ما بعد السوفياتي يحلّون فيه مشكلاتهم الثنائية.
ولم تكن العلاقات الثنائية بين الدول الأعضاء فيها على ما يرام، وعاشت أسوأ أيامها في السنوات الثلاث الأخيرة. وقد اعترف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال زيارته إلى أرمينيا في آذار 2005، بأن هذه المنظمة ظهرت إلى الوجود في منتصف كانون الأول من عام 1991 «فقط للطلاق بشكل حضاري» بين جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق قبيل انهياره.
وبذلك يكون الرئيس الروسي قد أعلن موت هذه الرابطة، التي لا تزال تعقد اجتماعات قمتها السنوية، ولم يكن أي من زعمائها ليقوم بما يؤدي إلى تطوّر الأمور بحيث يتم دفنها، ويَنتظِر أن يقوم رئيس آخر غيره بدق آخر مسمار في نعشها، رغم أنه أصبح من الواضح أنه لا يمكن الحديث عن أي تطور في التكامل داخلها. كل ذلك يحصل، ربما طمعاً في الحصول على موارد الطاقة الرخيصة أو التسهيلات الاقتصادية الروسية في مقابل مقولات الولاء اللفظي لموسكو.
وفي الوقت نفسه، يبدو أن تحولاً جذرياً حدث في الأعوام الثلاثة الأخيرة في السياسة الخارجية الروسية؛ فقد أعلنت موسكو تمرّدها على إملاءات واشنطن، وانفلتت نهائياً عن المدار الغربي. وحدث تحول جذري في علاقة روسيا مع أعضاء رابطة الدول المستقلة في ضوء الضغط الأميركي المتنامي على مناطق آسيا الوسطى وما وراء القوقاز وبحر قزوين.
وتركّز اهتمام الكرملين في السنوات الثلاث الأخيرة على وضع مشروع ما بعد الأمبراطورية السوفياتية. وعمد إلى الدفاع عن مصالحه ونفوذه التقليدي في فضاء ما بعد السوفياتي. وتحوّلت السياسة الروسية من موقع الضعف إلى الاستناد إلى قوتها الخاصة، وخصوصاً الاقتصادية، ومن التظاهر بالتكامل مع دول هذا الفضاء إلى الغزو الصريح لرأس المال الروسي. كما حلّت علاقات السوق محل الدعم المادي والمقايضة، والهجمات المضادة في بعض الاتجاهات، وربما الاستعداد للهجوم المضاد الشامل مكان التراجعات التكتيكية المذلة تحت ضغط المنافسة الغربية.
وقد نجحت موسكو بعد أزمة الغاز مع أوكرانيا في بداية عام 2006 في إجبار النخب الحاكمة في هذه الدول على أخذ العامل الروسي بالاعتبار عند اتخاذ قراراتها السياسية أو الاقتصادية. وجرت العودة، ليس إلى السياسة الأمبراطورية الروسية أو السوفياتية، بل تمت إقامة علاقات من طراز جديد في الفضاء، الذي يراه الكرملين مجالاً طبيعياً للمصالح الروسية المتجذرة هناك.
«دولة الطاقة العظمى»
وتم التركيز على الطاقة في علاقات روسيا الخارجية، وأصبحت القيادة الروسية على اقتناع بأن موارد الطاقة تجعل روسيا بالفعل دولة لا بديل عنها في الاقتصاد الإقليمي والعالمي، وبالتالي في السياسة العالمية.
ويوجد مغزى واضح من التركيز الروسي على مفهوم «دولة الطاقة العظمى». لقد جعل قادة الكرملين هدفاً شخصياً أمامهم، هو بعث روسيا كأحد مراكز القوة العالمية من خلال سعيهم إلى تحقيق أهدافهم الطموحة لتحويل شركة «غاز بروم» إلى شركة دولية رائدة تجمع في أيديها خيوط التحكّم بأكثر قطاعات الاقتصاد ربحية في العالم.
ويوجد في السياسة الخارجية الروسية الجديدة جانب جيوسياسي أيضاً، حيث تحتاج الدولة العظمى إلى المحيط الملائم لها، وهذا الفضاء اليوم هو شفّاف وأطيافه في مختلف الاتجاهات؛ فمثلاً، توجد فيه منظمة التنمية الاقتصادية والديموقراطية، التي أنشأتها أربع دول من أعضاء رابطة الدول المستقلة في عام 2006 كحلف مواز لرابطة الدول المستقلة ومعادٍ لروسيا، ويضم: أوكرانيا، جورجيا، مولدوفا وأذربيجان. وتبالغ الدول الثلاث الأولى في الانبطاح أمام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ أما أذربيجان، التي تقع في موقع تجاذب الغرب وروسيا، فهي تناور بنجاح بين موسكو وواشنطن.
ومن بين 11 دولة في رابطة الدول المستقلة، توجد خمس دول، يمكن القول إنها لا تزال حليفة لروسيا، وتدخل في منظمة معاهدة الأمن الجماعي ومنظمة التعاون الاقتصادي الأوراسية، وهي: أرمينيا، بيلاروس، كازاخستان، قيرغيزستان وطاجكستان. وفي عام 2005، وقّعت روسيا اتفاقية تحالف مع أوزبكستان.
وبغضّ النظر عن المقارنة، التي تجرى أحياناً، لا تشبه «منظمة معاهدة الأمن الجماعي» و«منظمة التعاون الاقتصادي ـــ الأوراسية» حلف وارسو أو مجلس التعاون الاقتصادي (السوفياتي) السابق مع الدول الاشتراكية؛ إذ تختفي في الحلفين الجديدين الإيديولوجيا المشتركة والشعور بالخطر المشترك. وتغلب التصوّرات البراغماتية عليها. ولا وجود فيها للانضباط الصارم. واللافت أن الحديث في منظمّتي معاهدة الأمن الجماعي والتعاون الاقتصادي الأوراسي لا يجري عن العلاقات المتعددة الجوانب بين أعضائها، بل عن بضع اتفاقيات ثنائية وقّعت مع روسيا.
strong>الولاء لموسكو
ولكن بمَ تتمثل موالاة هذه الدول لموسكو؟ وما هي متانتها، وما هي آفاق مركز القوة الروسي؟
بعد «الثورات الملونة»، انتشرت شائعة حول تشوّق المجتمعات الجديدة إلى الدرع الأطلسي و«الديموقراطية» الغربية وسعيها للانفلات من ربق الوصاية الروسية، بينما ترنو الأنظمة الديكتاتورية «الرجعية» إلى الكرملين. ولكن ذلك تشويه وتبسيط (وأحياناً مغرض) للحقائق.
إذ ليس من دولة واحدة في الفضاء ما بعد السوفياتي تعدّ ديموقراطية (ما عدا دول البلطيق). وتعود السلطة الحقيقية في كل هذه الدول إلى النخب العائلية، التي تعمل في سبيل مصالحها الخاصة.
وثانياً، لا تهرع الأنظمة السلطوية دائماً إلى أحضان موسكو. وبالنسبة للقيادة الروسية، لا تعدّ مواصفات النظام السياسي في الدول المجاورة أمراً أساسياً لها. وليست موسكو متحرّقة لتجميع «أممية ديكتاتورية» تحت جناحيها، وقد سبّب الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو للكرملين، ولا يزال، وجعاً في الرأس لا دواء منه. بينما لا يسرع رئيس أوزبكستان إسلام كريموف، رغم علاقاته المتوترة حالياً مع واشنطن، إلى الارتماء في أحضان موسكو. في حين كان الرئيس التركماني الراحل صَفـَرْ مراد نيازوف كوكباً بذاته مستقلا عن الشرق والغرب. ولا يمكن اعتبار أي من زعماء رابطة الدول المستقلة موالياً لموسكو مئة في المئة، وقد أثبتت العلاقات البيلاروسية ـــ الروسية ذلك.
وبالنسبة للديموقراطية، فالمسؤولون الروس ينظرون إليها بريبة ويعتبرونها شعاراً فضفاضاً للتمويه على أهداف محدّدة ومغرضة عادة. ولذلك، فروسيا قادرة نظرياً وعملياً على التعايش مع الديموقراطيات الوليدة إذا كانت تستجيب لحاجاتها. وكانت علاقات الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي تتطور إيجاباً مع بوتين قبل أن يعلن ساكاشفيلي حربه الصليبية على حليفة موسكو، جمهورية أوسيتيا الجنوبية الجورجية.
وقد تعلّم الكرملين فن المناورة بين مختلف التيارات الأوكرانية بعد إخفاق سياسته في انتخابات أوكرانيا الرئاسية في عام 2004، وفشل حليفه فيكتور يانوكوفيتش فيها، وانتصار رجل الغرب فيكتور يوتشينكو. واستوعب الكرملين «الدرس الأوكراني» في قرغيزستان، حيث لم يضع البيض في سلة الحكم أو في سلة المعارضة. وبشكل عام يسهّل توسع التعددية السياسية والاقتصادية في دول رابطة الدول المستقلة على روسيا مهمتها في الدفاع عن مصالحها، لا العكس.
كما إن روسيا لا تعوق تحوّل دول الرابطة إلى الديموقراطية السياسية الحقيقية والسوق الحرة والمجتمع المدني، لكن الغرب لا يهرع لتقديم مساعدة جدية وباهظة الثمن إلى هذه الدول سوى في انتقادات انتهاك حقوق الإنسان فيها. ومن المستبعد أن يعمد الاتحاد الأوروبي في المستقبل المنظور إلى التكامل مثلاً مع أوكرانيا سوى في الشؤون الأمنية، بينما تسعى الولايات المتحدة إلى ضم كييف إلى حلف شمال الأطلسي، وإعلان أراضيها مجالاً حيوياً لمصالحها.
وهنا يتحوّل الأمر إلى مجال الجيوسياسي، ويستعد الكرملين بجدية لخوض «المعركة من أجل أوكرانيا»، وستضطر موسكو إلى شن حملة شرسة في هذا البلد لإيقاف تقدم كييف نحو حلف شمال الأطلسي.
وبالنسبة لأرمينيا، فهي تعدّ حليفة لروسيا في منطقة ما وراء القوقاز، لكن ليس من منطلق المواجهة بين الشرق والغرب، حيث تحافظ يريفان على علاقات جيدة مع الغرب، لكنها في الوقت نفسه تحافظ على علاقات استراتيجية مع إيران، وذلك بسبب الطوق الأذربيجاني ـــ التركي حولها، ومع روسيا لوجودها في محيط إسلامي.
وبالنسبة لكازاخستان وقرغيزستان، تساعدهما العلاقة مع موسكو على إقامة توازن مع الاتجاهين الهامين الآخرين في سياستهما الخارجية ـــ الصيني والأميركي. وقد اعتمدت طاجكستان منذ البداية، في أوائل التسعينيات على المساعدة الروسية في ضمان أمنها الخارجي.
أما أوزبكستان، وبعد الاضطرابات الشعبية في مدينة أنديجان في أيار 2005، وتوتر علاقاتها مع الولايات المتحدة، فهي تعوّل على مساندة موسكو في ضمان أمنها الداخلي.
وفقط مع بيلاروس تبدو الحالة معقدة، حيث لا يؤدي الأمن أو الجيوسياسة سوى دور ثانوي بسبب تقارب الشعبين الروسي والبيلاروسي الحضاري. والأزمة لا تزال مفتوحة بسبب الذهب الأسود والغاز، لكن موسكو تعوّل على فشل الرئيس البيلاروسي في التقارب مع أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، وعلى عودته إلى بيت الطاعة الروسي.
أما كازاخستان الغنية بالموارد الطبيعية، فهي مهتمة بإنشاء مجال اقتصادي موحّد مع روسيا. وستطمح روسيا إلى مشاركتها في تطوير واستخراج ونقل النفط والغاز. وفي الوقت نفسه لن يؤدي أي تكامل روسي معها إلى تخليها عن سيادتها لمصلحة موسكو.
وفي الحالات الأخرى مع أرمينيا وقرغيزستان وطاجكستان وأوزبكستان، فإن هذه الدول مهتمة باجتذاب الاستثمارات الروسية وفتح روسيا أسواقها أمام بضائعها وعمالها.
وبالرغم من أن العائلات الحاكمة في الدول الجديدة تفضّل حفظ أموالها في المصارف الغربية، لكن ممثليها لا يستطيعون الاطمئنان إلى أمنهم الشخصي في الغرب، وخصوصاً في حالة فقدهم للسلطة. وبهذا الصدد، تعدّ روسيا ليس فقط دولة مريحة تماماً وبل وملجأً احتياطياً للنخب ما بعد السوفياتية.
وبالنظر إلى وقوع قرغيزستان على تقاطع الطرق في آسيا الوسطى، ستسعى موسكو إلى وضع بيشكيك في تبعية اقتصادية وسياسية وعسكرية لها، ولكن ليس الصين والولايات المتحدة فقط ستنافسانها على ذلك، بل وجارتا قرغيزستان، كازاخستان وأوزبكستان. لكنهما لن تسببا وجع الرأس لموسكو بل التوتر المتواصل الداخلي فيها.
أما طاجكستان، التي كانت زبونة روسيا حتى نهاية التسعينيات، فهي تسعى الآن لاتّباع سياسة متعددة التوجهات. ولا تزال الأوضاع فيها، وستبقى لمدة طويلة، بعيدة عن الاستقرار. وستبقى دوشنبيه بنظر موسكو مخفرها الأمامي أمام تدفق المتشددين الإسلامويين والمخدرات من أفغانستان.
وتسعى موسكو لنشر نفوذها خارج منظمة معاهدة الأمن الجماعي ومنظمة التعاون الاقتصادي الأوراسي. وتعدّ جورجيا ومولدوفا مسرحاً لنشاط السياسة الخارجية الروسية، وسيسعى الكرملين إلى فرض حلول تلائمه للنزاعات المجمدة فيهما. ويعوّل الاستراتيجيون الروس على أن تؤدي التناقضات الداخلية في تبيليسي وكيشينيوف إلى تغيير الأنظمة فيهما، وتعوّل على ذهاب الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي والرئيس فلاديمير فورونين العصيين على التفاهم. كما ستواصل موسكو «مغازلة» أذربيجان وتركمانستان للتوصل إلى ربطهما بالأهداف السياسية والاقتصادية الخارجية الروسية.
إذاً، موسكو ماضية في تطبيق مشروعها الجديد المتعلق بفضاء ما بعد السوفياتي، الذي ظهر قبل ثلاث سنوات، بغضّ النظر عن هزيمة السياسة الروسية النكراء في أوكرانيا عام 2004 وبيلاروس في عام 2006. ومن الواضح أن موارد روسيا في هذا الفضاء لم تنفد بعد، ولا تزال قادرة على منافسة خصومها الرئيسيين: الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي والصين.
ويعتمد هذا المشروع على جاذبية روسيا الاقتصادية والحضارية والثقافية، واستعدادها وقدرتها على القيام بدورها، ليس فقط في استغلال موارد الدول الموالية لها بل وكضامنة للأمن فيها ورائدة في تحديثها.
لكن موسكو لا تريد التقوقع في إطار رابطة الدول المستقلة، ولذلك أسست في عام 2001 مع الصين وكازاخستان وقرغيزستان وطاجكستان وأوزبكستان منظمة شنغهاي للتعاون في مجالات الأمن والطاقة والتكامل الاقتصادي الإقليمي والتبادل الثقافي. وتظهر روسيا اهتماماً واضحاً بهذه المنظمة، التي ولدت في شنغهاي، وتطمح لتكون مركز قوة بديلاً لمجموعة «الثماني» الكبرى ولحلف شمال الأطلسي في الفضاء الأوراسي.
وخلال ست سنوات من وجودها، أصبحت هذه المنظمة تثير اهتمام دول أخرى كانت تبحث عن أشكال جديدة للتعاون، مثل الهند وإيران وباكستان ومنغوليا، التي حصلت على العضوية فيها بصفة مراقب. وعبّرت اليابان عن رغبتها بالمشاركة في عمل المنظمة، رغم أن طوكيو لا تبدي عادة رغبة بالمشاركة في أعمال مثل هذه المنظمات. ولذا، يمكن القول إن مستقبل هذه المنظمة واعد.
وتكتسب فكرة رئيس الحكومة الروسية الأسبق يفغيني بريماكوف، التي عبّر عنها في عام 1999 حول إنشاء «مثلث جيو سياسي» بين روسيا والهند والصين، تجسيدها الواضح من خلال آليات المنظمة. وستكتسب بعداً آخر في حال منح العضوية الكاملة لإيران، وهو الأمر الذي لا يستبعده المراقبون في المستقبل.