باريس ــ بسّام الطيارة
لم يعد التوتر بين الإليزيه وبين وزارتي الداخلية والخارجية الفرنسيتين، مجرد جدال وراء الستائر المخملية، فمع اقتراب معركة الرئاسة الحامية، تتصاعد حدة الصراعات داخل أجنحة السلطة الفرنسية بشأن بعض الملفات الخارجية، خصوصاً المبادرة “الاحادية” التي كان الرئيس جاك شيراك يعتزم اتخاذها حيال ايران في محاولة لحل الأزمة اللبنانية

يتساءل الفرنسيون “لماذا لا يعلن جاك شيراك نياته بشأن الترشح أو عدم الترشح؟”. الجواب ببساطة هو أن شيراك يدرك تماماً عدم إمكان ترشحه لغياب أي أمل في سباق الرئاسة، إلا أنه يدرك بحكم خبرته أنه ما دام لم يعلن قراره فإنه “يظل داخل اللعبة” كما يقول أحد المراقبين، ويستطيع التأثير قليلاً على قواعد السلطة عن طريق التلويح بالترشح، وهو ما يهدد آمال وزير الداخلية نيكولا ساركوزي الذي بات مرشح اليمين الرسمي.
إلا أن بعض السياسيين اعترض على التوجهات المعلنة للرئيس، ومنهم ساركوزي الذي جاهر برغبته في “قطيعة” مع السياسة المتبعة حتى الآن في العديد من المجالات، ومنها السياسة الخارجية. وقد لحق به أخيراً وزير الخارجية فيليب دوست بلازي الذي بات يعترض علانية على التوجهات العامة للدبلوماسية الفرنسية، والتي هي، إلى جانب حقل الدفاع، في صميم صلاحيات الرئيس في النظام الفرنسي، وهو ما لم تشهده فرنسا بتاتاً حتى في عهد التعايش بين الاشتراكيين واليمين.
ويفسر البعض “شجاعة” دوست بلازي بانهيار السلطة الفعلية للرئيس واصطفاف معظم الوزراء وراء وزير الداخلية، بالإضافة إلى ضعف رئيس الوزراء.
ومن هنا، فإن مراقبة دقيقة للدبلوماسية الفرنسية تشير إلى أنها تجتاز مرحلة دقيقة جداً وخصوصاً في ما يتعلق بالشرق الأوسط.
فقد كتبت صحيفة “اللوموند” قبل يومين تحليلاً مفاده أن فرنسا تسعى إلى إعادة ربط ما انقطع مع إيران منذ صدور القرار ١٧٣٧. إلا أنه تبين بعد التدقيق مع عدد من المراجع أنها “مجرد فكرة يجري تتداولها” كما صرح مرجع مسؤول.
وبحسب بعض المصادر، فإن “دوائر وزارة الخارجية عارضت فكرة الانفتاح على إيران” في هذه المرحلة، خصوصاً أن “فترة السماح” التي أعطاها قرار مجلس الأمن، أي ٦٠ يوماً، لا تزال في منتصفها، “ولم تعط مفعولها”. وهو ما دفع الإليزيه إلى القول إن الأمر مجرد فكرة فيما يراه بعض المراقبين “بالون اختبار أسقطته وزارة الخارجية”. ويضيف هؤلاء أن خبراء وزارة الخارجية يدركون أن فرنسا لا تملك “ذخيرة تغذي مفاوضات مباشرة مع إيران”، بمعنى أن فرنسا لا تملك ما تقدمه في مقابل أي خطوة إيجابية يمكن أن تقدم عليها إيران، وأن الملف النووي هو بين أيدي الأمم المتحدة ولا تستطيع باريس تقديم أي وعود في ما يتعلق به، “فيما تبقى فرنسا خارج اللعبة منذ مدة طويلة في ما يتعلق بملف العراق” بحسب دبلوماسي في باريس.
ويقول بعض الدبلوماسيين إن فريق ساركوزي يعرف مكامن ضعف تحرك شيراك، وتحليل هذا الفريق هو أن “المبعوث الفرنسي الى ايران إذا أرسل” لمناقشة الملف اللبناني كما يقول فريق الإليزيه، فإن من الصعب جداً أن تستطيع فرنسا تقديم أي حوافز لطهران في هذا الملف. فهي “إن استطاعت الحصول على تقدم في الملف اللبناني لا تستطيع أن تدفع ثمنه في الملفات الثانية أي النووي والعراق”.
وأعاد وزير الخارجية الفرنسي، خلال مقابلة مع محطة “بي إف إم”، نفي أي نية له بالسفر إلى إيران، مشدداً على ضرورة التضامن مع الأسرة الدولية ومجلس الأمن الذي “أصدر قرار عقوبات ضد إيران بالإجماع”. وقال إنه يجب إيصال رسالة إلى إيران تفيد “بأننا سنعاقبكم”. وصرح بأنه لا يرى ضرورة لربط الملف اللبناني بإيران، ولا وجود لأي رابط بين مؤتمر “باريس ٣” وفكرة إرسال مبعوث إلى طهران لإنجاح المؤتمر. فهو شدد على أن المؤتمر سيكون “لدعم حكومة (فؤاد) السنيورة الشرعية”. وأضاف “يجب أن يعلم الجميع أن زعيم حزب الله السيد (حسن) نصر الله يملك الأموال، ومن هنا يجب إعطاء السنيورة دعمنا ودعم المجتمع الدولي”.
لكن إذا وضعنا جانباً لعبة ميزان القوى في الساحة الداخلية الفرنسية، فإن توجهات دوست بلازي إن دلت على شيء فهو أنه يضع المعالم الأولى لسياسة ساركوزي في حال وصوله إلى الحكم، والتي تذهب في اتجاه السياسة الأميركية المتشددة كما أعلن خلال زيارته لواشنطن.
ويرى بعض المراقبين أن شيراك بات متأكداً أنه لا يستطيع التأثير على الملف الإيراني الذي “اتخذ منحى التصعيد”، والذي يمكن أن يبلغ ذروته بعد أن يرحل عن الإليزيه، لذا فهو أراد الانفتاح على إيران في محاولة لإنجاح الملف اللبناني ولو اضطر إلى بعض التنازلات، وهو ما تعارضه واشنطن ويبدو أن ساركوزي يعارضه.
ويروي أحد الذين حضروا حفل تهاني رأس السنة في وزارة الخارجية، غداة صدور مقال “اللوموند”، أن “مناقشة حامية دارت بين دوست بلازي وأحد أقرب المقربين من شيراك” محورها هذا التباين والتسريبات التي صدرت عن الإليزيه عن إمكان إرسال الوزير إلى طهران.
وتقول بعض المصادر إن دوست بلازي بات “في عالم ما بعد الانتخابات” وهو لا يرى أي منفعة لفرنسا “العهد الجديد” في أن تكبل نفسها بوعود يمكن ألا تستطيع الوفاء بها.
وكانت وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس قد انتقدت ضمناً اول من امس في برلين عزم فرنسا على ارسال مبعوث الى ايران لمناقشة الوضع في لبنان.