• هذا ما جنته يدا الاحتلال
  • معضلة الجيش العراقي بين الاحتلال... والمقاومة

  • هكذا ائتلف عراقيّو ما بعد صدام

  • مصنع الأكاذيب


    في البدء كان الغزو
    إيلي شلهوب

    يطفئ العراق اليوم شمعة رابعة، مضرجة بدماء عشرات آلاف العراقيين، إيذاناً بدخوله عامه الخامس تحت الاحتلال. ذكرى لم يعد هناك أي مجال للتشكيك في مدى مأساويتها. نحيب الأمهات الثكالى والأرامل ودموع الأطفال أصدق تعبير عن سوداوية المناسبة.
    أما العرب، فيفترض أنهم يحيون اليوم الذكرى الرابعة لـ«النكبة الثانية». نكبة أسهم البعض منهم في حصولها، عن سابق تصور وتصميم. بل إنه أسهم في التخطيط لها وضغط باتجاه الإسراع في تنفيذها. بعض لا بد من أنه يعض يديه ندماً... لكن ليس على العراق وأهله.
    في مثل هذا اليوم من عام 2003، حلقت قاذفات أميركية في سماء بغداد. أطلقت حممها على أحيائها الآمنة، معلنة بدء الغزو. العدوان سبقته سنوات من التخطيط والاستعداد. بني على مجموعة من الأكاذيب والمعلومات الملفقة. كانت الغاية منها حشد تأييد دولي له، وإضفاء الشرعية والمشروعية عليه. لم تفلح المحاولات. انقسم العالم. نزل الملايين إلى الشوارع احتجاجاً... لكن جورج بوش مضى في سبيله.
    أرادها معركة بين «الخير والشر». شنّها تحت عنوان «تحرير العراق». أرفقها بوعود ليس أقلها «الديموقراطية» و«الازدهار» و«الرفاه». قال إن هذا البلد سيكون «نموذجاً» للشرق الأوسط.
    أربع سنوات على «الوعد الكاذب»: حرب أهلية. انقسام مذهبي تجاوز الحقد إلى الذبح على الهوية. فلتان أمني شرع الأبواب للمجرمين والسارقين، الذين انتظموا في «مافيات» لم تترك ميداناً إلا عاثت فيه نهباً وخراباً. لا دولة بالمعنى المؤسساتي للكلمة. فساد وهدر واختلاسات. قوى أمنية مستهدفة أكثر من الأميركيين أنفسهم...
    تفجيرات وقنص وتصفية واغتصاب. اعتقالات بالجملة وتعذيب وتنكيل وتهجير. كلها أمور ألفها العراقيون. باتت خبزهم اليومي. ما عادوا يأمنون على أنفسهم حتى في منازلهم. لا غرابة في أن بعضاً منهم بدأ يحن إلى «عهد الدكتاتورية».
    أُطلقت «عملية سياسية»، أرادها الاحتلال مساراً لقيام «ديموقراطية» يقنّع بها وجوده. انقسم العراقيون طوائف وأعراقاً. سعى كل منهم إلى قضم ما يستطيع من تركة النظام السابق. راهن من عاد إلى السلطة عبر الدبابة الأميركية على حظوته لدى المحتل. نال الأكراد دويلتهم في الشمال. والشيعة يطالبون بترتيبات مشابهة في الجنوب. باتت البلاد قاب قوسين من التقسيم، ولو على شكل «فدرالية».
    طفت خلافات إلى السطح لم يتمكن العراقيون من إيجاد حل لها. أرجأوا بتها في انتظار «مصالحة» لم تتم، رغم محاولات عديدة نجح البعض منها في استقطاب عدد من الأحزاب والعشائر، ممن كانت خارج العملية السياسية. قضايا إشكالية عديدة لا تزال عالقة، أصغرها يهدد بتفجير البلاد: كركوك والفدرالية وتوزيع الثروة، النفطية خصوصاً.
    أدركت الإدارة الأميركية خطأ إزالة الجدار «الصدامي» من أمام طهران. اقتنعت على ما يبدو بأن الحليف الشيعي حليف ظرفي سرعان ما سينقلب عليها كلما ازداد توتر علاقاتها مع طهران. تصاعدت حدة الشكاوى العربية من تزايد النفوذ الإيراني في العراق والمنطقة، فكانت جهود أميركية، لم تحقق نجاحات تذكر، لإعادة الاعتبار للسنة وإعطائهم حصة أكبر في النظام الجديد.
    بات واضحاً أن العراق تحول إلى ساحة مواجهة مباشرة مع الأميركيين في المنطقة والعالم. بل أصبح المصيدة التي حلم بها كل من له ثأر مع العملاق الأميركي: مخلفات نظام صدام، من جيش حله المحتل وبعث عمل على اجتثاثه، وتنظيم القاعدة والسلفيين والتكفيريين... وحتى سوريا وإيران، رغم نفيهما.
    مواجهة لم تكن يوماً معزولة عن باقي معارك المنطقة، الدبلوماسية منها والعسكرية. جزء من الصراع بين معسكر «المعتدلين»، الذي تتزعمه واشنطن وتل أبيب، ومعسكر الممانعة، الذي يضم كل رافضي مشروع الهيمنة الأميركية. معركة تجاوزت تداعياتها الوضع في الميدان إلى الداخل الأميركي نفسه، وكانت نتائج انتخابات الكونغرس الأخيرة أبهى تعبيراتها. كان للمقاومة العراقية، التي امتدت من وسط البلاد إلى جنوبها، كبير الأثر في هذا التحول، بشهادة عدد قتلى الاحتلال الذين تجاوزوا ثلاثة آلاف قتيل وآلاف الجرحى.
    أربع سنوات كانت كافية لقلب موازين وتعديل تحالفات وتغيير معادلات وإعادة خلط أوراق في العراق... والمنطقة؛ ملفات كثيرة لسنا في وارد الخوض فيها. نكتفي بمحاولة متواضعة لتلمس حال العراقيين في الذكرى الرابعة للغزو، واستعادة بعض الأكاذيب التي مهّدت له، في سلسلة من التقارير، معظمها من بغداد وواشنطن.



    عندما انهارت المقاومة أمام الغزاة

    بغداد ــ الأخبار
    مع حلول فجر العشرين من آذار عام 2003، أي بعد انقضاء 90 دقيقة على المهلة التي أعطاها الرئيس الأميركي جورج بوش لصدام حسين وابنيه لمغادرة العراق، سُمع دويّ انفجارات في بغداد. بعدها بـ45 دقيقة، أعلن بوش أنّه أصدر أوامره بتوجيه «ضربة الفرصة»، التي عُلم في ما بعد أنّها استهدفت منزلاً كان يُعتقد أن صدّام ينزل فيه. وكانت تلك الضربة العسكريّة الأولى التي فتحت الباب على مصراعيه لاحتلال العراق وتدشين حمّام الدم خلال الغزو وحتّى يومنا هذا. وعلى وقعها وجّه صدّام نداءً الى الشعب العراقي والقوّات المسلّحة «للتصدي لهذا الهجوم الغادر».
    «ائتلاف الراغبين»، تسمية ارتأى بوش وحلفاؤه إطلاقها على ما أصبح يُعرف بـ«التحالف»، والذي انطلق بقوّة عسكريّة قوامها 300 ألف و 884 جندياً، شكّل الأميركيّون والبريطانيّون نسبة 98 في المئة منها، نحو احتلال العراق.
    ومنذ اندلاعها، أُطلقت على الحرب تسميات عديدة منها «الغزو الأميركي للعراق» و«حرب العراق» و«احتلال العراق» وحتّى «حرب الخليج الثالثة». وفيما فضّل مناهضوها تسمية «حرب بوش»، أطلق عليها النظام البعثي المستهدف تسمية «معركة الحواسم».
    تبريرات الحرب
    قدّمت إدارة بوش مجموعة من التبريرات لإقناع الشارع الأميركي والرأي العام العالمي بشرعية الحرب. ومنها استمرار حكومة صدّام في عدم تطبيقها قرارات الأمم المتحدة المتعلّقة بالسماح للجان تفتيش الأسلحة بمزاولة أعمالها في العراق، واستمرارها في تصنيع وامتلاك أسلحة دمار شامل، إضافةً إلى عدم تعاونها في تطبيق 19 قراراً للأمم المتحدة بشأن إعطاء بيانات كاملة عن ترسانتها من أسلحة الدمار الشامل. أسلحة لم يُعثر على أيّ أثر لها حتّى يومنا هذا.
    وأرفقت الإدارة الأميركيّة باقة الاتّهامات بربط نظام صدّام حسين بتنظيم «القاعدة»، إلى جانب «علاقته بمنظمات إرهابية أخرى تشكّل خطراً على أمن العالم واستقراره» على حدّ تعبير البيت الأبيض.
    الصدمة والترويع
    بدأت قوّات «التحالف» بالحملتين البريّة والجوية في آن واحد، وبصورة سريعة جداً، في عمليّة أُطلق عليها تسمية «الصدمة والترويع». وكان الاعتقاد السائد لدى الجيش الأميركي يقوم على مقولة مفادها أنّ استهداف القيادة العراقية والقضاء عليها سيؤدّي حتماً إلى انضمام الشعب العراقي للحملة وسيتم تحقيق الهدف بأقل الخسائر الممكنة. حاصرت القوّات البريطانية مدينة البصرة، جنوب العراق، أسبوعين، قبل أن تستطيع اقتحامها. كانت تعتقد بأن «الحصار كفيل بإضعاف معنويّات الجيش وفدائيّي صدام، ما سيؤدي في نهاية الأمر إلى حدوث انتفاضة لسكان المدينة».
    واستطاع الجنود البريطانيّون اقتحام المدينة بعد معركة عنيفة بالدبّابات، اعتُبرت أعنف معركة خاضتها القوات المدرّعة البريطانية منذ الحرب العالمية الثانية. وتمّت السيطرة على البصرة في 27 آذار بعد تدمير 14 دبابة عراقية.
    دخول بغداد
    بعد ثلاثة أسابيع من الحرب، بدأت القوّات الأميركيّة تحرّكها نحو بغداد. وكان التوقّع الأوّلي مبنيّاً على قيام قوّات المدرّعات الأميركيّة بحصار بغداد ونشوب حرب شوارع فيها بإسناد من القوّة الجويّة.
    في 5 نيسان 2003، شنّت مجموعة من الآليّات العسكريّة، تضمّ 29 دبابة و14 مدرّعة من نوع برادلي، هجوماً على مطار بغداد الدولي. هجوم قوبل بمقاومة شديدة من وحدات في الجيش العراقي، إلى جانب عدد من العمليّات الانتحارية.
    واستمرّت المواجهات حتّى 7 نيسان 2003، حين شنّت قوّة مدرّعة أخرى هجوماً على القصر الجمهوري واستطاعت أن تثبت موطئ قدم لها في القصر. وبعد ساعات، حدث انهيار كامل لمقاومة الجيش العراقي لأسباب غير معروفة، في ظلّ إفادة شائعات بأنّ قيادات الجيش الأميركي تمكّنت من إبرام صفقات مع بعض قادة الجيش العراقي، وتحديداً «الحرس الجمهوري»، الذي اضمحلّ فجأة بعد أن كان الجميع يتوقّعون معارك عنيفة في شوارع بغداد.
    وفي 9 نيسان 2003، اليوم الذي شهد سقوط النظام البعثي، أعلنت قوّات «التحالف» بسط سيطرتها على معظم المناطق العراقيّة، ونقلت وسائل الإعلام مشاهد تصوّر حشداً صغيراً يحاول إطاحة تمثال صدّام في ساحة الفردوس وسط بغداد، بمساعدة ناقلة دبّابات أميركيّة، ووضع المارينز علم الولايات المتّحدة على وجه التمثال، واستبدل بعدها بعلم عراقي.



    هذا ما جنته يدا الاحتلال

    بغداد ـ الأخبار
    أربع سنوات مرت على غزو العراق، والاوضاع السياسية والامنية والاقتصادية لا تزال كلها في حالة حرب، بل اكثر، لأن النزاعات تتطور من سيّئ الى أسوأ، وكل الاحتمالات واردة في الحلول المستقبلية المطروحة من مختلف الجهات، مع اختلاف الرؤية، بين التعامل مع الاحتلال كأمر واقع، وبين رفضه كلياً، لأنه سبّب تشويه بنية الشعب العراقي وتمزيقها.. ولكن ما السبيل الى إعادة هذه البنية؟
    يقول الباحث الاجتماعي الدكتور صافن حبيب الوردي إن «الحياة السياسية في العراق، عجيبة وغريبة، ومليئة بالمتناقضات والمترادفات، ومعطياتها لا تقتصر على الفئات السياسية، التي ينظر إليها الشارع وفي عيونه الكثير من علامات التعجب والاستفهام، وخاصة أن معظم تلك الفئات حديثة العهد بأبجديات السياسة، بل إن بعض البرلمانيين على سبيل المثال تم اختيارهم لإكمال عدد في قائمة ما، أو لأنهم من أقرباء رئيس القائمة أو أحد المسؤولين فيها.. حتى إن هناك وزراء ما زالوا على مقاعد الدراسة، لم يعلموا بتوزيرهم إلا من خلال أجهزة الاعلام». وأضاف «لذا يجد رجل الشارع أن استحقاقه السياسي أعلى من معظم اولئك الذين يمثلونه.. وأمام هذا الارتباك السياسي والمصلحي، تختلط المفاهيم، وينقلب بعضها رأساً على عقب، فيصبح الاحتلال ـ مثلاً ـ تحريراً، ويصبح الجاسوس بطلاً قومياً أو طائفياً، ويصبح الإرهابي مقاوماً، والمقاوم الوطني إرهابياً».
    وتابع الوردي «إذ نحن على أعتاب الذكرى الرابعة للغزو.. لا بدّ أن نستذكر، وأن نلامس بعض اوراق اللعب في الوطن المغدور.. بعض الاوراق التي انكشفت، والبعض الآخر الذي ينتظر، والقول الفصل للشارع وليس لغيره، لأنه المعني والمستهدف اولاً وأخيراً.. وفي هذا السياق، نجد ان القوى المختلفة تفتقد المرونة، ولا تزال نظرتها أحادية الجانب بتطرف.. ولكي لا نتشعب، يمكن أن القول إن هناك فريقين، أحدهما يؤمن بإنهاء الاحتلال وتحقيق الديموقراطية سلمياً ودبلوماسياً، والآخر يرى عدم وجود إمكانية لإنهاء الاحتلال إلا بالمقاومة المسلحة، وأنه لا ديموقراطية مع وجود الاحتلال».
    وأوضح الوردي «في رأيي، أن كلا الطرفين له حرية الاعتقاد، غير ان ما يحصل على ارض الواقع هو ان كلا الطرفين يحاول احدهما ان يسحق الآخر، حتى وإن كانا يسعيان الى الهدف نفسه، وهذا ناتج عن ضعف الوعي السياسي، وعدم محاولة فهم الآخر، إضافة الى عامل مهم آخر، هو ان الاحتلال يريد ديمومة هذه الحالة وترسيخها، من خلال فريق ثالث كامل الولاء للمحتل».
    لعنة بريمر
    وفي رأي الكاتب والصحافي أحمد عبد السلام، فإن «بذرة التطرف زرعتها الادارة الاميركية وأتباع الاحتلال، الذين اعتمدهم الحاكم المدني بول بريمر، حيث تسلّم الادارة ومعه مجموعات من المتعاقدين.. وهؤلاء يطبقون النظرية التي يعتمدها الرئيس الاميركي جورج بوش: من ليس معي فهو ضدي». وأضاف «وهكذا، بدأ الانقسام بين عراقيي الداخل والعراقيين القادمين من الخارج لاحتلال المناصب الحكومية، والذين تعاملوا باستعلاء مع الشعب العراقي».
    وأوضح عبد السلام «بدأت بذرة الانشقاق عندما ادعى هؤلاء أنهم جاؤوا لتحقيق الديموقراطية، وأن كل من يعترض على هذه الديموقراطية، والاساليب المتبعة فيها هو صدّامي.. وتكفيري. والانكى من ذلك، هو ما حصل من تهديم لمؤسسات الدولة، وخاصة المؤسسات العسكرية، وما تبع ذلك من انتقال ترسانات الاسلحة المختلفة والاعتدة الى البيع على الارصفة». وأضاف أن «المسؤولين الآن يتهمون جهات خارجية بتسريب السلاح الى العراق، لكنهم لم يسألوا حتى انفسهم أين ذهبت ترسانات خامس اقوى جيش في العالم».
    وتابع عبد السلام «أنا، كشاهد عيان، رأيت العجب. إن سعر الكلاشنكوف مثلاً بلغ ما يعادل دولارين، وسعر الطن من مادة الـ«تي ان تي» الشديدة الانفجار بلغ عشرة دولارات، وهكذا أسعار بقية الاسلحة والاعتدة.. فلماذا سعت قوات الاحتلال الى هذا النشر الواسع للأسلحة والأعتدة إن لم تكن قد خططت مسبقاً لإشعال حرب أهلية، او على الاقل إلهاء الناس عن واقع تهديم البنى التحتية من اجل رسم واقع جديد يلغي كل إنجازات القطاع العام؟».
    «فرض القانون»
    وتحل ذكرى «النكبة الثانية»، كما قال الضابط الحقوقي المتقاعد سليم خضير، بينما تنهمك الحكومة بتطبيق ما تسميه «خطة فرض القانون»، التي وضعتها الإدارة الأميركية، وتطبقها بالتعاون مع قوات الحكومة العراقية. يؤكد خضير أن «الشعب العراقي ليس غبياً الى هذا الحد الذي يتصوره القادمون من وراء الحدود وأبعد منها. ماذا يعني فرض القانون؟ إن القانون الدولي يعتبر الاحتلال خارجاً على القانون، ويجب أن يحاسب القائمون به والمتعاونون معه دولياً ومحلياً». ويضيف أن «القانون العراقي الساري حتى الآن يعتبر المتعاونين مع الأجنبي خونة، ويجب تقديمهم الى العدالة.. هذا هو القانون، فلماذا لا يطبقه أولئك الذين اختاروا هذا الاسم للخطة الأمنية على أنفسهم؟». وتابع «هذه من أولى أبجديات السياسة، التي لا يستوعبها بعض الساسة الجدد في العراق، الذين ما انفكوا يتحدثون عن مصالحة وطنية، يعرفون أنهم لن يكونوا طرفاً فيها في المستقبل». لكن السياسي المستقل ن.ح يعترض على هذا الرأي قائلاً إن «العيب هنا هو التطرف المبالغ فيه، وهو بالتأكيد ليس صناعة عراقية، لأن الشعب في العراق ودود ومتآلف ومتسامح عبر تاريخه الطويل، وإن كانت هناك غشاوة الآن، فهي لن تستمر طويلاً». ويضيف أن «الناس أخذوا يدركون مدى الخراب الذي سبّبه الاحتلال، بل حتى أنصار الاحتلال لم يعودوا يبحثون عن التبريرات له أمام الواقع المأساوي الذي يعيشه الشعب».
    ويتساءل السياسي نفسه «هل يُعقل أن بلد النفط يعاني أزمة محروقات تتفاقم منذ أربع سنوات، ويشتري المشتقات النفطية بمليارات الدولارات، فيما يعلم الجميع أن أيّاً من المنشآت النفطية لم تضرب إبّان الغزو؟». ويوضح أنه «في حرب الخليج الاولى، دمّر القصف الهمجي الاميركي كل منشآت النفط والكهرباء، لكنها استعادت قدراتها رغم الحصار الذي كان مفروضاً آنذاك.. والان يعيش العراقيون بلا كهرباء، ولا وقود، ولا خدمات».
    ويشدد المصدر نفسه على أن «واقع الحال كشف النوايا المبيتة، وهي تعطيل البنى التحتية، لتسليمها الى مشروع الخصخصة الشاملة، وبما يخدم الشركات الكبرى لقوى الاحتلال والمنتفعين منها، ولعل مشروع قانون استثمار النفط والغاز خير دليل على ذلك.. إن مشاريع النهب هذه يجب أن تكون مشاريع توحيد للشعب الذي أخذ يدرك الحقيقة».
    ويوضح السياسي العراق المستقل، أنه «في كل مرة، يطلع علينا ممثلو الاحتلال بمبررات اصبحت ممجوجة، وهي أن المنشآت الحيوية تتعرض للتخريب والإرهاب. في الحقيقة، هناك شيء من الصحة لهذه الادعاءات، لكن الجهات التنفيذية هي من داخل قوى الاحتلال.. وإذا صدق قولهم بأنهم لا يستطيعون حماية البنى التحتية، فليقروا بذلك، وليرحلوا، ما داموا عاجزين، لعل غيرهم يستطيع تأمين حياة افضل للمواطنين».
    خداع الأرقام
    ولاحظت الحقوقية أسماء بدر أن الإدارة الأميركية عندما أقدمت على غزو العراق، كان في حسابها أنها لن تجد مقاومة تذكر، بسبب ضعف التأييد الشعبي لنظام الرئيس صدام حسين آنذاك، اضافة الى أنها رسمت صورة وردية لما سيكون عليه الوضع بعد انتهاء «الحقبة الدكتاتورية».
    وأضافت بدر أن الإدارة نفسها سرعان ما كشفت زيف «الديموقراطية» التي أتت بها على الدبابة، وأن كل وعودها مجرد فقاقيع، لم يستطع سيل الصحف والاجهزة الاعلامية الاخرى المموّلة تغطيتها، حيث إن العراقيين لمسوا جيداً أن هذه الديموقراطية تعني: قل ما تريد ونريد.. ونحن نفعل ما نريد، ولتضرب رأسك بألف حائط».
    وقالت بدر «شاهدت أكواماً من العرائض والشكاوى تقدم الى الجهات المسؤولة، ولكن لم يكن هناك حتى من يقرأها.. حتى استقر الرأي على أن أميركا تجيد الهدم وتفتقد أية قدرة على البناء.. وفي الحقيقة، انها حتى لو رغبت في البناء، فهي تريد تطبيق التجربة الأميركية التي ترسخت عبر قرون ـ وفي رأيي أنها ما زالت هشة ـ، فكيف يمكن ان تطبق هذه التجربة في العراق الذي اعتاد طرزاً ملائمة لبيئته من الحياة الاجتماعية والاقتصادية؟
    وأضافت بدر ان «مساوئ الأميركيين ومن معهم جعلت الناس يحنّون الى ايام النظام السابق، حيث الامان وتوافر الخدمات، بل وحتى العيش الرغيد قبل فرض الحصار.. صحيح أن صدام حسين كان شديد القسوة تجاه معارضيه، لكنه لم يكن مؤذياً لعموم الشعب كما يحصل الآن من أعمال قتل واعتقالات بالجملة وتشريد، طالت الملايين».
    وتابعت بدر «سمعت كثيرين يقولون إن صدام حسين، إذا كان شديداً تجاه معارضيه من أمثال هؤلاء الذين أتوا مع الدبابة الاميركية، فقد كان على حق.. وهناك من يقولون إن أميركا أساءت التقدير باختيارها أصدقاء وحلفاء سيئين، وأنا أقول إنها اختارت الاصدقاء السيئين لأنها سيئة في الأساس، ولا يمكن شعب العراق أن ينسى الويلات التي عاناها جراء الحصار، وحملات الإبادة التي كانت من أبشعها مجزرة ملجأ العامرية».
    درس المقاومة
    وعلى الرغم من الحقيقة المرة التي يعيشها الشعب في العراق، يرى العميد المتقاعد سهيل الصعب، وهو «من الجيش السابق»، أن الولايات المتحدة كانت قبل غزو العراق أشبه بـ«مريض الوهم»، أما الآن فهي «مريض الحقيقة»، حيث «اثبتت التجربة العراقية أن كل قوة اميركا التدميرية لا تستطيع تحقيق انتصار على الارض، ولو في جزء بسيط.. وهذه الحقيقة تنطبق على إسرائيل أيضاً، التي منيت بهزيمة فلّوجية في جنوب لبنان».
    وقال صعب إن «اميركا لم تنتصر في حرب العراق، لأنها لم تستطع حتى الآن إيجاد موطئ قدم ثابت لها على الارض، وهي الآن تحاول مداراة خيبتها بحلول ترقيعية، مستفيدة من الصراعات الفئوية التي تغذيها، لكن الصحيح هو الذي يصح في الاخير، عندما تتوحد الإرادة الرافضة للاحتلال، سلمياً وعسكرياً، وآنذاك، تعود المنطقة الخضراء، خضراء بالفعل، لا بالكتل الاسمنتية التي تغطيها الآن».



    معتقلات تحاكي سجون صدام
    لم يتغير وضع حقوق الإنسان في العراق ما بعد الاحتلال الذي وعد العراقيين بالديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان؛ فقد بقيت المعتقلات تستقبل آلاف العراقين، من الذكور والإناث، الذين يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب والممارسات العنيفة، التي عادت بالذاكرة الى سنوات حكم حزب البعث بقيادة الرئيس الراحل صدام حسين.
    وفي آخر حصيلة لعدد المعتقلين في السجون والمعتقلات العراقية، التابعة منها للاحتلال وتلك التي تقع تحت إمرة السلطات العراقية، كشفت وزارة العدل أن عدد المعتقلين والموقوفين بلغ ما يقارب 17 ألف معتقل في جميع السجون العراقية. لكن التقارير غير الرسمية تشير إلى أن أعداد السجناء أكبر من ذلك بكثير. وتحتجز قوات الاحتلال الاميركي، المعتقلين العراقيين في ثلاث منشآت رئيسة وهي سجن أبو غريب ومعسكر بوكا ومعسكر كروبر، إضافة إلى سجون ميدانية مؤقتة.
    ومن بين السجون الميدانية المؤقتة غير المشهورة، سجن يسميه بعض العراقيين “الديسكو”، في مدينة الموصل شمال العراق، لأن الجنود الأميركيين، يرفعون صوت الموسيقى الصاخبة ويرغمون المعتقلين على الرقص.
    ويوجد في العراق 26 سجناً أميركياً رئيسياً على شاكلة سجن أبو غريب، تديرها شركات “تاتنيك” و“كابيس”. وتأخذ هذه السجون كمقاولة وتنتزع المعلومات من السجناء وتقدمها إلى الاستخبارات الأميركية.
    وهاتان الشركتان مملوكتان من شخص يهودي بولوني اسمه إسرائيل، ويتقاضون عن كل سجين 25 دولاراً. وهناك أيضاً 76 سجناً في 76 قاعدة رئيسية للاحتلال.
    وحالياً هناك 150 سجناً تديرها ميليشيات الأحزاب العاملة في السلطة والمدعومة من الاحتلال، وتستخدم فيها شتى أنواع التعذيب من الصعق الكهربائي إلى الحقن بمواد كيماوية.
    وأبرز المعتقلات الآن:
    معتقل أبو غريب: الذي يقع على بعد 32 كيلومتراً غربي بغداد، وهو الذي اشتهر إبان عهد صدام بممارسات التعذيب والتصفية بحق السجناء السياسيين.
    وصُدم العالم في عام 2004، عندما نشرت صور تظهر جنوداً أميركيين يقومون بالإساءة الى معتقلين وإذلالهم جنسياً في المعتقل، الذي يضم بين 4 آلاف و4500 معتقل . معسكر بوكا: أقامت القوات الأميركية معسكر اعتقال “بوكا” في جنوب العراق بعد فترة قصيرة من الغزو الأميركي في آذار 2003، لإيواء الأسرى من القوات العراقية في المراحل المبكرة من الحرب. ويوجد في «بوكا»، ما بين 8 و9 آلاف معتقل.. وهذا السجن عبارة عن معسكر جيش قديم أصبح معتقلاً كبيراً. ويقع في منطقة صحراوية في محافظة البصرة الجنوبية، حيث الحرارة مرتفعة جداً. وكان أحدث فصل في مسلسل انتهاكات وخروقات حقوق الإنسان التي ما زال يشهدها العراق، اكتشاف القوات الأميركية نحو 175 معتقلاً في ظروف صحية مزرية في مركز اعتقال تابع لوزارة الداخلية العراقية في ضاحية الجادرية جنوب بغداد في 13 تشرين الثاني 2005.
    م. ع.




    فقر وبطالة... ونهب وفساد

    بغداد ـ الأخبار
    أظهر تأثير الانفلات الأمني على الاقتصاد العراقي منذ الغزو الاميركي للعراق مدى صعوبة المهمة التي تواجه المسؤولين العراقيين وقوة الاحتلال والمجتمع الدولي، في تحسين الوضع الاقتصادي للبلاد.
    ومع ان واشنطن حاولت بطرق مختلفة تنفيذ مشاريع متنوعة في بلاد الرافدين لتعزيز اقتصاده المنهار، إلا أن عدم استطاعة قواتها البالغة 150 الف جندي ضبط الامن أدى الى فشل الخطط الموضوعة لإعمار البلاد.
    وبعد سقوط نظام صدام حسين، عمل الساسة الجدد على «تحويل الاقتصاد من اقتصاد موجه الى اقتصاد يعتمد على عوامل السوق، وإفساح المجال أمام الاستثمار وتعزيز وتصعيد النشاطات الاقتصادية للقطاع الخاص لكي تسهم في تقليص البطالة وزيادة النمو الاقتصادي وتحسين الحالة الاقتصادية وزيادة دخل الاسرة، والعمل على زيادة قدرتها على الاستثمار والادخار».
    لكن النتائج لم تكن في مستوى ما كانوا يطمحون إليه، إذ تراجع معدل دخل الفرد في العراق من 3600 دولار أميركي عام 1980 إلى ما بين 770 و1020 دولاراً بحلول عام 2001 والى ما بين 450 و610 دولارات بنهاية عام 2003 «بعد أشهر من الحرب».
    وتمثل البطالة المتفشية أكبر مشكلة تواجه الاقتصاد العراقي. إذ تفيد تقديرات بأن نسبة 50 في المئة من عدد السكان عاطلة من العمل تماماً أو هي تعمل في وظائف دون دوام كامل.
    وبعد سقوط النظام السابق، ظهرت اتجاهات لتخصيص العديد من المؤسسات الحكومية، لكن البنك الدولي حذر من الاستعجال في إغلاق المؤسسات الحكومية البالغ عددها 192 مؤسسة ودعا إلى ضرورة إبقائها مفتوحة «لتجنيب موظفيها الالتحاق بصفوف العاطلين وحفظ الاستقرار الاجتماعي»، قبل أن تكون جاهزة للتخصيص في غضون أربع أو خمس سنوات.
    غير ان البنك الدولي وصندوق النقد الدولي أخذا يضغطان منذ أشهر على الحكومة لرفع أسعار المشتقات النفطية بما يوازي أسعارها في الدول المجاورة كشرط للحصول على قروض. وقد بدأت الحكومة بالفعل بخطوة أولى هي زيادة أسعار المشتقات النفطية بنسبة تزيد على ثلاثة أضعاف.
    ويشكل الإنتاج النفطي مفتاح الاقتصاد العراقي وعصبه، غير أن نموه يعتمد أساساً على استعادة الأمن واستئناف الخدمة في كامل المرافق الأساسية وتوسيع الإنتاج النفطي.
    ويشكل القطاع النفطي أيضاً المصدر الرئيسي لعائدات الحكومة. وتفترض الميزانية العراقية ارتفاع حجم الإنتاج إلى 3 ملايين برميل يومياً مع بقاء الاسعار المرتفعة للنفط على ما هي عليه الآن أي نحو 60 دولاراً للبرميل.
    إلا أن مجمل حجم عائدات النفط تقريباً يغطي تكاليف دفع الرواتب والمعونات، ثم إن هناك مخاوف على نطاق واسع من انعدام أي خطط لاستعادة الإنتاج في آبار النفط وتطويرها، وهي الآبار التي تحتوي على ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم.
    وخلال الاعوام الماضية، كانت خطط إعادة الإعمار تسير بخطى بطيئة، وكانت هناك مشاكل أمام استيعاب الأموال التي أعلن المجتمع الدولي تقديمها للعراق لإعادة الإعمار.
    وبضغط اميركي واضح، عقدت حكومات الدول المانحة ووكالات دولية مؤتمراً في مدريد في تشرين الاول 2003 لبحث المساهمات المالية لإعادة إعمار العراق. ورغم ان هذه الدول تعهدت بمنح العراق مساعدات تزيد على 32 مليار دولار، لم تشهد الفترة التي مضت منذ مؤتمر مدريد تقديم مبالغ ذات اهمية من تلك المليارات. ويقول مسؤولون في وزارة التخطيط العراقية ان العراق حصل من هذه التعهدات على مساعدات تقدر بخمسة مليارات فقط، بينما وجهت ثلاثة مليارات أخرى للمشروعات الأمنية.
    وواجهت العراق فضائح خطيرة تتعلق بالفساد في ما يتعلق بالطريقة التي تدير بها الولايات المتحدة شؤون إدارة النفط العراقي. وقد انتقدتها الأمم المتحدة. ومن الانتقادات التي وجهت الى واشنطن ما يتعلق بشركة «هاليبرتون»، التي كانت في السابق تحت إدارة نائب الرئيس الاميركي ديك تشيني، أنها حصلت على عقود إعمار عراقية بمليارات الدولارات من دون عرضها للمنافسة التجارية.
    وكانت هيئة تابعة لمجلس الامن الدولي قد وجهت تهماً لـ«سلطة الائتلاف المؤقتة»، التي حكمت العراق بعد الغزو، بالإهمال والتسبّب بهدر مليارات الدولارات من الأموال العراقية المحصلة من بيع النفط العراقي، والتقاعس في مكافحة الفساد الذي شاب تلك العملية.



    معضلة الجيش العراقي بين الاحتلال... والمقاومة
    بغداد ـ الأخبار
    بعد مرور أربعة أعوام على بدء الحرب الاميركية على العراق، لا يزال الناس هنا يتساءلون عن مصير الجيش الذي كانت الولايات المتحدة تعده «خامس اقوى جيش في العالم».
    ويستذكر العراقيون كيف قاتل الجيش العراقي بضراوة في مدينة صغيرة هي أم قصر أكثر من اسبوعين، بينما انهار الجيش في العاصمة بغداد، حيث بلغت القوات الاميركية مشارفها بعد يومين فقط من بدء الغزو.
    وخلال الاعوام الاربعة الماضية، ظهرت الكثير من النظريات عن اندحار الجيش العراقي، منها أن السبب يعود الى خيانة بين كبار المسؤولين في قيادته. غير أن البعض، مثل الضابط المتقاعد حالياً سمير علي، يقول «إن الرئيس صدام حسين كان قد أيقن خسارته للحرب مع الولايات المتحدة، ولذلك وضع خطة تقوم على المقاومة بعد الاحتلال وهو ما يحصل فعلاً الآن».
    ويضيف علي ان صدام «امر بخزن الكثير من الاسلحة والاموال في اماكن متفرقة من العراق، ووزع الادوار بين ضباط الحرس الخاص، الذي كان يعتمد عليه في حمايته، ومن المعتقد ان هؤلاء يشكلون اهم فصيل في المقاومة المسلحة، لكن لا تربطه أي علاقة بالجماعات الاسلامية التي تشن الحرب على القوات الاميركية من وجهة نظر إسلامية».
    ويرى الكثير من العراقيين ان القرار الذي اصدره الحاكم الأميركي السابق للعراق، بول بريمر، بعد الغزو مباشرة بحل الجيش العراقي وقوات الامن والشرطة، قد قدم على طبق من ذهب الدعم لتلك المقاومة، إذ وجد كبار الضباط العراقيين انهم قد أهينت كرامتهم وأغلقت سبل العيش في وجوههم، فانخرط العديد منهم في صفوفها، أو كوّن فصائل تقوم بعمليات لا علاقة لها بالفصائل الاخرى.
    وقد ساعد على تنامي قوة المقاومة التخبط الذي ساد إدارة قوات الاحتلال، والفساد في إنفاق الاموال على مشاريع ثبت في ما بعد، حسب التقارير الاميركية، أن بعضها مشاريع وهمية، ما ادى الى زيادة النقمة على قوات الاحتلال. ثم جاءت أنباء فضائح تعذيب المعتقلين العراقيين التي أدت الى كره شديد للقوات المحتلة، والقبول بما تقوم به المقاومة من عمليات ضدها.
    وقد حاولت القيادة الاميركية العدول عن قرار حل الجيش بإجراءات بطيئة، إذ أعادت تشكيل وزارة الدفاع وقررت صرف رواتب للضباط والجنود وقوى الامن، ثم دعت بعض الراغبين منهم الى الانخراط في الجيش العراقي الجديد.
    وبعد الخسائر التي تكبدتها القوات الاميركية خلال الاعوام الماضية، والتي تجاوزت، بحسب المصادر الاميركية، 3000 قتيل وعشرات آلاف من الجرحى، فقد أخذ الاميركيون يفكرون بتقوية الجيش العراقي ليحل محل القوات الاميركية، التي تسعى إلى الانسحاب من الشوارع والمدن الى قواعد ثابتة، وترك العراقيين يواجه بعضهم بعضاً في ما يسمى «عرقنة الحرب» على غرار فتنمة الحرب في فيتنام.
    وأنفقت الادارة الاميركية أموالاً طائلة لتطوير قوات الامن العراقية وتمويل العمليات العسكرية.
    وقال الرئيس الأميركي جورج بوش، في إحدى رسائله الى الكونغرس، إن «هذه الاموال تدعم القوات المسلحة الاميركية، وشريكاتها في قوات التحالف، في عملها لدفع الديموقراطية قدماً ومحاربة الارهاب والمتمردين وتدريب وتجهيز قوات الامن العراقية، لتتمكن من الدفاع عن سيادة البلد وحريته».
    ويعترف الاميركيون بأن جنودهم ليسوا راغبين في البقاء في العراق، بعدما تكبدوا خسائر كبيرة، لكنهم يقرون في الوقت نفسه بأن بناء الجيش العراقي الجديد يواجه مصاعب بسبب المخاطر التي تواجه منتسبيه، بعدما ركزت الجماعات المسلحة ضرباتها عليهم وعلى منتسبي الشرطة بتهمة التعاون مع الاميركيين.
    وكان مدير جهاز الاستخبارات العراقية اللواء محمد عبد الله الشهواني قد قدّر عدد مقاتلي حركات المقاومة العراقية ومناصريها بأكثر من 200 ألف، راسماً بذلك صورة «قاتمة» عن الوضع الأمني في العراق.
    وقال الشهواني «أعتقد أن عدد المقاومين يفوق عدد العسكريين في العراق.. أظن أن المقاومة تضم أكثر من مئتي ألف شخص».
    ومن المستحيل بحسب خبراء عسكريين تحديد عدد المقاومين، غير أنهم يرون أن الرقم الذي أعلنه الشهواني «معقول».
    وفي مواجهة وضع كهذا، اقتنعت حكومة نوري المالكي بضرورة إعادة استقطاب منتسبي الجيش العراقي السابق، وخاصة الضباط منهم، رغم المعارضة الكبيرة في صفوف المنضوين تحت لواء العملية السياسية، الذين تتمسك غالبيتهم بقانون «اجتثاث البعثيين»، وبينهم أفراد الجيش السابق. وأعلن المالكي، خلال مؤتمر لضباط الجيش السابق عقد قبل أسابيع، أنه جرت إعادة تطويع نحو 99 في المئة من الضباط «جيش صدام» أو صرف رواتب تقاعدية لهم.



    صدام: من الرئاسة إلى المشنقة
    ربما يُعدّ الخامس من تشرين الثاني الماضي الحدّ الفاصل في مجريات محاكمة صدام حسين وعدد من معاونيه في قضية بلدة الدجيل. في ذلك اليوم، صدر القرار القاضي بالإعدام شنقاً بحق صدّام وأخيه غير الشقيق برزان التكريتي، الذي شغل منصب رئيس جهاز الاستخبارات السابق، وكذلك رئيس محكمة الثورة المنحلة عوّاد حمد البندر. حكم قررت محكمة التمييز العراقية تثبيته في 26 كانون الأوّل الماضي ليصبح بذلك واجب النفاذ.
    إدانتهم جاءت في قضية مقتل 148 عراقياً من أهالي الدجيل عقب محاولة الاغتيال التي تعرّض لها صدّام أثناء زيارته هذه البلدة عام 1982. تمّ إعدام صدّام فجر يوم عيد الأضحى الموافق في 30 كانون الأوّل من عام 2006، وقد جرى ذلك بتسليمه للحكومة العراقية من قبل الاحتلال الأميركي تلافياً لمعضلة قانونيّة أميركيّة حول مقولة اعتباره «أسير حرب». ودار جدل ضخم حول شريط، صوّر عبر هاتف خلوي، سجّل عمليّة الإعدام، وشكّلت الحكومة العراقية لجنة تحقيق من ثلاثة أعضاء لتحديد هويّة الشخص الذي قام بالتصوير، الذي أظهر أحد المنفّذين للإعدام وهو يصيح في صدام بقوله «إلى جهنم»، ما دفع الأخير إلى الاستهزاء بمن حوله. كان قد ألقي القبض على صدّام يوم السبت الموافق 13 كانون الأوّل عام 2003. أعلن الحاكم الأميركي السابق للعراق، بول بريمر، في 14 من الشهر نفسه، أنه «في حوالى الثامنة والنصف من مساء السبت (اليوم السابق) ألقي القبض على صدام حسين فى أحد المنازل في مدينة تكريت مختبئاً فى حفرة أو سرداب».
    وانتشرت أخبار مفادها أنّ القوات التي اعتقلت صدام هي مجموعة من القوّات الخاّصة التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني وقوّات خاصّة أميركية، وزُعم أنّها القوة نفسها التي اعتقلت نائب صدّام طه ياسين رمضان في الموصل، شمالي بغداد، في منتصف آب من السنة ذاتها.
    وظهر في شريط العمليّة المصوّر قول الرئيس المخلوع لحظة اعتقاله «أنا رئيس العراق ومستعدّ للتفاوض»، فما كان من الجنود الأميركيّين إلا أن ردّوا عليه بالقول إنّ «الرئيس الأميركي جورج بوش يبلغك التحية». أمّا برزان، الذي قبضت عليه قوّات الاحتلال الأميركيّة في 17 نيسان عام 2003، فقد أعدم شنقاً في 15 كانون الثاني الماضي، وأعقب ذلك نقاش تعلّق بانفصال رأس برزان عن جسده أثناء الإعدام. وفيما رفض خبراء في الطبّ الشرعي أن يكون الانفصال خلال الشنق، جرى الحديث عن تمثيل بـ«الجثّة» بعد الإعدام.
    ح. ش.




    هكذا ائتلف عراقيّو ما بعد صدام
    بغداد ـ الأخبار
    تبرز على الساحة السياسيّة العراقيّة أطياف عديدة، تحكم تكوّنها وانتظام تحالفاتها وخياراتها السياسيّة عواملُ متشابكة تبدأ بالعمق الاجتماعي، الذي دفعها تاريخيّاً للتكوّن، وتمرّ بمعضلة تشابك السياسة بالدين والمذاهب، ولا تنتهي بصيغة محدّدة لكيفيّة التعاطي مع الاحتلال.
    ولعلّ المعيار الديني هو الأسلم لمقاربة التقسيمات السياسيّة العراقيّة، حيث يبرز الاختلاف الأكبر في «عمليّة الفرز» بين الأحزاب، الدينيّة منها والعلمانيّة. ويعود البسيط ليتعقّد في الجانب الديني، من خلال اختلافات تحت العناوين الفرعيّة المذهبيّة.
    وفيما تبرز تيّارات مثل «هيئة علماء المسلمين» بزعامة حارث الضاري و«الحزب الإسلامي العراقي» الذي يترأّسه محسن عبد الحميد، مسيطرةً في الشارع السياسي السنيّ، يمثّل الشيعة سياسيّاً «التيّار الصدري» بقيادة السيّد مقتدى الصدر، وحزب «الدعوة» بزعامة إبراهيم الجعفري، و«المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» الذي يترأّسه السيد عبد العزيز الحكيم، إلى جانب «حزب الوفاق الإسلامي» و«حزب الفضيلة».
    وقد شهدت فترة ما بعد الغزو انتفاضةً نوعيّةً في حقل المشاركة السياسيّة للأحزاب الشيعيّة، التي كان نشاطها شبه محرّم في ظلّ نظام البعث، حيث انخرطت في العمليّة السياسيّة من الباب الواسع وفازت بأكثر من نصف عدد المقاعد في انتخابات الجمعية الوطنية التي جرت في 30 كانون الثاني من العام 2005.
    وتمثّل القوى العلمانية طيفاً واسعاً من الأحزاب والقوى السياسية في العراق، وتشمل أحزاباً ليبرالية وقوميّة ويسارية وتنظيمات قبلية مختلفة، ومن أبرزها «حركة الوفاق الوطني» بزعامة أياد علاوي، و«حزب المؤتمر الوطني العراقي» بزعامة أحمد الجلبي، إضافةً إلى العشرات من الأحزاب العلمانية التي تؤكّد أنها تنظيمات ليبرالية، لكنّها عموماً بلا رصيد شعبي أو امتداد تنظيمي يؤمّن لها موقعاً مؤثراً في الخريطة السياسية العراقية.
    أمّا الأحزاب التي تتّخذ من القوميّة الكردية إيديولجيّة لأهدافها السياسيّة، والتي خاضت صراعات طويلة مع الحكومات العراقية المتعاقبة، فهي «الحزب الديموقراطي الكردستاني» بزعامة مسعود البارزاني و«الاتحاد الوطني الكردستاني» الذي يترأّسه جلال الطالباني، إضافةً إلى أحزاب كرديّة أخرى أقلّ تأثيراً يغلب على بعضها الطابع الديني أو القومي أو اليساري.
    وهناك في خانة الأقليّات «الحركة الديموقراطية الآشورية» المسيحية ذات الطبيعة الطائفية والعرقية، والأحزاب القومية العربية القديمة التشكيل والتي لا تزال تحتفظ بقياداتها القديمة، ومعظمها أعلن معارضته للاحتلال وقاطع العملية السياسية وكذلك الانتخابات الأخيرة، ومن بين أبرز هذه الأحزاب، «الحركة الاشتراكية العربية» و«الحزب القومي الناصري» و«حزب الإصلاح».
    وتدخل الأحزاب التركمانية في المنطق ذاته، ومن أهمها «الجبهة القومية التركمانية» التي تضم عدة أحزاب قومية الطابع إلى جانب أحزاب تجمع بين الخلفية الطائفية والقومية مثل «الاتحاد الإسلامي التركماني» و«حزب الوفاء التركماني» الشيعيين.
    وللأحزاب اليساريّة حصة في التركيبة السياسيّة العراقيّة، ويبرز «الحزب الشيوعي العراقي ــــ اللجنة المركزية»، الذي شارك في «مجلس الحكم» والحكومة المؤقتة، ما أدّى إلى اختلاف مع تيّارات يساريّة أخرى مثل «الحزب الشيوعي العراقي ــــ القيادة المركزية» و«الحزب الشيوعي العمالي». اللذين اتخذا موقفاً معارضاً للاحتلال وتبعاته السياسيّة.
    وتنقل قناة «الجزيرة» القطريّة عن مصادر إعلامية غير رسمية، رقماً يقارب 200 حزب سياسي في العراق، موزّعة على خريطة الحكم والتحالفات، وقد شهدت السنة المنصرمة انخراط هذه التيّارات، أو معظمها، في محطّات مهمّة صبغت تطوّر العمليّة السياسية في بلاد الرافدين.
    ففي 21 كانون الثاني 2006، أعلنت المفوّضية العليا المستقلّة للانتخابات النتائج النهائية المصدّقة للانتخابات البرلمانية التي جرت في 15 كانون الأول من عام 2005.
    وكانت قائمة «الائتلاف العراقي الموحّد» (التي تضمّ «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» و «حزب الدعوة ـــــ المقر العام» و«حزب الدعوة الإسلامية ـــــ تنظيم العراق» و«حزب تجمع الوسط» و«حزب الفضيلة الإسلامية» و«التيار الصدري» و«منظمة بدر» «وحركة الديموقراطيين العراقيين» و«الاتحاد الإسلامي لتركمان العراق» و«حركة الوفاء التركمانية» و«حركة حزب الله ـــــ العراق» و«حركة سيد الشهداء» و«جماعة العدالة» و«تجمّع العدل والمساواة» و«ملتقى الإصلاح والبناء» و«حزب أحرار العراق») قد حصلت على الأكثرية، إذ شغلت 128 مقعداً برلمانيّاً.
    أما قائمة «التحالف الكردستاني» (التي تحوي «الحزب الديموقراطي الكردستاني» و«الاتحاد الوطني الكردستاني») فقد حصلت على 53 مقعداً، وحصلت «جبهة التوافق العراقية» (وتضمّ ثلاثة أحزاب سنّية هي «الحزب الإسلامي العراقي» بزعامة طارق الهاشمي، و«مؤتمر أهل العراق» بزعامة عدنان الدليمي، و«مجلس الحوار الوطني العراقي»، وهو تكتّل سني بقيادة خلف العليان) على 44 مقعداً.
    وكان نصيب «القائمة العراقية» (وهي تحالف قومي علماني يضمّ أحزاباً سنّية وشيعية بقيادة رئيس الوزراء الأسبق أياد علاوي) 25 مقعداً و«الجبهة العراقية للحوار الوطني» (برئاسة كبير ممثلي السنة في لجنة صياغة الدستور العراقي سابقاً صالح المطلك، بالاشتراك مع فاخر القيسي وفهران الصديد) على 11 مقعداً، بينما حجز «الاتحاد الإسلامي الكردستاني» (بقيادة صلاح الدين محمد بهاء الدين الذي اختلف مع «التحالف الكردستاني» احتجاجاً على هيمنة حزبيه) 5 مقاعد و«كتلة المصالحة والتحرير» (التي يقودها رئيس «حزب الوطن» مشعان الجبوري) 3 مقاعد وقائمة «رساليّون» على مقعدين. أمّا القوائم التي لم تحقّق أكثر من مقعد واحد فهي «مثال الآلوسي للأمّة العراقية» و«الجبهة التركمانية» و«الحركة الأيزدية من أجل الإصلاح والتقدّم» وقائمة «الرافدين».
    وبعد اعلان النتائج المصدّقة وتجاوز مشكلة الاعتراضات عليها، اتجهت الأنظار الى تأليف الحكومة ووُزّعت المناصب الرئاسية، فكانت رئاسة الوزراء من حصّة الكتلة الأكبر (الائتلاف العراقي الموحّد) ورئاسة الجمهورية من نصيب «التحالف الكردستاني» ورئاسة البرلمان لـ«جبهة التوافق».
    وفي 16 آذار من عام 2006، ووسط أجواء أمنية مشددة متمثّلة بحظر التجوال، عُقدت أوّل جلسة لمجلس النوّاب العراقي المنتخب برئاسة النائب الأكبر سنّاً عدنان الباجه جي وهي جلسة بروتوكولية استغرقت نحو نصف ساعة.
    وبعد أن حسمت كتلة «التحالف» خياراتها بترشيح جلال الطالباني لرئاسة الجمهوريّة، احتدم الجدل بشأن المرشّح لرئاسة الوزراء.
    وفيما وقع اختيار كتلة «الائتلاف» في 12شباط 2006 على إبراهيم الجعفري لهذا المنصب، اختارت «التوافق» طارق الهاشمي لرئاسة البرلمان. إلّا أنّ هذه الترشيحات اصطدمت باعتراضات عديدة. وقد غيّرت «التوافق» مرشّحها لكنّ الأمر تأخّر في قائمة «الائتلاف» حتى اختارت في21 نيسان 2006 نوري المالكي لمنصب رئيس الوزراء.
    وفي 22 نيسان تمّ انتخاب جلال طالباني رئيساً للجمهورية لولاية ثانية مدّتها أربع سنوات، بالاضافة إلى نائبيه عادل عبد المهدي و طارق الهاشمي، في جلسة برلمانيّة شهدت أيضاً انتخاب المشهداني رئيساً لمجلس النوّاب مع نائبيه خالد العطيّة وعارف طيفور.
    وفي 20 أيّار 2006، شكّل المالكي حكومته من 33 وزيراً، وشغل هو ونوّابه مناصب الوزارات الأمنية إلى حين تعيين وزراء الداخلية والدفاع والأمن الوطني في 8 آب.
    لكن هذه الخريطة بدأت أخيراً تشهد حراكاً مع انسحاب حزب الفضيلة من قائمة «الائتلاف العراقي الموحد» ومحاولة كتلتي «القائمة العراقية» و«جبهة التوافق» كتلة واحدة تحت مسمّى «الجبهة الوطنية لإنقاذ العراق».

    ¶ 6 أيار 2003: عيّن بوش حاكماً مدنياً على العراق هو بول بريمر.
    ¶ 16 أيار: أنشأ بريمر مجلس الحكم الانتقالي، وبعدها بثلاثة أيام أعلن حل الأجهزة الأمنية السابقة.
    ¶ 13 تموز: أول اجتمع لأعضاء مجلس الحكم المؤلف من 25 عضوا.
    ¶ 3 أيلول: تأليف أول حكومة بعد صدام.
    ¶ 1 آذار 2004: مجلس الحكم يوافق على دستور مؤقت.
    ¶ 8 آذار: توقيع قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية.
    ¶ 28 حزيران: الاحتلال ينقل «السيادة» إلى الحكومة العراقية قبل يومين من الموعد المحدد، وبول بريمر يغادر العراق. تولى الحكومة اياد علاوي رئاسة وعُيّن غازي الياور رئيساً للدولة.
    ¶ 18 آب: مؤتمر وطني عراقي يختار 100 عضو لمراقبة أعمال حكومة علاوي.
    ¶ 30 كانون الثاني 2005: أول انتخابات تعددية في العراق يقاطعها السنة.
    ¶ 6 نيسان: انتخاب الكردي جلال الطالباني رئيساً للعراق. وفي السابع من الشهر نفسه عُيّن الشيعي إبراهيم الجعفري رئيساً للحكومة.
    ¶ 14 تموز: مسعود البرزاني يؤدي اليمين الدستورية رئيساً لإقليم كردستان.
    ¶ 28 آب: الموافقة على مسوّدة الدستور.
    ¶ 15 تشرين الأول: إقرار دستور دائم عبر استفتاء.
    ¶ 15 كانون الأول: انتخابات تشريعية، بمشاركة سنية.
    ¶ 22 نيسان2006: مجلس النواب العراقي يعيد انتخاب الطالباني رئيساً. تكليف نوري المالكي تأليف الحكومة الجديدة.
    ¶ 11 تشرين الأول: البرلمان يقر قانوناً ينص على دولة فدرالية.



    الزرقاوي و«دولة العراق الإسلامية»
    يشكّل الميدان العراقي، بكلّ تشعّباته، مرتعاً هامّاً للميليشيات المتطرّفة بكلّ أطيافها. ومن الواضح أنّ تنظيم «القاعدة» لم يوفّر فرصةً للاندماج فيه. ويظهر أبو مصعب الزرقاوي وجهاً بارزاً في تجسيد أهداف «القاعدة» في بلاد الرافدين عبر ربط «الجهاد» بـ«طرد الغزاة من أرضنا في فلسطين والعراق أوّلاً، وثانياً إقامة شرع الله في الأرض كلّها ونشر عدل الإسلام والقضاء على ظلم الأديان»، حسب تعبير الزرقاوي، الذي يحمل اسم أحمد فاضل نزّال الخلايلة، وكان أمير تنظيم «قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين» الذي يمثّل فرعاً لتنظيم «القاعدة» في العراق، بعد أن بايعت جماعة «التوحيد والجهاد»، وهو الاسم الأوّل للجماعة، زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن أميراً عاماً عليها عام 2004.
    وقام تنظيم الزرقاوي بالعديد من العمليّات النوعية في العراق كتفجير مبنى الأمم المتحدة، الذي أدّى إلى مقتل ممثلها سيرجيو دي ميللو، ما دفع الإدارة الأميركية إلى رصد مبلغ 25 مليون دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدّي للقبض على زعيمها.
    وكان الزرقاوي، الذي يأتي لقبه نسبة لمدينة الزرقاء الأردنية، قد سافر إلى أفغانستان في ثمانينيّات القرن الماضي لمحاربة القوّات السوفياتية، ومكث 7 سنوات في السجون الأردنية، بتهمة التخطيط لمهاجمة إسرائيل، وبعد مغادرته السجن، يُعتقد أنّه سافر مرة ثانية إلى أفغانستان ومكث فيها حتى أوائل عام 2000. واتّهمت الولايات المتحدة الزرقاوي بتدريب المقاتلين في شمال العراق حتى قبل غزو البلاد عام 2003، والضلوع في تطوير قنبلة كيميائيّة لتفجيرها في أوروبا، وتفجير فنادق في بغداد تستخدمها الاستخبارات الأميركية والشركات الأمنية، وقطع رأس المواطن الأميركي «نيك بيرغ» في العراق عام 2004 كما صوّره شريط فيديو في 11 مايو 2004، والرهينة الكوري كيم سون ايل.
    ويُنسب لأبو مصعب ضلوعه في عدد من محاولات القيام بعمليات على الأراضي الأردنية، كان آخرها محاولة تفجير مبنى المخابرات الأردنية في عمّان. كما قامت مجموعته بالهجوم على سفينة أميركية في ميناء العقبة وعلى مدينة ايلات في فلسطين المحتلة سنة 2005.
    وفي 7 تمّوز عام 2006 أعلن رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي مقتل الزرقاوي في غارة أميركية. حادثة وصفتها الحكومة الإسرائيلية بـ«النصر العظيم للديموقراطياّت الغربية والأنظمة العربية المعتدلة في الشرق الأوسط»، فيما رأى الرئيس الأميركي جورج بوش أن العمليّة ضربة قوية لـ«القاعدة» و«صفعة للإرهابيين». وقبل مقتله ببضعة أشهر، سقطت عدة صواريخ على شمال إسرائيل منطلقة من جنوب لبنان. وقد نفى «حزب الله» أية علاقة له بها، فيما أعلن أبو مصعب الزرقاوي، في تسجيل صوتي في 9 كانون الثاني عام 2006 مسؤوليّته عن العمليّة قائلاً إنّ «ما رأيتموه في الأيّام الماضية من قصف مركّز بالصواريخ على أحفاد القردة والخنازير من جنوب لبنان هو باكورة عمل مبارك في ضرب العدوّ الصهيوني في عمق وجوده بتوجيه من شيخ المجاهدين أسامة بن لادن».
    وفي التصريح نفسه، أضاف الزرقاوي قائلاً إنّه «منذ بدء عمليات المجاهدين بعد سقوط النظام البعثي نفذنا قرابة 800 عملية استشهادية على أهداف وأرتال عسكرية صليبية، غير الاقتحامات والكمائن والعبوات الناسفة والقصف الصاروخي وغيره، ونعتقد ان خسائر عبّاد الصليب في العراق لا تقلّ عن أربعين ألف جندي حتى الآن».
    وخلف الزرقاوي في موقع رئاسة القاعدة في بلاد الرافدين أبو أيّوب المصري، الذي يُعرف أيضاً باسم أبي حمزة المهاجر، والذي كشف في أوّل تصريح له عن تجنيد 12 ألف جندي لإقامة ما سمّاه «دولة إسلامية في العراق».
    ح. ش.




    مصنع الأكاذيب

    واشنطن ـ عمر أحمد
    في الذكرى الرابعة لبدء غزو العراق، في عملية أطلق عليها في حينه اسم «الصدمة والترويع»، يكثف الديموقراطيون الأميركيون، بعد حصولهم على الغالبية في الكونغرس، جهودهم لكشف الخطط التي تبنّتها حكومة الرئيس جورج بوش لتبرير حربها على العراق واحتلاله، والتي كانت تستند إلى معلومات استخبارية مفبركة كان يعدها مكتب الخطط الخاصة في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) حول برامج التسلّح العراقية وارتباط بعض المتهمين بتنفيذ هجمات الحادي عشر من أيلول، وخصوصاً محمد عطا، بمسؤولين عراقيين.
    المكتب أوكلت إليه مراجعة معلومات الاستخبارات، وإعادة تقويمها لخدمة غرض الحرب على العراق، الذي تظهر المعطيات أنه كان الهدف قبل أفغانستان منذ هجمات الحادي عشر من أيلول، وحتى قبل ذلك بكثير.
    وكان مكتب الخطط الخاصة تحت إشراف وكيل الوزارة السابق للشؤون السياسية دوغلاس فيث، الذي غادر منصبه في وزارة الدفاع في 2005. وقام بين أيلول 2002 وحزيران 2003 بتطوير وإنتاج وتوزيع تحليلات للاستخبارات عن العراق والعلاقات مع تنظيم «القاعدة»، مخالفة للتوافق حول عمل وكالات الاستخبارات، بمباركة وزير الدفاع حينذاك دونالد رامسفيلد أو نائبه بول وولفوفيتز.
    وبعد سنوات من ضخ المعلومات عن أسلحة الدمار الشامل وارتباط نظام صدام حسين بتنظيم القاعدة، أنشأت وزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، بتوجيه من البيت الأبيض، فريقاً من العسكريين يتجاوز عدده 1400 جندي فور احتلال العراق للبحث عن أسلحة دمار شامل عراقية مزعومة، وبعد ستة أشهر وإنفاق أكثر من 300 مليون دولار اعترف رئيس ذلك الفريق ديفيد كاي بالفشل في العثور على أي من الأسلحة، التي ذكر المسؤولون الأميركيون، بمن فيهم كاي نفسه، مراراً وتكراراً، أنها موجودة. كما لم يعثر على أي دليل يربط نظام الرئيس العراقي بتنظيم القاعدة.



    الخطة بدأت قبل 11 أيلول
    أنشأ البيت الأبيض، بعد أسابيع قليلة من هجمات الحادي عشر من أيلول 2001، وحدة سرية في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) لبناء قضية تبرر غزو العراق واحتلاله وإطاحة نظام حكم الرئيس صدام حسين.
    عرف المكتب في ما بعد باسم «مكتب الخطط الخاصة»، الذي وصفته مجلة «مذر جونز» الأميركية بأنه «مصنع الأكاذيب»، الذي امتد وتشعب ليروي قصة طاقم الأيديولوجيين المترابطين معاً، والذين يتبنون فكراً صهيونياً يمينياًً ومتطرفاً معادياً للحركات التقدمية وحركات التحرير، ليس في الوطن العربي فقط، بل على امتداد العالم كله. وكانت مسألة غزو العراق قد أثيرت أول مرة في أول اجتماع لطاقم بوش للأمن القومي والسياسة الخارجية بعد يوم واحد من أدائه اليمين الدستورية لتولي منصبه في كانون الثاني 2001.
    وقد بدأ المسؤولون الأميركيون دون مستوى طاقم الأمن القومي، عقب ذلك الاجتماع، بتلقي الرسالة. فقبل وقت طويل من 11 أيلول 2001، بدأ طاقم بوش في البنتاغون، وحتى قبل أن يتم تنصيبهم رسمياً مثل نائب وزير الدفاع بول وولفويتز، ووكيل وزارة الدفاع للشؤون السياسية دوغلاس فيث، بتصدّر طليعة المطالبين بـ«تغيير النظام في العراق».
    وقد دعي للمساعدة في تنظيم فريق التخطيط للحرب على العراق مسؤول قديم في البنتاغون هو هارولد رود، وهو يهودي أميركي، يقدّم نفسه على أنه خبير في شؤون الإسلام ويتحدث العربية والعبرية والتركية والفارسية، وكان يتولى في الأشهر الأولى من عام 2001 منصب مستشار وولفويتز للشؤون الإسلامية، وقد التقى مع المسؤول السابق في السفارة السعودية في واشنطن عادل الجبير، في ندوة عقدت في البنتاغون لبعض الدبلوماسيين والعسكريين السعوديين في شهر آذار 2001 ليخبره بضرورة أن تقف السعودية إلى جانب الولايات المتحدة في الحرب التي اتخذت قراراً بشنها على العراق.
    وطبقاً لمصادر مطلعة، فإن رود خاطب عادل الجبير، موجهاً إصبعه نحوه قائلاً «لن تكون هناك مقايضة في البازار بعد اليوم... وينبغي عليك أن تجلس وتلقي اهتماماً عندما نقول ذلك وعليكم الوقوف إلى جانبنا في الحرب». وعندما رد الجبير بأن مثل ذلك الموقف تتخذه فقط الحكومة السعودية، قال له رود «ليس لديكم خيار آخر».
    وقد قام رود مع فيث بحملة تطهير في البنتاغون ضد المسؤولين المهنيين غير المتحمسين بما فيه الكفاية للحرب على العراق.
    وكان مكتب التجنيد الجانبي غير الرسمي لفيث ورود هو معهد «أميركان إنتربرايز»، وهو مركز أبحاث يعد معقل المحافظين الجدد، حيث يحتل ريتشارد بيرل، الرئيس السابق لمجلس سياسة الدفاع التابع لمكتب رامسفيلد، موقعاً بارزاً فيه. وكان من الملاحظ بوضوح حضور رود إلى جانب مايكل روبين، أحد موظفي المعهد، الندوات والمؤتمرات التي عقدها المعهد حول العراق قبيل غزوه.
    وكان روبين قد سبق له العمل محاضراً في الجامعة العبرية في فلسطين المحتلة. وعقب غزو العراق على الفور عُيّن مستشاراً لسلطة الاحتلال الأميركي في بغداد، وهو يتحدث العربية والفارسية.
    وبعد 11 أيلول 2001 مباشرة، قام فيث ورود بتجنيد أحد الباحثين اليهود الأميركيين المتطرفين، هو ديفيد وورمسر، مدير الشرق الأوسط في معهد «أميركان إنتربرايز» للعمل مستشاراً للبنتاغون، ليصبح المشارك المؤسس لوحدة المخابرات السرية في مكتب فيث، التي كانت نواة لحملة تشويه وفبركة المعلومات في البنتاغون بشأن العراق.
    وفي الوقت الذي ركزت فيه وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) ووكالات الاستخبارات الأميركية الأخرى على تنظيم القاعدة وأسامة بن لادن بشأن هجمات الحادي عشر من أيلول، فقد ركز وولفويتز وفيث أنظارهما بصورة طاغية على العراق، وهي نظرية لم تجد أي صدقية، بل كانت مثار سخرية لموظفي الاستخبارات المهنيين.
    وكان وورمسر شارك بشكل رئيسي عام 1996، تحت قيادة بيرل، في كتابة تقرير لمعهد الدراسات الاستراتيجية والسياسية المتقدمة في القدس المحتلة اعتبر «أن من يرث العراق يهيمن على مجمل الشرق الأوسط استراتيجياً». وقد تضمّن التقرير سلسلة من التوصيات تهدف إلى إنهاء عملية «الأرض مقابل السلام بما فيها اتفاقيات أوسلو، بتحويل ميزان القوة في المنطقة لمصلحة محور يضم إسرائيل وتركيا والأردن».
    ومن أجل تحقيق ذلك دعا التقرير إلى «إطاحة نظام صدام حسين وتنصيب زعيم هاشمي في بغداد، ومن بعدها ستركّز الاستراتيجية إلى حد كبير على سوريا، أو على الأقل لتقليل نفوذها في لبنان. وعلاوة على ذلك فإن شن هجمات عسكرية ضد لبنان وسوريا قد يكون مقدمة لإعادة رسم خريطة جديدة لشرق الأوسط يمكن أن تهدد سلامة ووحدة الأراضي الإقليمية لسوريا».
    وقد أضيف لأعضاء المجموعة شخص آخر هو مايكل معلوف، ليصبح شريكاً لوورمسر. ومعلوف هو أميركي من أصل لبناني، كان مساعداً لبيرل في البنتاغون في الثمانينيات من القرن الماضي. وقد جُرد من تصريحه الأمني الخاص جداً مرتين في أواخر عام 2001 ومرة أخرى في ربيع 2003، بعد كشف علاقته أيضاً برجل أعمال أميركي من أصل لبناني، هو عماد الحاج، كان قد خضع لتحقيقات يجريها مكتب التحقيقات الفدرالي (إف بي آي) بشبهة تورطه في خطة لتهريب أسلحة إلى ليبيريا.
    وبناءً على هذه الدراسات، بدأت وحدة الاستخبارات بالتدقيق في تقارير الـ«سي آي إيه» ووكالة الأمن القومي وغيرهما من الوكالات الاستخبارية لإيجاد بعض المعلومات التي تربط العراق والقاعدة والإرهاب، ووجود أسلحة دمار شامل عراقية.
    وقد ادعى معلوف وزميله وورمسر أنهما وجدا دليلاً على أن مجموعات إسلامية سنية وشيعية ودولاً عربية (علمانية) تتعاون معاً للإضرار بالولايات المتحدة على الرغم من خلافاتها. وقد اطلع مسؤولون في البنتاغون والـ«سي آي إيه» على معلومات فريق «معلوف ــــ وورمسر» في شهر آب 2002.



    العراق و«القاعدة»: معلومات لم تثمرأكد تقرير الكونغرس عن هجمات 11 أيلول أنه لا وجود لأي اتصالات مزعومة بين محمد عطا من «القاعدة»، الذي تتهمه سلطات الأمن الأميركية بقيادة خاطفي الطائرات الأميركية في هجمات واشنطن ونيويورك، ومسؤولي استخبارات عراقيين في براغ أو غيرها. وأكدت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية بدورها أن لديها أدلة تثبت أن ذلك مسؤول الاستخبارات العراقي ذاك، الذي ذكر أنه سمير العاني، كان في ذلك الوقت في مكان آخر لا في براغ. ومع ذلك فإن المدير الأسبق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية جيمس وولسي، وهو عضو في تيار المحافظين الجدد، ذهب في مهمة إلى لندن وعواصم أوروبية أخرى على نفقة البنتاغون لإيجاد رابط بين العراق والقاعدة في مسعى لتحميل العراق مسؤولية هجمات 11 أيلول.
    وقد توقف نائب الرئيس ديك تشيني عن التطرّق في خطبه وتصريحاته بشأن تبريره للحرب على العراق واحتلاله عن اتهاماته السابقة للرئيس صدام حسين بأن لديه علاقات واتصالات مع القاعدة. فيما بدأ بوش يشير إلى الدعم المالي الذي كان يقدمه الرئيس العراقي لعائلات منفذي العمليات الاستشهادية ضد الاحتلال الإسرائيلي بقيمة 25 ألف دولار مبرراً لغزو العراق. وقد أظهرت العضوة الديموقراطية في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ باربرا بوكسر في أواخر شهر تموز 2003، خلال جلسة استماع تحدث فيها وولفويتز، خريطة نشرتها الحكومة الأميركية في أواخر عام 2001 تظهر فيها 45 بلداً تعمل فيها «القاعدة» لم يكن العراق من بينها.
    وعندما بدأت قوة الدفع من أجل الحرب على العراق تتنامى في أوائل عام 2002، قام وولفويتز وفيث بتدعيم الوحدة الاستخبارية وأنشأوا وحدة للتخطيط للحرب في قسم الشرق الأوسط وجنوب آسيا والخطط الخاصة في البنتاغون، الذي يديره ويليام لوتي، نائب فيث، تحت اسم «مكتب الخطط الخاصة» أو (أو إس بي). وكان المدير الجديد لهذه الوحدة أبرام ن. شولسكي، ومعه مايكل روبين (كلاهما يهوديان).
    وفي ذلك الوقت، انتقل وورمسر إلى منصب كبير مستشاري وكيل وزارة الخارجية الأميركي لشؤون نزع السلاح جون بولتون. وقد سيطر مكتب الخطط الخاصة برئاسة شولسكي، بعد ضم وحدة الاستخبارات السرية إليه، على الخبراء المخضرمين أو طردهم. وطيلة العام الذي تلى ذلك، لم يشرف لوتي وشولسكي على خطط الحرب فقط، بل كانا يتصرفان بصورة هجومية لصياغة نتاج الاستخبارات التي يتلقاها البيت الأبيض.
    وقد حول لوتي وشولسكي معاً المعلومات التي تم انتقاؤها من معلومات الاستخبارات المناهضة للعراق وغير المدعمة بأية أدلة، إلى مرتكزات إقناع بشأن قضايا مثل أسلحة الدمار الشامل العراقية وارتباط العراق بالقاعدة. وكان شولسكي يقوم باستمرار بتحديث هذه المعلومات معتمداً على وحدة الاستخبارات ويعممها على المسؤولين في البنتاغون، بمن فيهم رامسفيلد ونائب الرئيس تشيني.ومثالاً على ذلك، عمل ضابط في الاستخبارات الأميركية متخصص في الشؤون العربية، الرائد البحري يوسف أبو العينين، الذي كان مساعداً خاصاً للوتي، على متابعة وسائل الإعلام الناطقة بالعربية وإيجاد مقالات تتهم صدام بشأن الإرهاب. وفي العادة، فإن مثل هذه المعلومات الاستخبارية الخام تخضع لعملية تمحيص دقيقة، ويتبعها ويتحقق منها ويفحصها رجال استخبارات مهنيون، ولكن هذا لم يكن موجوداً في مكتب الخطط الخاصة. فالمعلومات التي تم إنتاجها وجدت طريقها مباشرة في خطب يلقيها بوش وتشيني ومسؤولون أميركيون آخرون.
    وكانت مجموعة مكتب الخطط الخاصة تسرّب معلومات مخيفة عن نظام حكم الرئيس صدام حسين معتمدة على المعلومات التي يقدمها معارضون عراقيون من المؤتمر الوطني العراقي بزعامة أحمد الجلبي، وهو ما اعترفت به أيضاً جوديث ميلر، الصحافية في «نيويورك تايمز»، التي قالت إن كل ما كانت تنشره من معلومات وروايات عن أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة كان مصدره الجلبي فقط. وأضافت أن معظم ما جاء في التقرير الذي قدمه البيت الأبيض إلى الأمم المتحدة يوم خطاب الرئيس بوش في أيلول 2002 بعنوان «العراق: عقد من الخداع والتحدي» كان معظمه معلومات نشرتها ميلر في كانون الأول 2001 نقلاً عن معارض عراقي يدعى عدنان إحسان سعيد الحيدري، كان الجلبي قد أحضره. وعندما كان مكتب الخطط الخاصة يقوم بإعادة صياغة بعض معلومات الـ«سي آي إيه» الاستخبارية، مثل امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل قاتلة، كان يجري تقديمها إلى مكتب مستشارة الرئيس الأميركي للأمن القومي في البيت الأبيض كوندوليزا رايس حيث تُستخدم في خطب الرئيس ونائبه ديك تشيني ووزير الدفاع رامسفيلد. ومن بين تلك المعلومات الاستخبارية المزعومة، ما يتعلق بشراء العراق مئات الأطنان من أوكسيد اليورانيوم من النيجر، والتي اعترف البيت الأبيض أخيراً بعدم صحتها وكلّفت ولا تزال الرئيس بوش ثمناً سياسياً وتشكيكاً في صدقيته.



    قتلى الاحتلال... وضحايا العراق
    أرقام القتلى العراقيين خلال الغزو، وما تلاه، لم تقف عند رقم معين، وتأرجحت بين مئات الآف وعشرات الآف، طبقاً للمصادر التي تعلن عنه. ففي أواخر عام 200، نشرت السلطات العراقية تقريراً أشار الى مقتل قرابة 150 ألفاً.
    إلا أن دراسة لمجلة «لانسيت» الطبية في شهر تشرين الاول من العام الماضي أشارت إلى مقتل 650 ألف عراقي منذ التاسع من نيسان 2003، تاريخ سقوط بغداد. والدراسة تضمنت قيام أطباء عراقيين بالطرق على أبواب البيوت وسؤال ساكنيها عن أحدث الوفيات التي وقعت بينهم.
    وقال جيلبرت برنهام، من كلية الصحة العامة في جامعة جونز هوبكنز في بلومبرغ بالولايات المتحدة، إن الوفيات تقع في العراق بمعدل يزيد ثلاث مرات على معدلها قبل الغزو.
    وتشير تقديرات أخرى تستند الى أرقام مراكز الأبحاث ومصادر إعلامية إلى أن ما يتراوح بين 43850 و48693 حالة وفاة منذ الغزو. وشكل الصبية والرجال، بين 15 و44 عاماً، نحو 60 في المئة من الوفيات الزائدة.
    في المقابل، فإن الخسائر العسكرية التي تكبّدتها دول الاحتلال قابلة للتغير يومياً إلا أن آخر إحصائية تشير إلى الآتي: الولايات المتحدة (3211 قتيلاً) وبريطانيا (133) وإيطاليا (32) وأوكرانيا (18) وبولندا (19) وبلغاريا (13) وإسبانيا (11) والدنمارك (6) والسلفادور (5) وسلوفاكيا (4) ولاتفيا (3) وأستونيا (2) وتايلاند (2) وهولندا (2) وتشيكيا (1) وكازاخستان (1) والنمسا (1) والمجر (1) ورومانيا (1).



    أكبر موجة لجوء منذ 1948
    تقدر الأمم المتحدة أن مليوني عراقي فروا من ديارهم إلى خارج العراق، وأن 1.7 مليون عراقي آخر نزحوا إلى مناطق مختلفة داخل البلاد، نحو نصف مليون منهم تقريباً نزحوا منذ شباط 2006، في وقت يفر فيه ما بين 40 ألف 50 ألف عراقي إضافي من ديارهم كل شهر.
    ووصفت الأمم المتحدة موجة النزوح واللجوء بأنها الأكبر في الشرق الأوسط منذ النكبة واحتلال فلسطين في عام 1948. وقالت المنظمة الدولية إن واحداً من كل ثمانية عراقيين نزحوا عن ديارهم، مشيرة الى ان نصف مليون شخص تركوا منازلهم خلال الاشهر الستة الاخيرة فقط.
    وأشارت مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة إلى أن آلاف العراقيين يغادرون بلادهم يومياً، مشيرة الى أن عدد العراقيين الذين يطلبون حق اللجوء في الغرب يتزايد باطّراد. وتشير الإحصاءات الخاصة بالاشهر الستة الاولى من العام الماضي الى ان العراقيين شكلوا اكبر مجموعة من طالبي اللجوء في اوروبا، بينما ارتفع عدد العراقيين الذين يطلبون حق اللجوء في الدول الصناعية المتقدمة بنسبة 50 في المئة عما كان عليه في العام الماضي. وقد اتخذ مسار نزوح العراقيين خارج البلاد اتجاهين رئيسيين تمثلا في الأردن ثم سوريا، هذا بخلاف بعض البلدان الأخرى التي توجه إليها عدد قليل من العراقيين، مثل تركيا وإيران ومصر واليمن ولبنان وبعض الدول الأوروبية، بينما لم تسمح دول أخرى، مثل السعودية والكويت، بدخول العراقيين إلى أراضيها.
    ح. ك.



    باول المغلوب على أمره
    في غمرة السعي الحثيث من قبل أركان الإدارة الأميركية، التي يسيطر عليها المحافظون، بدا أن وزير الخارجية الأميركي كولن باول كان الوحيد من كبار مساعدي بوش الذي كانت لديه شكوك في صحة المعلومات الاستخبارية التي يقدمها مكتب الخطط الخاصة، حيث امتنع عن استخدام بعضها في خطابه أمام مجلس الأمن في الخامس من شباط 2003.
    وكانت مجلة «يو إس نيوز آند وورلد ريبورت» قد ذكرت في تقرير لها في شهر شباط 2003 أن معظم المعلومات التي تضمّنها خطاب باول كانت من مكتب الخطط الخاصة. ونقلت عنه المجلة قوله «إنني لن أقرأ هذا، إنه هراء».
    ووصف خبير الاستخبارات جون بايك مكتب الخطط الخاصة بأنه «غرفة حرب رامسفيلد». وذكر أن المكتب هو وليد أفكار وولفويتز ويشرف عليه مباشرة فيث، والثلاثة ينتمون إلى تيار «المحافظين الجدد» في حكومة بوش، حيث كانوا يدعون منذ سنوات وقبل وصولهم إلى السلطة، إلى إطاحة صدام.
    وقال بايك «بالعودة إلى الوراء، فإن من الواضح أن القرار اتخذ خلال شهرين من 11 أيلول للتخلص من صدام حسين، لكن كان يتعيّن على حكومة بوش أن تجد سبباً منطقياً لعمل ذلك. ولذلك أقاموا مجموعة سرية من خلال فيث بدأت تنتج المعلومات بشأن العراق أكثر تناغماً مع شن الحرب من معلومات الـ«سي آي إيه». وأضاف أن من ميزات مكتب الخطط الخاصة استخدام معلومات الجلبي وأنصاره من دون أن يراجعها مهنيون في الاستخبارات من خارج مكتب الخطط الخاصة، وغالباً ما كان يجري مد الصحافة بهذه المعلومات أيضاً مما يساعد على بناء قضية عامة من أجل الحرب».



    الجلبي «بطل» المعلومات المضلّلة
    شكّل أحمد الجلبي مصدراً غنياً للمعلومات، التي أرادت الإدارة الأميركية الحصول عليها، سواء تأكدت منها أو لا. فقد تبرع الجلبي، عام 2002، بثلاثة أشخاص «ليقدموا معلومات مفيدة»، وأولهم مهندس عراقي، ادعى في شهر أيار 2002 أن لديه معلومات خاصة عن أسلحة بيولوجية، زاعماً أن العراق يمتلك مختبرات بحوث متنقلة لإنتاج أسلحة جرثومية. لكن معلوماته لم تفد بشيء، إلا أنها بالفعل أصبحت جزءاً من التقييم الاستخباراتي الذي قدمته الـ«سي آي إيه» في شهر تشرين الأول 2002 إلى الرئيس بوش رغم أن وكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية حذرت رسمياً في تقرير لها في شهر أيلول 2002 من عدم صحة تلك المعلومات.
    والثاني ادعى أنه يعرف مختبرات متنقلة، لكن معلوماته أيضاً كانت عديمة القيمة. والثالث الذي ادعى أن لديه معلومات عن برنامج العراق النووي أثبت أنه مزيف.
    ورغم الشكوك التي أثارتها تقارير وكالات الاستخبارات الأميركية عن حقيقة العراقي المعارض الفار، الذي قدم المعلومات الخاصة بمختبرات بيولوجية متنقلة مزعومة، إلا أنها لم تعرف هذا الشخص. لكن باول أبلغ مجلس الأمن يوم الخامس من شباط 2003 أنه رائد عراقي. وقد نجح في اختبار الكذب. لكن وكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية أرسلت ملاحظة التلفيق إلى وكالات استخبارات أميركية أخرى وحذرت من أن الشخص ربما دُرب لخداع جهاز كشف الكذب ولذلك فإن معلوماته يجب اعتبارها غير موثوقة. وقد اعترف باول في شهر نيسان 2004 بأن المعلومات التي أوردها في خطابه أمام مجلس الأمن يوم الخامس من شباط 2003 عن شاحنات المختبرات البيولوجية تبيّن له أنها لم تكن صحيحة.
    ورغم أن وكالة الاستخبارات العسكرية أبلغت رامسفيلد في أيلول 2002 أنه «لا يوجد حتى الآن معلومات يعتمد عليها تؤكد أن العراق يملك أسلحة كيماوية» إلا أن رامسفيلد أبلغ في الشهر نفسه لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب الأميركي عكس ذلك. وقال «نحن نعرف على وجه اليقين أن النظام العراقي يملك حالياً أسلحة كيميائية وبيولوجية للدمار الشامل، ونعلم علم اليقين أنهم يسعون حالياً لإنتاج أسلحة نووية».
    وقد ادعى الجلبي أيضاً أنه أعطى البنتاغون معلومات عن دعم العراق للقاعدة. فقد أبلغ برنامج «فرونت لاين»، الذي بثته شبكة التلفزيون الأميركية العامة (بي بي إس) في شهر تشرين الأول 2003، «لقد أعطينا أسماء الأشخاص الذين يقومون بدور حلقات الارتباط».
    وقال الضابط الأميركي في مكافحة التجسس، العقيد ديل ديفيس، الذي يعمل حالياً في معهد فرجينيا العسكري، إنه سمع من زملائه السابقين أن كبار المسؤولين كانوا «يستنطقون المعلومات الاستخبارية بصورة انتقائية ليخرجوا بأخطر الاستنتاجات، مثل سيناريو الـ45 دقيقة للهجوم العراقي الكيميائي، ويورانيوم النيجر، والعلاقة بالقاعدة، لكن الـ«سي آي إيه» لم تدعم هذه الاستنتاجات مطلقاً».
    ونظراً لأن كبار المسؤولين الأميركيين مثل تشيني ورامسفيلد لا يرغبون في المعلومات والتحليلات الاستخبارية التي كانوا يحصلون عليها من الـ«سي آي إيه» ووكالة الاستخبارات العسكرية، فقد أنشأوا «مملكة فيث السعيدة»، التي صاغت التقارير وفق رغباتهم استناداً إلى تمنيات الجلبي، والتي كانت تستهدف دفع الولايات المتحدة لمهاجمة العراق وإطاحة صدام.
    وكأحد أمثلة التلفيق، فقد تابع جنود أميركيون تقريراً استخبارياً يدعي أن مجمعاً قد بني لعدي صدام حسين أخفى مخزناً للأسلحة بصهاريج للغاز السام. وقال الرائد في الجيش الأميركي، رونالد هارن، لصحيفة «لوس أنجلس تايمز»، «حسناً إن المخزن كان مظلة للسيارات، ولا يزال فيه سيارتان والصهاريج فيها غاز بروبين للمطبخ».
    وقال جوزيف ويلسون، السفير الأميركي الأسبق لدى الغابون، الذي أرسلته الـ«سي آي إي» إلى النيجر، إن الوثائق الخاصة بمزاعم شراء العراق ليورانيوم النيجر مزيفة. وأضاف «إما أن يكون النظام قد انهار أو أنه كان هناك استخدام انتقائي لبعض المعلومات الصغيرة لتبرير قرار الذهاب إلى الحرب، الذي كان قد اتخذ بالفعل».
    وقد طلب الأعضاء الديموقراطيون في مجلس النواب الأميركي من وكالة الاستخبارات العسكرية تسليمهم سجل المعلومات والتقارير الاستخبارية التي قدمتها جماعة المؤتمر الوطني العراقي (المعارض سابقاً) لمراجعتها لمعرفة مدى دقتها وصدقيتها. وقد تملّك الأعضاء الديموقراطيين الغضب إزاء التقارير، التي ذكرت أن وكالة الاستخبارات العسكرية التابعة للبنتاغون تواصل دفع نحو ما بين 3 و4 ملايين دولار سنوياً لجماعة الجلبي من أجل «برنامج جمع المعلومات» الذي كان قد بدأ العمل به في عام 2001، رغم أن كل المعلومات التي سبق أن قدموها عن أسلحة العراق وارتباطاته المزعومة بتنظيم القاعدة، تتسم بالزيف.
    وما أسهم في تصعيد موقف الديموقراطيين أن الدفعات المالية تتواصل في الوقت الذي تجري فيه سبعة تحقيقات مستقلة عن تلك المعلومات الاستخبارية، بينها التحقيق الذي تجريه لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ عن دور جماعة الجلبي في تقديم تلك المعلومات وخاصة بعد أن أثبت رئيس فريق التفتيش الأميركي في العراق ديفيد كاي زيف كل المعلومات التي استندت إليها الاستخبارات الأميركية لتبرير غزو العراق، مؤكداً أن بغداد لا تمتلك أسلحة محظورة.
    وقد شهد المزاج العام في البيت الأبيض تجاه الجلبي وجماعته تغيراً واضحاً في أعقاب التصريحات التي كان قد أدلى بها الأخير لصحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية يوم الثامن عشر من شهر شباط 2004 والتي قال فيها إنه ليس من المهم أن تكون المعلومات التي قدمتها جماعته قبل الحرب على العراق صحيحة أم لا «نظراً لأن الهدف الذي سعت إليه قد تحقق وهو إطاحة الرئيس العراقي صدام حسين». وقال الجلبي «نحن أبطال واقعون في خطأ. وفي رأيي أننا نجحنا تماماً.. لقد ذهب الطاغية صدام حسين وجاء الأميركيون إلى بغداد». وأضاف، في إشارة إلى تأكيده على العلاقات المتميزة مع حكومة بوش، إن «حكومة بوش تبحث عن كبش فداء ونحن مستعدون لذلك إذا أراد».




    الأكراد: من الاضطهاد إلى الرئاسة
    دخل إقليم كردستان العراق بعد الغزو الاميركي عام 2003، مرحلة جديدة طوى معها الحزب الديموقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني، خلافاتهما التي دامت سنوات. وشكل الحزبان زعامة مشتركة تحت اسم «المؤتمر الوطني العراقي الموحد»، وشاركا في جميع التغييرات السياسية التي شهدها العراق في ظل الاحتلال الاميركي، بدءاً من مجلس الحكم والحكومة المؤقتة إلى الانتخابات البرلمانية والحكومة الانتقالية.
    وحصل الكرد بزعامة الحزبين، على ما يقارب ثمانين مقعداً في الانتخابات النيابية في كانون الثاني 2005، وذلك في أول بادرة من نوعها في تاريخ العراق، على مدى الأزمنة، وأصبح رئيس العراق كردياً، ولهم وزارات سيادية مثل وزارة الخارجية، ووزارة التخطيط، ونيابة رئاسة الوزراء، ورئاسة المحكمة العليا.
    ويشغل الطالباني رئاسة العراق الآن، فيما يشغل البرزاني رئاسة إقليم كردستان، وابن اخيه نيجيرفان البرزاني رئاسة مجلس وزراء الإقليم، وذلك بحسب اتفاق لتوزيع النفوذ بين الطرفين.
    وقال الطالباني، حين سئل عن مصير المطالبة بدولة كردية، «نحن الكرد اخترنا البقاء مع العراق. وليست هناك مطالبة بدولة كردية، ونعمل جاهدين على بناء عراق ديموقراطي فدرالي موحد».
    وكان البرزاني قد حذر في إحدى تصريحاته الصحافية، من أنه إذا ما لاحت بوادر حرب أهلية في العراق، فإن الاكراد قد يستقلون بدولة على أرض تمتد، حسب الخرائط المعروفة، من زاخو أقصى شمال العراق، وحتى مندلي وخانقين جنوباً، تشمل محافظات أربيل، ودهوك، والسليمانية، وكركوك، وسنجار من الموصل، ومناطق من محافظة ديالى.
    وتبلغ مساحة كردستان العراقية المفترضة، حسب المتداول، حوالى ثمانين ألف كيلومتر مربع، وتشكل حوالى 18 في المئة من مجموع مساحة العراق البالغة 435 ألف كيلومتر مربع.
    وتشمل المناطق المختلطة في الاقليم، العرب والكرد والتركمان والآشوريين وغيرهم.
    وحسب نظام الفدرالية، يصر الأكراد على ضرورة الاستمرار بمنح إقليمهم 17 في المئة من واردات النفط العراقية.
    م. ع.



    حضارة بلاد الرافدين تنزف آثارها
    جوان فرشخ بجالي
    تاريخياً عرف العراق ببلاد الرافدين. فبين دجلة والفرات نمت الحضارات الثلاث (السومرية والاشورية والبابلية) التي شكلت أساس حياتنا اليومية. فالكتابة، والحساب والفنون والقانون بدأت على ضفاف هذين النهرين. لكن مهد الحضارات هذا يتعرض اليوم ومنذ أربع سنوات بلا انقطاع لأسوأ عملية نهب وتدمير على الاطلاق. أصبحت المواقع الاثرية معقلاً للصوص والتجار الذين يمحون الماضي للحصول على قطع فنية، كله بعلم القوات الاميركية والحكومة العراقية اللذين يغضان النظر.
    فبينما كانت الجيوش الغازية تتقدم نحو العاصمة بغداد وتحتل المدن العراقية الواحدة تلو الأخرى، كان تجار ومهربو الآثار يبحثون في القرى والمدن الصغيرة عن «عمال» يوظفونهم في نهب المواقع السومرية. فهم يستفيدون من الحرب والفوضى التي تلحق بها لإقامة حفريات غير شرعية تعاقب عادة في العراق بالإعدام. هدفهم جني الثروات عبر إرضاء الاسواق العالمية وتلبية متطلبات زبائنهم من محبي جمع التحف في أوروبا وأميركا واليابان. فمع كل مغيب شمس لا يخسر العراق فقط أبناءه وبناته بل أيضاً ماضيه. والآثار تشبه البشر من ناحية واحدة: إن دمرت فهي ضاعت إلى الأبد، إذ لا عودة بالزمن الى الوراء.
    لكن ما لم يدركه مهربو الآثار وتجارها، حينما بدأوا حملات النهب، هو أن القوات الاميركية لن تحاول إيقافهم. فهم ينهبون من دون انقطاع منذ أربع سنوات. ينهبون ماذا؟ ينهبون مهد البشرية. فـتاريخ بداية الحضارة يـــــــدمر كل يوم اكثر فأكثر.
    ويشرح في هذا الإطار البروفسور في جامعة السوربون جان لويس هيو «ان اهمية حضارات جنوب العراق تكمن في تجسيدها للتمدن. ففي الألف الرابع قبل الميلاد تحوّل الانسان الذي كان يسكن تلك المنطقة من مزارع يعيش في قرية الى إنسان يقطن مدينة يسكنها آلاف البشر ولها شوارعها ومعابدها وقصورها وأحياؤها الغنية والفقيرة، ولها جيشها ومكتباتها. مدينة أسست تلك التي نسكنها نحن اليوم. فالكتابة والحساب وخرائط النجوم ونحت الإنسان والأشكال بشكلها الدقيق ولدت كلها في جنوب العراق.
    واليوم تلك المدن السومرية مباحة لمهربي الآثار الذين يستغلون الوضع الاقتصادي الراهن لزيادة السرقات. فمع انعدام وجود فرص عمل أو حتى صعوبة تصريف المنتجات الزراعية، تحوّل سكان قرى جنوب العراق الى سارقي آثار محترفين. فهم يعملون بالمئات على المواقع، يدمرونها بحثاً عن قطع يبيعونها للتجار. فهم يعرفون ما يطلبه السوق، وبحثهم الاول يكون عن المجوهرات والقبور، ثم نحو المكتبات حيث الرُقم الطينية التي كتب عليها تاريخ تلك المدن باللغة المسمارية، ويبحثون أيضاً عن التماثيل، والقطع الصغيرة ذات الأشكال الحيوانية.
    وفي المقابل تحاول الهيئة العليا للآثار والتراث بذل ما يمكنها لوقف هذا النزف من القطع. فقد أنشأت سنة 2004 شرطة خاصة لحماية المواقع الأثرية وزودت بـ100 سيارة لإقامة الدوريات حول الـ10 آلاف موقع اثري المنتشرة في العراق. إلا أنها تعاني مشاكل مادية ونقصاً في السيولة لدفع الأجور أو حتى ثمن المحروقات للقيام بالدوريات.
    وكان الدكتور عباس الحسيني، المدير العام للهيئة العليا للآثار في العراق، قد صرح أخيراً «بأن المشكلة تكمن في تحديد الموقع الذي يتعرض للنهب، وبالتالي ملاحقة السارقين». فالمساحات بين المواقع الاثرية شاسعة ولا يمكن لدورية التأكد مما يحصل في المناطق في يوم واحد، إلا إذا زوّدت بطائرات نفاثة لتجول فوقها، او بمراقبة جوية عبر الاقمار الاصطناعية، كالتي تستعملها القوات الاميركية لعملياتها العسكرية.
    لكن الحصول على هذا النوع من الدعم اللوجستي يتطلب قراراً سياسياً رفيع المستوى، إن كان من جهة القوات الاميركية او الحكومة العراقية. ومع الأسف لم يشعر أي منهما حتى اليوم بضرورة اتخاذ قرار كهذا. مع العلم بأن تاريخ العراق على المحك. فإذا بقيت أعمال السرقة على هذا المستوى على مدى السنوات المقبلة، فهناك خطر بأن تصبح حضارات العراق أسطورة يستحيل التأكد منها.
    تجار الآثار بحماية الأحزاب الدينية
    إن الاتجار بالآثار يدر أرباحاً طائلة، ما يجبر العاملين في هذا القطاع على تأمين الغطاء «الامني» والسياسي لهم. والواضح ان نفوذ تجار الآثار في العراق في تزايد، وهم الآن يحظون بغطاء الاحزاب الدينية. وحاول المسؤولون عن ملف الآثار لفت نظر الجهات العليا إلى هذه الظاهرة الخطرة. ولكن لم يعر احد هذه القضية انتباهاً حتى وقع ضحيتها المدير العام للآثار في محافظة ذي قار، السيد عبد الامير حمداني.
    ففي السنة الماضية حاول بعض من أصحاب النفوذ في تلك المنطقة شراء مساحات واسعة من الاراضي تحت غطاء تحويلها الى معامل آجر (طين يستعمل في البناء). ووصل الملف الى دائرة الآثار، وتبيّن أن المنطقة اثرية سومرية بامتياز. فتلال اثرية عديدة تنتشر داخلها، وتحويلها الى معامل يعني عملياً: نهب الآثار وتحويل الطين المستخرج في المعامل فتمحى آثار السرقة، الأرباح إذاً مزدوجة. فرفض حمداني الطلب لأنه يشكل خطراً على المواقع الاثرية. وما هي إلا أيام قليلة حتى تدخّل مسؤولو الاحزاب الدينية في مدينة الناصرية واتهموا عبد الأمير حمداني بهدر وسرقة الاموال، ورموه في السجن. استغرقت محاكمته ثلاثة اشهر، أخلي سبيله من بعدها لبراءته من تلك التهم.
    لكن هذه «الحادثة» متداولة في الأوساط الاثرية، وبحسب التقارير الاخبارية، فطلبات إنشاء معامل الآجر قرب المواقع الاثرية في تزايد دائم في كل المحافظات. فمن يحمي علماء الآثار من التدخل السياسي في عملهم؟
    المواقع الأثرية مراكز عسكرية
    تعد مدينة أور الواقعة في جنوب العراق، وعلى بعد بضعة كيلومترات من الناصرية، منشأ النبي إبراهيم الذي قاد شعبه من العراق نحو «أرض الميعاد». فللموقع إذاً أهمية تاريخية ودينية كبيرة، هذا بالاضافة الى أن الحفريات الاثرية التي اقيمت فيها في القرن التاسع عشر أظهرت مدينة سومرية ضخمة أغنت المتحفين البريطاني والعراقي بآلاف القطع الفريدة من نوعها.
    لكن منذ أربع سنوات أصبح هذا الموقع نقطة عسكرية ممنوعاً الدخول إليها. فلكل جيوش «قوات التحالف» العاملة في جنوب العراق مركز لا يبعد عن المدينة الاثرية أكثر من ثلاثة كيلومترات. ويتحدث العاملون في تلك المنطقة عن زيارات حج وصلاة يقوم بها جنود ومدنيون يهود أو مسيحيون للموقع الاثري. فهؤلاء «الحجاج» يصلّون في منزل إبراهيم النبي، ويزورون الموقع الاثري من دون اي رقابة. وبالطبع تؤمن القوات الاميركية كل التسهيلات لإنجاح زيارة الحج فيما تمنع المدير العام للآثار في محافظة ذي قار عبد الامير حمداني من الكشف على الموقع وتقييم الأضرار. ويؤكد حمداني «ان الزيارات المكثفة التي يقوم بها الجنود وهم يقودون سياراتهم العسكرية أو سيراً بأحذيتهم الثقيلة قد سبّبت أضراراً كثيرة على المباني، كما هو واضح في الزقورة (معبد مرتفع) والمدافن الملكية».
    ويقول حمداني إن القوات الأميركية أقامت مركزاً للتفتيش مكوّناً من كتل وحواجز ضخمة وأبراج مراقبة وخنادق في منطقة أثرية ملاصقة لموقع أورن فضاعت معالمه. هذا بالاضافة الى الاستهداف المستمر للقاعدة الجوية بقذائف الهاون التي في أحيان عديدة تخطئ أهدافها أو يكون مداها قصيراً، فتقع بالقرب من المدينة الأثرية او في داخلها.
    والجدير بالذكر أنه ليس هناك حديث لإبعاد هذه القاعدة العسكرية عن الموقع الاثري كما حدث في مدينة بابل. فالقوات الاميركية، أيام ما بعد الغزو، كانت قد اتخذت من هذه المدينة الاثرية التي تعد من الاهم في العالم، مركزاً لها. وأنشأت فيها مطاراً للطائرات النفاثة، ومن ثم حفرت حولها خندقاً واستعملت التراب المستخرج في تعبئة «اكياس الرمل» التي توضع قرب أبراج المراقبة.
    لكن التراب المستخرج من ارض مدينة بابل مليء بالقطع الاثرية. فقد عثر علماء الآثار على كتابات مسمارية، وقطع فخارية عليها رسوم داخل «أكياس الرمل» هذه. إضافة الى ذلك، كان الجنود المتمركزون في بابل يتسلون بإطلاق النار على المنحوتات في الطين التي تظهر الآلهة القديمة على أبواب المدينة. كما أن إقلاع الطائرات وهبوطها قرب المعابد والقصور البابلية أديا الى تصدع جدرانها. وبعد حملة عالمية بدأتها زينب بحراني، عالمة الآثار المدرسة في جامعة كولومبيا في نيويورك، والتقرير الذي نشره المتحف البريطاني عن الأضرار الجسيمة التي لحقت بالموقع، اضطرت القوات الاميركية والبولونية إلى مغادرة بابل. لكن الفرحة لم تدم كثيراً. فالجيش العراقي متمركز الآن داخل الموقع الاثري. ولا يحق لأحد الكشف على الآثار لتحديد الأضرار.



    متحف بغداد: من السرقة إلى الموت الإداري
    هل يمكن أن يكون لسرقة متحف بغداد حسنات؟ ذلك هو التساؤل الذي كان قائماً دخل قاعات المتحف شهوراً عديدة بعد سرقته في 10 و12 نيسان 2003 وضياع 15000 قطعة استرد منها فقط 5000 فقط.
    التساؤل عن الحسنات جاء بعد «فيضان» الهبات التي انهالت على علماء الآثار العراقيين والعاملين في القطاع بعد السرقة بأسابيع قليلة. فالإدارة الاميركية حاولت التخفيف من ذنبها بتقديم مليون دولار لتأمين الحماية للمبنى وتكييفه. إيطاليا واليابان قدمتا مختبراً متطوراً لترميم القطع الأثرية. بريطانيا وفرنسا والجامعات والمؤسسات العاملة في قطاع الآثار بدأت بتمويل دورات تدريبية للموظفين الذين عاشوا خلال فترة حكم صدام حسين في عزلة تامة عن العالم وليس لهم اطلاع على العلوم الحديثة في هذا المجال.
    كل هذه الجهود قد حققت المطلوب. فعلماء الآثار العراقيون اليوم على صلة بزملائهم وهم يجيدون تطبيق تلك النظريات، ولكن كيف يتم ذلك. فالمختبر يعمل على الطاقة الكهربائية وما من كهرباء في بغداد. وترميم المباني الأثرية يتطلب في الحد الادنى زيارتها للكشف عليها، ولكن كيف يتجول المرء في العراق؟ ارتاحت ضمائر المسؤولين في العالم حينما وفروا لعلماء الآثار العراقيين الدورات التدريبية اللازمة، ولكن كيف يستفيد منها متحف بغداد وهو واقع على تقاطع طرقات قاتل يسيطر عليه القناصون؟ وكيف يطبقها العاملون فيه وإدارتهم رازحة تحت عبء وزارتين تتنافسان السلطة عليه؟ وضع المتحف مثل وضع العراق: من سيّئ الى أسوأ.