strong>حيفا ــ فراس خطيب
«فقدت ساقي من أجل استعادة أرضي المصادرة. ماذا كانت ستفيدني ساقي لو أني خسرت أرضي؟»

على مقربة من النصب التذكاري في مدينة سخنين، وتحديداً في الزاوية التي لا تلتقطها الكاميرات، تجلس امرأة فلسطينية تعدت السبعين من عمرها، سحنتها سمراء متعبة، لا تلفت الأنظار بجلستها البعيدة. كانت تمرر يديها المتعبتين على قبر أحد الشهداء وتبكي بهدوء. «هكذا اعتادت منذ سنوات»، قال واحد من معارفها، «أن تأتي إلى هذا المكان، وأن تجلس على مقربة منه، وأن تعود بذاكرتها إلى يوم سقوطه في الثلاثين من آذار عام 1976»، يوم الأرض الأول.
الشمس كانت مشرقة أمس، واضحة وساطعة، تماماً كما الذكرى مشرقة. الفلسطينيون الجليليون يتوافدون ببطء نحو مدينة سخنين، حيث التظاهرة المركزية. المسنون يتوافدون أولاً، بعضهم يشعل سجائره منتظراً الحشد متفائلاً.
«هذه ليست ذكرى جماعية فقط، هذه شخصية أيضاً»، يقول الحاج أبو كمال، مستعيداً قصته «في ذلك اليوم، في عام 1976، فقدت ساقي من أجل استعادة أرضي المصادرة. ماذا كانت ستفيدني ساقي لو أني خسرت أرضي؟»
الناس يتوافدون اكثر، أعلام فلسطين تهيمن على المشهد الربيعي. هذه المرة، حضور الشباب يبدو واضحاً، والمسيرة تكتسب طابعاً شبابياً أكثر من كل مرة. ربطات فلسطين على الرأس ونظارات شمسية وأدوات نضالية شبابية.
أعلام الأحزاب العربية جزء من المشهد: «التجمع الوطني»، «الحزب الشيوعي»، «الجبهة الديموقراطية»، و«الحركة الإسلامية».
«مشهد الشباب يفتح القلب»، يقول أحد المسؤولين، مضيفاً «هؤلاء، من تراهم يلبسون عالموضة، سيقودون المسيرة ذات يوم».
سخنين مدينة يسكنها أكثر من ثلاثين ألفاً، تصدت لمخططات كثيرة من جانب سلطة الاحتلال ولا تزال، كمثلها من المدن الفلسطينية تعاني.
سخنين هي الضلع الثالث في «مثلث يوم الأرض؟»، هكذا سميت منذ عام 1976. يبدأ هذا المثلث في قرية دير حنا، وصولاً إلى قرية عرابة، انتهاءً بسخنين. هذه القرى الثلاث كانت أول من هبّت عام 1976 ضد مخططات السلطة الاسرائيلية لمصادرة أكثر من 60 الف دونم من اراضيهم، لبناء المستوطنات.
«دخل الجيش والشرطة، جرحى، دبابات وأسلحة ثقيلة، شهداء وجرحى وزجاج محطم على طول الطريق. لكننا انتصرنا نهاية»، يقول أحد سكان عرابة، ممن عاصروا يوم الأرض، «خير ياسين (شهيد)، سقط أمام عيني».
في الثالث عشر من شباط عام 1976، صدر قرار من الحاكم العسكري الاسرائيلي بإغلاق المنطقة الرقم 9 التي يسميها الفسطينيون بـ«المل». تمتد هذه المساحة على محور القرى الثلاث، وفي الأول من آذار من العام نفسه، أصدر متصرف لواء الشمال في وزارة الداخلية يسرائيل كينغ، وثيقة سميت «وثيقة كينغ»، قدمّها إلى الحكومة الاسرائيلية في حينه، عرض من خلالها اقتراحات لتهويد الجليل واتخاذ إجراءات سياسية إزاء معاملة الفلسطينيين في الداخل.
وحذّر كينغ من خلال وثيقته من «ازدياد تعداد الفلسطينيين في اللواء الشمالي، الذي أصبح مساوياً تقريباً لعدد اليهود»، مضيفاً «خلال سنوات قليلة سوف يصبح الفلسطينيون أكثرية سكانية، الأمر الذي يمثّل خطراً جسيماً».
في اعقاب الوثيقة وقرار المصادرة، أعلنت لجنة المتابعة العليا للجماهير الفلسطينية عن يوم الثلاثين من آذار إضراباً عاماً. لا يزال التاريخ يذكر هذا الإضراب على أنه من اكثر الاضرابات ضجة والتزاماً. وحذرت السلطات الاسرائيلية الفلسطينيين في الداخل من قمع هذا الاضراب، وهددت نقابات العمال الاسرائيلية بطرد العمال الذين يلتزمونه، فيما بعثت وزارة التربية والتعليم انذارات إلى المدارس العربية، الا أنَّ هذا لم يمنع نجاحه.
بدأت الاحداث يوم 29 آذار 1976 بتظاهرة شعبية في قرية دير حنا امتدت في اليوم الثاني إلى قرية عرابة، حيث كان قمع السلطة اشد، وسقط هناك أول شهيد اسمه خير ياسين، إضافة الى عشرات الجرحى.
أدى خبر الاستشهاد الى اتساع دائرة التظاهرات والاحتجاج في المناطق العربية كلها في اليوم التالي. وخلال المواجهات في اليوم الاول والثاني سقط ستة شهداء في عرابة وسخنين وكفر كنا والطيبة، بينهم امرأة اسمها خديجة شواهنة.
المسيرة المركزية أمس بدأت في سخنين وأخذت تكبر تدريجياً. كان المتظاهرون يهتفون شعارات لا تتوقف عند يوم الارض، بدأت الشعارات من فلسطين وصولاً إلى لبنان وانتهاءً بالأقصى. كان اليوم منبراً للغضب ضد السلطات الاسرائيلية، وممارساتها المستمرة لـ«تلوين المدى» وسياسة هدم البيوت ومصادرة الأراضي في النقب والجليل وتضييق الحصار على القرى العربية.
التظاهرة انتهت بمهرجان خطابي على مقربة من النصب التذكاري، تواكب مع وصول مسيرتين من عرابة ودير حنا. الخطباء شددوا عل ضرورة النضال. فلسطين تقتحم المشهد والخطاب. لنجعل من يوم الأرض «صرخة ضد الظلمات».
ويقول النائب واصل طه، من التجمع الوطني الديموقراطي، لـ«الأخبار»، إن «الأرض دائماً وأبداً ستبقى في قمة سلم التحديات والاحتجاجات»، مشيراً إلى أنَّ «هذه المناسبة تؤكد أن النضال والتصميم يأتيان بالثمار».
وعقّب الأمين العام للحزب الشيوعي، عصام مخول، لـ«الأخبار»، «هذا يأتي في ظل التصعيد ضد الجماهير الفلسطينية» ، موضحاً «ان يوم الارض الذي كان عام 76 حوَّل الارض التي كنا نزرعها إلى قطعة من وطن، وحوّل الجماهير إلى أقلية لا تساوم».
المسيرة انتهت. الناس بدأوا يعودون، ومجموعة شبان من كل الحركات السياسية يغنون، «أنا ما هنت في وطني ولا نكّست أعلامي، وصنت العشب الأخضر فوق قبور أسلافي»..
جزء آخر استقل سيارته، وآخرون عادوا الى الحافلات. وحدها والدة الشهيد بقيت وحيدة إلى جانب قبره.


strong>إن يوم الأرض، الذي كان عام 76،
حوَّل الأرض، التي كنا نزرعها إلى قطعة من
وطن، وحوّل الجماهير إلى أقلية لا تساوم