وائل عبد الفتاح
قد تكون قضية الشاب المصري عماد الكبير، من قضايا
التعذيب النادرة التي يلاقي فيها السجّانون الموزعون على معتقلات العالم العربي، الشيء البسيط من القصاص العادل، الذي يعيد للمعذّب القليل من كرامته المنتهكة بعصي «المغتصبين»


الفرق بين المشهدين سنة تقريباً.
الأول كان في 13 كانون الثاني 2006: نقيب الشرطة المصرية إسلام نبيه أنهى جولته المعتادة في حي بولاق الدكرور في القاهرة، الصين الشعبية، كما يطلق عليه دلالة على الزحام الشديد. يدخل غرفة التعذيب. يأمر فرقة مساعديه بتقييد سائق الحافلة عماد الكبير، ويدخل حاملاً سوطاً. ثم يأمرهم بخلع بنطال عماد، ويمسك بعصا غليظة ويدخلها في مؤخرته. وتختلط شتائم الضابط الثقيلة بآهات استغاثة الضحية وصرخات الألم الفظيع.
المشهد الثاني في 28 كانون الأول 2006: الضابط نفسه محاطاً بحراسة مشددة بعد صدور قرار النيابة بإحالته على محكمة الجنايات مسجوناً على ذمة التحقيقات في قضية تعذيب عماد الكبير.
لم يتخيل عماد بأنه سيرى المشهد الثاني في حياته أبداً. فهو ضحية جريمة تُعَدُّ الآن «عادية» في أقسام الشرطة المصرية. وتمر لأن الضحية لا تريد «الفضيحة» أولاً. ولأنها ترى الضابط رمزاً للسلطة. وأخيراً لأن الجريمة «سرية»، فلا شهود عليها غير الجلادين والضحية، تتم في آخر الليل. ومع مطلع النهار، تجد الضحية أن خروجها على قدميها لا إلى المشرحة حياة جديدة.
لكن عماد الكبير كتبت له نهاية مختلفة، لأن جريمة تعذيبه أصبحت علنية، وللمرة الأولى، مصورة.
هكذا استفادت الضحية من هوس الجلاد وميوله الاستعراضية، عندما تضمنت قراراته تصوير وقائع الحفل بكاميرا الهاتف النقال، لكي يكمل جريمته بفضح الضحية وسط زملاء موقف الحافلات الخاصة. وثانياً ليرسل إلى كل أهالي بولاق الدكرور رسالة، أن لا أحد بعيد عن الصيد، وأن المنطقة تحت سطوته.
تنقّلت اللقطات المصورة لـ«حفل» تعذيب عماد الكبير بين سائقي الحافلات، ومنها إلى أهالي المنطقة، حتى تلقاها مدوّن شاب يسمى مدونته «دماغ ماك»، ومنها انتقلت بسرعة البرق لتنضم إلى قائمة «كليبات» صورت بالطريقة نفسها لتعذيب في أقسام شرطة.
وفي أحدها يسخر الضابط من متهم يقف إلى الحائط، ويوجه له صفعات سريعة تثير ضحك جمهور يتفرج على المتهم وهو يسقط من تأثير الصفع العنيف. وهناك أيضاً فتاة تصرخ من ضربات بعصا غليظة على ظهرها، بينما تقف فتاة أخرى مرعوبة في ركن الغرفة.
هكذا تحوّل التعذيب إلى جريمة مصورة للمرة الأولى، بعدما كانت جريمة في حدود السمع وتناقل الحكايات. جريمة سرية تتم في السراديب.
أصبح التعذيب مع آلات التصوير الرقمية في الهواتف النقالية جريمة علنية، وخصوصاً عندما انتقلت الوقائع المصورة عبر تقنيات «البلوتوث» وتم تخزينها تحت اسم «حرام». ومعها تخزنت مشاعر غضب وسخط ورعب. ووصلت رسالة غير مكتوبة لكل من شاهد اللقطات بأنه «لن ينجو أحد من التعذيب».
وبدأ الكلام الأول خافتاً. فالضحايا مجهولون. وأماكن حفلات التعذيب غير معروفة. وعندما بدأ الحديث يتسرّب إلى الصحافة، التزمت وزارة الداخلية الصمت. وبدا أن هناك تنظيماً سرياً للتعذيب يحمي أبطال حفلات التعذيب في أقسام الشرطة، ويجعلهم يشعرون بأنهم فوق القانون، رغم أن المسؤولين المصريين يعلنون كلما فتح الملف أن «التعذيب في مصر ليس منهجياً. وأن هذه مجرد حالات فردية».
وكادت القضية تتحول إلى «زوبعة صحافية» في فنجان، كما تخيّل تنظيم التعذيب، وخصوصاً مع اختفاء الضحايا المباشرين للجرائم المصورة. إلا أن مدير المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، المحامي ناصر أمين، عثر على مفتاح لنقل القضية من حالة الصمت المؤلم إلى مغامرة «البحث عن المجرم».
وتقدّم أمين ببلاغ إلى النائب العام ضد وزير الداخلية يطالبه بتقديم المجرمين إلى العدالة.
وعلى غير المعتاد في هذه البلاغات، تحرّك النائب العام سريعاً، وفتح ملف التحقيق. واعتمد المسؤولون عن الشرطة على خيالهم القديم، وتعاملوا بمنطق أن البلاغ بلا أدلة ولا ضحايا وسيغلق تحت تأشيرة «لا وجه لإقامة الدعوى».
لكن المفاجآت تتالت بشكل مثير، فكشفت التحقيقات في المرحلة الأولى اسم الضابط بطل شريط الصفعات. واستدعته النيابة للتحقيق وسماع أقواله، فاعترف بأنه يعرف المتهم، لكن الضرب والضحك عليه هي عمليات تركيب ومونتاج.
الثغرة في التحقيقات كانت غياب الضحايا، رغم المناشدات عبر الصحف. بالطبع هم خائفون ومرعوبون من تكرار تجربة التعذيب.
اين كان عماد الكبير في تلك اللحظات؟
كان في مغامرة أخرى تماماً. حاول الوصول إلى الصحافة أو المحامي، بعدما قال له جيرانه إن صورته منشورة مع نداء للضحايا. وكما روى عماد عن تلك اللحظات، كان مشوشاً، فهو لم يتكلم في الموضوع أبداً رغم مرور كل تلك الفترة. ورغم أنه عرف بمشاهدة الناس لما حدث معه، التزم الصمت، رغم شعوره بأن أباه مات حسرة على ما حدث له عندما سمع تفاصيله من الجيران في موقف الحافلات أو في البيت.
ورغم كل شيء لم يتحرك إلا عندما أخبره الناس يوم 16 تشرين الثاني بأن الشرطة أخذت شقيقه إلى مركز الشرطة لأنه رفض أن يعطي أمين شرطة رشوة 5 جنيه هي في العرف إتاوة مفروضة. ويقول عماد: «خفت أن يتكرر معه ما حدث معي. فهرعت إلى المركز ودخلت على رئيس المباحث، لكنه طردني».
خرج عماد من المركز إلى البيت، حمل معه نسخاً من الأقراص المدمجة التي تحوي وقائع تعذيبه. أوقف سيارة أجرة وتوجه إلى بيت وزير الداخلية، حيث روى للحرس حكايته وطالبهم بإنقاذ شقيقه.
وكما يقول عماد، تأثّر ضابط كبير من الحرس بالمشاهد المعروضة على شاشة الهاتف النقال، فتشجّع عماد وطلب منه إنقاذ شقيقه. فقال له الضابط: «الموضوع ليس موضوع أخوك، الموضوع هو أنت. ولازم تأخد حقك انت».
ووجهه الضابط إلى مكتب الشكاوى في وزارة الداخلية. هناك قابله الضابط المسؤول بجفاء أثار فيه الرعب. فعاد مرة أخرى إلى بيت الوزير. فقرر الضابط الكبير أن يحوّل تعاطفه إلى فعل حقيقي، فاستدعى له ضابطاً من مباحث قسم بولاق الدكرور. وعندما دخل عماد إلى القسم من جديد، وفي مكتب رئيس المباحث، فوجئ بوجود 3 ضباط من رتب كبيرة، طلبوا سماع حكايته.
روى عماد الحكاية. سجّل ضباط التفتيش أقوال عماد وغادروا القسم مع أمر إلى مباحث بولاق الدكرور: «حلوا مشكلته». المباحث حلّت المشكلة على طريقتها. ظلت تحقّق مع عماد لمدة 48 ساعة، لكن الغرض الحقيقي من التحقيق كان طلباً واحداً: «لازم تتصالح يا عماد».
كيف؟ لم يسأل عماد، لكنّه تلقّى إجابة واحدة: «لازم تعدّل أقوالك في الشكوى». وهذا ما تم. أنكر عماد أنه تعرّف إلى الضابط الذي قام بتعذيبه.
وتصوّر الضابط والتنظيم، الذي يحميه، أن هذه هي النهاية السعيدة لقضية عماد الكبير. لم يعلموا أن هناك نهاية سعيدة أخرى، لكنها هذه المرة بالنسبة لعماد، الذى اختفى مجدداً، معتقداً أن الملف أغلق.
إلا أن أسبوعية «الفجر»، ألحّت على مقابلته ونشر صوره، وهو ما أعاد القضية إلى الحياة، وهو ما كان أكبر تطوّر في بلاغ ناصر أمين ضد جرائم التعذيب.
لكن الضابط ومن يحميه تحركوا، وارتفعت حدة الضغوط على عماد إلى حدود لا يطيقها أحد، من تهديد بالقتل واغتصاب الأم والشقيقات البنات، إلى الإخفاء من الوجود، وحتى الوعد بثروة كبيرة.
كان الهدف عدم ذهاب عماد إلى النيابة. لأنه عندما يروى التفاصيل أمام النيابة، فهذا يعني أنها أصبحت ملك المجتمع، وتحت حمايته.
وهذا ما حدث. ووقف عماد الكبير أمام مدير نيابة الحوادث في نيابة جنوب القاهرة بكر أحمد بكر، الذي قال له: «أنت في النيابة. يعني قل كل ما لديك بمنتهى الراحة». لم يتخيل عماد أنه يمكن أن يعامل بهذه الطريقة.
كان يحسب أنه متهم، لا «مجني عليه»، فحمل معه وثيقة الحالة الجنائية ليثبت أن ملفه «أبيض». روى كل شيء. وتخلص من ضغوط عائلته التي أصابتها رسائل ضباط المباحث بالرعب.
وتحوّلت قضية عماد الكبير إلى فضيحة كاملة الأوصاف. لم تعد مواجهة بين وحش وفريسة، ضابط جلاد وضحية منتهكة، بل بين قوتين.
ضابط مسلح بقوة عائلته ونفوذها في جهاز الأمن، ورغم أنه شعر بأن مستقبله مهدد بسبب عماد إلى درجة أنه توسل إليه: «اتنازل عن القضية يا عماد. فزوجتي حامل. اتنازل من أجل أبني. ولكي يرتاح ضميري، فانت تزورني في الكوابيس».
وفي الطرف الآخر إنسان عادي. تربى تربية صارمة من أب صعيدي.
لكن القضية مختلفة، فالمجتمع تحرك للمرة الأولى... والسبب هو: قوة الصورة واتساع انتشارها. حركة المجتمع أربكت التنظيم السري للتعذيب، الذي لم يعد قادراً على التخطيط بهدوء كالعادة والخروج مثل «الشعرة من العجين» في مثل هذه القضايا.
الصورة هذه المرة كانت واضحة، ودليلاً لا يمكن أن ينتهي. هناك جريمة. وضحية. ولا بد من ظهور المجرم. هذه هي الأزمة.
قبل دخوله النيابة، كان عماد الكبير أطلال شخص محطم. لكن بعد انتهاء التحقيق بعد 7 ساعات و45 ورقة، عرفت الابتسامة طريقها إلى وجهه، وبدا أنه ولد من جديد. لم يعد خائفاً.
وبدلاً من التلعثم ترتبت كلماته على الهاتف: لن أتنازل عن حقي.