معمر عطوي
المتابع لتطورات الحياة السياسية التركية والمنعطفات الخطيرة التي مرت بها التيارات الإسلامية في ظل النظام المتطرف بعلمانيته، يدرك أن شخصية رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان هي شخصية استثنائية، إذا صح القول، برزت إلى ساحة الأحداث وسط ظروف أيضاً استثنائية، ميزتها تحولات سياسية عاصفة إقليمياً ودولياً، حملت خلالها انتخابات محلية إلى السلطة تياراً كان في ما مضى من التيارات الممنوعة من ممارسة العمل السياسي.
لقد خط الرجل سياسة جديدة لتركيا العلمانية، التي تجلببت، مع وصول حزبه (العدالة والتنمية) إلى السلطة، بعباءة إسلامية من دون أن تخلع طربوش مؤسس “تركيا الحديثة” مصطفى كمال اتاتورك.
واللافت أن أردوغان لم يأت على ذكر الدين، في خطاب فوزه، بل استشهد بأتاتورك اثناء قوله إن الحكم هو للشعب، ودعوته إلى تطبيق المبادئ العلمانية في تركيا. وأدى عمدة إسطنبول السابق دوره بذكاء وحنكة سياسيتين عندما وضع “مسَلَّمات الإسلام” جانباً، ليتعامل مع السياسة من منطلق كونها “فن الممكن”.
تبلور ذلك من خلال مواقفه التي واكبت التحولات الإقليمية والدولية وإجراءات بحث انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، أي الغمز من قناة الديموقراطية واحترام رأي الشعب. وربما كانت التعديلات الدستورية والقانونية التي أقرها البرلمان خلال الأعوام الماضية، والتي تعترف بحق الأكراد في استخدام لغتهم في وسائل الإعلام والمدارس والمعاهد الخاصة، تصب في هذا الإطار.
واستطاع أردوغان تقليص حجم الهوة بين الإسلاميين والعسكر المدعومين من رئيس الجمهورية أحمد نجدت سيزر والقوى العلمانية، في ما يتعلق بفهم وتفسير المخاطر التي تهدد النظام العلماني الديموقراطي.
وكان الموقف التركي متميزاً إزاء المواقف التي برزت خلال حرب الخليج “الثالثة”، وخصوصاً مواقف دول الجوار العراقي، تجاه فتح الجبهة الشمالية أمام قوات الاحتلال الاميركي. كان غير متوقع، إن لم نقل مفاجأة للمراقبين، الذين رصدوا الثمن السياسي الذي قد تقبضه أنقرة بدخول قواتها إلى شمال العراق لمحاربة الأكراد، والاقتصادي المتمثل بزيادة المساعدات وموافقة البنك الدولي على منحها قروضاً ميسّرة إضافية.
ومما لا شك فيه، أن الفترة التي تسلم فيها مهامه أحيطت بضغوط أميركية كثيفة استهدفت الموافقة على نشر قوات أميركية في البلاد أو فتح الأجواء أمام الطائرات التي تستخدم للإغارة على مواقع في العراق.
ورغم معارضته لبعض التوجهات الأميركية، يحاول أردوغان قدر المستطاع تجنب غضب واشنطن، التي لا تزال أنقرة بحاجة إلى مساعداتها المالية ودعمها السياسي، إن كان لجهة الانضمام إلى المنظومة الأوروبية أو لجهة دعم ترشيح أردوغان نفسه لرئاسة الجمهورية هذا العام، إذ يرى في الدعم الأميركي تعزيزاً لدوره وحضوره في مواجهة مؤسسة الجيش والأحزاب العلمانية.
وفي الأعوام الاخيرة أدت تركيا أردوغان دوراً مكثفاً في تعزيز العلاقات على المستويين الإقليمي والدولي، وقامت بمساع ووساطات على أكثر من خط. ففي ملف انضمامها للاتحاد الأوروبي، قامت بالعديد من الإصلاحات الداخلية، كما أبدت بعض المرونة تجاه القضية القبرصية تمهيداً لبحث مسألة الانضمام.
وتمكنت أنقرة على الصعيد الإقليمي من أن تنسج العديد من العلاقات من خلال موقفها الموحد مع إيران وسوريا تجاه المسألة الكردية وتجاه التمسك بوحدة العراق. كما تلقت المبادرة السورية، التي تمثلت بزيارة الرئيس بشار الأسد لأنقرة، بإيجابية بالغة أفسحت في المجال أمام تعزيز التعاون على أكثر من صعيد، أبرزه الأمني، كما رفع الجانبان من مستوى التنسيق في مواجهة الأكراد. واستطاعت أنقرة تحقيق مكسب آخر بضمان عدم تطرق سوريا إلى قضية لواء الإسكندرون السوري المسلوب من الدولة الإسلامية.
وسعت أنقرة في هذا السياق إلى القيام بمساع دبلوماسية لإعادة المفاوضات بين دمشق وتل أبيب، كذلك إلى إعادة بعض الحرارة لخط العلاقات بين دمشق وواشنطن.
كما كان لزيارة الملك السعودي عبد الله إلى أنقرة منتصف العام الماضي، أهمية عززت حضور تركيا في المنطقة العربية. وأرست أنقرة لعبة توازن استطاعت من خلالها التوفيق بين دعم حركة “حماس” في تولي الحكومة الفلسطينية، واستقبال قادتها من جهة، وانتقاد الممارسات الإسرائيلية في فلسطين ولبنان من جهة أخرى، واستمرت، في الوقت نفسه، بعلاقتها مع تل أبيب.
ولعل موافقة تركيا على المشاركة في القوات الدولية في لبنان، رغم معارضة الشارع التركي والعديد من الأحزاب، تصب في سياسة الغزل تجاه واشنطن وتل أبيب، التي تجد من مصلحتها مشاركة قوات إسلامية سنية في مواجهة مع حزب الله الشيعي. كما تصب هذه الخطوة في زيادة رصيد تركيا أمام الدول الأوروبية وتعزز رصيدها في الانضمام إلى النادي الأوروبي.
إلا أن أردوغان يصر على بقاء علاقته الطيبة مع طهران، فقد حرصت أنقرة على عدم الانخراط في حلف الدول العربية والإسلامية السنية الذي روجت له دوائر الاستخبارات الأميركية تحت شعار مواجهة “الخطر الشيعي الإيراني”.
ويبدو ان اردوغان يفهم جيداً مدى تأثير الدور السوري على بعض التيارات السياسية المعارضة في لبنان، لذلك استبق زيارته لبيروت بزيارة لدمشق، مبدياً استعداده لبحث مسألة تقريب وجهات النظر بين الرياض ودمشق. وفي السياق نفسه، يأتي الدور الإيراني الذي يفهمه المسؤول التركي جيداً، وهذا ما تمثل بدعوته السلطة اللبنانية إلى محاورة طهران.
ويبقى السؤال المطروح هنا: هل يستطيع أردوغان بما يملك من علاقات وحنكة سياسية أن ينجح في تسوية المسألة اللبنانية، حيث عجز العرب عن ذلك؟