واشنطن ــ محمد دلبح
يبدو الرئيس الأميركي مثل ربان السفينة الغارقة الذي يحاول التخلص من الحمولة الزائدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فبعد وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، ها هو جون بولتون يُرمى من «السفينة» الأميركية، التي تغرق شيئاً فشيئاً في رمال العراق والشرق الأوسط

طوى إعلان الرئيس الأميركي جورج بوش استقالة مندوبه لدى الأمم المتحدة جون بولتون صفحة أخرى من صفحات اليمين الأميركي المتطرف، ويؤذن بتراجع نفوذهم في صنع السياسة في واشنطن.
وكان واضحاً أن هزيمة الجمهوريين في انتخابات الكونغرس النصفية في تشرين الثاني الماضي ستؤدي إلى عرقلة مشروع اليمين المتطرف بإطاحة بعض رموزه في حكومة بوش، وأن تأكيد الرئيس الأميركي، عقب فوز الديموقراطيين، مواصلة التمسك بوزير دفاعه دونالد رامسفيلد وجون بولتون حتى نهاية ولايته الرئاسية، لم يكن سوى أحد اشكال التحدي الذي يبديه عادة من لا يريد الاعتراف بالهزيمة.
وكانت تقديرات خبراء ومحللين تشير إلى أن بوش سيعمد إلى استبدال بولتون في شهر كانون الثاني المقبل، لكن قرار التخلي عنه جاء سريعاً قبل يوم واحد من جلسة الاستماع في مجلس الشيوخ للنظر في المصادقة على تعيين روبرت غيتس وزيراً للدفاعوكان بولتون قد عُيّن مندوباً لدى الأمم المتحدة في آب 2005 خلال عطلة الكونغرس السنوية من دون أن يحصل على مصادقة مجلس الشيوخ، استناداً إلى صلاحية الرئيس الأميركي باتخاذ مثل ذلك القرار ولكن لمرة واحدة.
وقال العضو الجمهوري البارز في مجلس الشيوخ لنكولن شافي، الذي خسر مقعده في الانتخابات الأخيرة، والذي كان قد عارض تعيين بولتون: «لقد أعرب الشعب الأميركي عن اعتراضه على سياسة الرئيس في عدد من الجبهات، وبكل تأكيد، فإن السياسة الخارجية هي واحدة من هذه الجبهات».
وجون بولتون كان يحظى، خلال توليه منصب وكيل وزارة الخارجية الأميركية لشؤون الحد من التسلح والأمن الدولي، بلقب «مجنون مشرف على معمل مفرقعات»، وفق تعبير وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول.
ولحقت بالمندوب الأميركي صفات أخرى، فالديموقراطيون وصفوه بـ«البلطجي» الذي يحظى بتاريخ من تعنيف وتوبيخ من يعملون معه والسعي لإبعادهم إذا كانوا يختلفون معه في التقييم والرأي. واتهمه زملاؤه بإساءة معاملة مرؤوسيه وتعليقاته السلبية إزاء الأمم المتحدة باعتبارها مسؤولة عن تنفيذ القانون الدولي في ما يتعلق بالحرب والسلم.
فبولتون، الذي درس الحقوق في جامعة ييل، أصبح أحد كبار المحامين، واشتهر بقدرته على إيجاد الثغرات في القوانين والأنظمة وكيفية التحايل عليها، وهو ما دفع أحد المفكرين إلى القول إن بولتون «يحلل الحرام ويحرّم الحلال»، وإنه لو لم تفتح أمامه أبواب المناصب الرسمية لكان من أشهر وأكبر زعماء المافيا في العالم.
موقف بولتون من الأمم المتحدة أكسبه شهرة لا تقل عن شهرة زميله بول وولفويتز باحتقار القانون الدولي؛ فبولتون لم يكن يعترف بالمنظمة الدولية، ونقل عنه قوله: «لا يوجد شيء اسمه الأمم المتحدة... لو اختفى من مبنى الأمم المتحدة في نيويورك عشرة طوابق، من ثمانية وثلاثين طابقاً، لما شعرت بذلك ولما تأثر الكون والعالم».
وهو لا يقيم وزناً للقانون الدولي، إلا من زاوية تحقيق أغراض السياسة الخارجية الأميركية، فقد سبق أن قال في العام 1997 إن المعاهدات الدولية ليست قانوناً ملزماً للولايات المتحدة، وإنها ليست سوى ترتيبات سياسية يمكن التحلل منها، إلا في حال كون هذه المعاهدات تخدم المصالح الأميركية. فقد كان من أشد معارضي توقيع معاهدة محكمة الجنايات الدولية.
وعمل بولتون مستشاراً للرئيس الأسبق رونالد ريغان ولمؤسسة «هيرتيج» اليمينية. وهو ممن تبنوا أفكار ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر، وطوروها طبقاً لمصالحهم، فتضامنوا مع اللوبي اليهودي الإسرائيلي ولوبي صناعة الدواء ولوبي النفط.
وكان بولتون أحد مساعدي نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني في الفترة من 1991 إلى 1992، وأدى دوراً بارزاً في تخطيط السياسة الأميركية في الحرب على العراق عام 1991.
وبولتون من أشد مؤيدي الحرب على العراق، وشبّه عملية إسقاط الرئيس العراقي صدام حسين بـ«عملية محو آثار النازية التي قام بها الحلفاء في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية». وأعلن أكثر من مرة مخاوفه من امتلاك إيران للأسلحة البيولوجية وانتهاكها لمعاهدة الأسلحة البيولوجية عام 1972، وكذلك لمّح إلى كل من سوريا وليبيا.
وكان بولتون من أشد المتحمسين للعلاقات الأميركية الإسرائيلية، ودافع مرات عديدة على دعم الولايات المتحدة لبرامج تعاون أميركية إسرائيلية، والتزامها بتمويل مشاركة أميركية في مشاريع الأبحاث والتطوير. وعمل على إضافة سوريا وليبيا وكوبا إلى الدول التي يجب محاربتها بعد العراق. وساهم في تمرير القرارات المناهضة لسوريا وحزب الله في مجلس الأمن.
وكان إصرار بوش على تعيين بولتون قد جاء في لحظة كان مشروعه الإمبراطوري في أوجه، حيث كان يريد هز العصا أمام من يفكّر في عرقلة مشروع الهيمنة الكاملة، باستخدام أداة دولية هي الأمم المتحدة، ولكن طبقاً للقانون الأميركي وليس القانون الدولي، وطبقاً للتفسير الذي يقدمه متطرفو المحافظين الجدد.
وقد تخلى بوش عن بولتون بعدما تأكد أن الحرب على العراق، التي مثّلت تألق المشروع الإمبراطوري الأميركي، هي التي بدأت مع تعاظم الخسائر الأميركية في العراق إلى جانب انهيار مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، مع فشل «نشر الديموقراطية الأميركية» في المنطقة.
وساهمت هذه الملفات في دق المسامير في نعش «المشروع الإمبراطوري الأميركي». ولم يبق لمحبي بولتون وعشاقه في لبنان سوى البكاء على الأطلال، وتذكّر «درع الأرز» الذي كرموه به.