«أيها الرفاق... العالم كله ينظر إليكم ويراكم كقوة قادرة على تدمير جحافل الغزاة الألمان...» (جوزيف ستالين، 31 تموز 1941)

تحيي روسيا اليوم ذكرى الانتصار على النازية في الحرب العالمية الثانية باستعراض عسكري في الساحة الحمراء كما جرت العادة. وللعرض العسكري هذه السنة خصوصيتان، الأولى كونه بمناسبة الذكرى السبعين للانتصار، والثانية لأهميته الديبلوماسية -السياسية لناحية مشاركة أو عدم مشاركة رؤساء بعض الدول الأجنبية فيه، على خلفية المواجهة الروسية الغربية في أوكرانيا، إذ ستشكل المشاركة في العرض أو عدمها مناسبة لتظهيرها بروتوكولياً.

فإذا كان العرض الذي أقيم منذ خمس سنوات (2010) في الذكرى الخامسة والستين للانتصار مناسبة أظهرت انفتاحاً دولياً تجاه موسكو، تظهّر بمشاركة أميركية، إضافة إلى المشاركة الأوروبية الواسعة، حيث شاركت قوات رمزية فرنسية، بريطانية وبولونية، فإن الأمر هذه السنة سيختلف.
اعتبر بوتين أن للعروض العسكرية في روسيا «قيمة بيداغوجية»


30 رئيساً من أصل 68 وجهت لهم الدعوة سيحضرون احتفالات روسيا اليوم

تستعيد العروض العسكرية الحديثة والمعاصرة تقليداً قديماً جداً، حيث عرف عدد من الحضارات القديمة، كبلاد ما بين النهرين منذ السومريين ومصر الفرعونية، شيئاً مشابهاً. وكان للعرض العسكري أهميته عند الرومان حيث كان «النصر» (triumphus)، وهو احتفال روماني بانتصار عسكري، يسير فيه جنرال منتصر في شوارع المدينة الخالدة على رأس جيشه، قبل أن تصبح هذه المراسم حكراً على الإمبراطور وعائلته منذ عهد أغسطس قيصر (63 ق.م ـ 14 ب.م). فأصبح الجنرال المنتصر يكتفي بالـ«ovatio» أي الانتصار الصغير، وهو احتفال آخر أقل أهمية من «النصر»، لكنه لا يقل عنه رسمية. وقد حافظت الإمبراطورية الرومانية الشرقية على تقاليد العرض، حيث كان الإمبراطور المنتصر يدخل القسطنطينية من «الباب المذهب» في الأسوار الأرضية ويتجه إلى ميدان السباق مروراً بمراحل واضحة وثابتة تقوده إلى قلب المدينة. وإذا كان العرض العسكري قديماً يتماهى مع تقنيات التشكيلات القتالية التي كانت تميّز الجيوش الكبرى كالجيش الروماني تاريخياً، إذ كان العرض هو نفسه تقنيّة القتال في ساحة المعركة لناحية تشكيل الفرق، كالفيالق الرومانية (Legion romaine)، أو الكتائب اليونانية (Phalange greque)، فللعروض العسكرية حالياً قيمة طقوسية مرتبطة بالدعاية وأيديولوجية الدولة.
تنظم عدة دول حالياً عروضاً عسكرية منتظمة بمناسبات ثابتة مختلفة، كفرنسا والصين وتركيا وروسيا. ويعد العرض العسكري الروسي من أكبرها وأكثرها شهرة منذ أيام الاتحاد السوفياتي السابق. وقد ورث الجيش الأحمر تقليد العروض العسكرية عن روسيا القيصرية. وكان العرض العسكري الأهم ينظم بمناسبة ذكرى الثورة البولشفية في تشرين الأول في الساحة الحمراء، ثاني أكبر ساحة في العالم بعد ساحة تيانن مين الصينية. أما بعد الحرب العالمية الثانية، فأضيف عرض جديد في ذكرى الانتصار السوفياتي على ألمانيا النازية.
شكلت الحرب العالمية الثانية، التي يسميها الروس الحرب الوطنية العظمى، منعطفاً تاريخياً كبيراً، ليس فقط في تاريخ روسيا المعاصر لناحية النتائج الجيوسياسية التي نتجت منها، بل شكلت أيضاً منعطفاً خاصاً في الوجدان الروسي، نظراً إلى كلفة الانتصار الباهظة. فبعد الغزو الألماني في حزيران 1941 وفشل النازيين بإخراج الجيش الأحمر من المعركة كقوة مقاتلة، ونجاح الروس في تثبيت الجبهات حول موسكو ولينينغراد (سان بطرسبرغ)، وخاصة بعد نقطة التحول التي شكلتها معركة ستالينغراد (فولغوغراد)، وبعد سلسلة من المعارك امتدت على طول سنوات الحرب الأربع، وصل الجيش الأحمر إلى قلب أوروبا، محرراً عدداً كبيراً من العواصم والمدن التي كان قد احتلها الألمان وصولاً إلى السيطرة على قسم من برلين في نيسان 1945. هذا الانتصار منحه وضعاً استراتيجياً مكّن ستالين من توسيع الإمبراطورية السوفياتية وضم الأراضي التي وصلها الجيش الأحمر إلى المعسكر الشرقي، بإقامة أنظمة سياسية تدور في فلك موسكو، وإقامة منطقة عازلة كبيرة بين العمق الروسي وأوروبا، منبع كل الهجمات التي واجهتها روسيا تاريخياً، منذ أيام مسكوبيا إلى اليوم.
في المقابل، فقد الاتحاد السوفياتي نحو 26 مليون شخص بين مدني وعسكري، إضافة إلى دمار كبير جداً في البنية التحتية. لذلك، فلذكرى الانتصار مكانة في وجدان الروس، من «يوم المدافعين عن الوطن» في 23 شباط، ووضع أكاليل الزهر على نصب المحاربين القدامى، وأهمها تلك الواقعة في مدافن دير «نوفوديفيتشي» التاريخي في موسكو، إلى كل التقاليد الموروثة من الحقبة السوفياتية والمتعلقة بذكرى الانتصار، وصولاً إلى العادات الشعبية بوضع الورود على أنصبة المدن البطلة ـ وهو لقب أعطي لاثنتي عشرة مدينة روسية دافع سكانها عنها ببسالة خلال الحرب العالمية الثانية ـ وخاصة نصب ستالينغراد، في حديقة «اليكساندروفسكي» المحاذية للكرملين والتي تضم أيضاً ضريح الجندي المجهول.
أقيم أول عرض عسكري بمناسبة الانتصار على النازية في موسكو في 24 حزيران 1945، بعد شهر ونيف على توقيع الطرف الألماني على الاستسلام  في الثامن من أيار في إحدى ضواحي برلين الشرقية، التاسع من أيار بتوقيت موسكو. وهو أكبر عرض عسكري في الساحة الحمراء على الإطلاق، شارك فيه نحو 40 ألف عسكري روسي، إضافة إلى مجموعة صغيرة من البولونيين، وبمشاركة ممثلين عن الحلفاء.
لم يصبح العرض العسكري بمناسبة الانتصار تقليداً سنوياً خلال الفترة السوفياتية، بالرغم من أهمية الذكرى. فقد نُظِّمَت أربعة عروض فقط بين 1945 و1990 (1945-1965-1985-1990). السبب الأول في عدم تحول الذكرى إلى مناسبة سنوية هو أهمية ذكرى الثورة البولشفية في تشرين الأول، ما لم يسمح بإرساء تقليد سنوية الانتصار حتى خلال فترة حكم ستالين. والسبب الثاني للمفارقة هو ربما ارتباط الانتصار بشخص ستالين نفسه، لأنه كان على رأس الاتحاد السوفياتي، فلم يبادر خروتشوف إلى تغيير الأمر الواقع، وحتى بريجنيف نفسه بالرغم من ستالينيته إلى حد ما، إذ اكتفى بعرض واحد سنة 1965.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي توقفت العروض العسكرية بمناسبة ذكرى ثورة 1917، بعد إقامة آخر عرض سنة 1990، وكان هذا التوقف مؤشراً إلى حالة الاهتراء التي عاشتها روسيا في هذه الفترة الانتقالية بين انهيار المنظومة السوفياتية وإعادة بناء ما تضرر من هيكلية الدولة، اقتصادياً ومالياً، وخاصة سياسياً لجهة تأكيد مركزية السلطة السياسية وإرادة موسكو بتأكيد سيادتها على كامل الأراضي الروسية بعد نزعات الانفصال التي ظهرت، خاصة في القوقاز. وكان العرض العسكري مناسبة لتأكيد هذا رمزياً، فجاء اختيار ذكرى الانتصار بديهياً إلى حد كبير كمناسبة جامعة في الوجدان القومي الروسي، فأقيم أول عرض بهذه المناسبة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي سنة 1995 خلال فترة حكم بوريس يلتسين.
مع وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة في سنة 2000، أولى العرض العسكري أهمية خاصة من هذا المنظار، خاصة في السنوات الست الأخيرة، حيث لوحظ اهتمام مستمر بتطوير العرض عديداً وعتاداً للعودة به إلى مستوى العروض السوفياتية، بغض النظر عن الكلفة التي بلغت نحو 50 مليون دولار في 2010. إذ اعتبر بوتين أن للعروض العسكرية في روسيا «قيمة بيداغوجية».
تقنياً، التحضير للعرض السنوي المركزي في أيار يبدأ في آخر العام الذي يسبق العرض على مستوى الوحدات والفرق التي ستشارك، وتتكثف مع اقتراب الموعد وصولاً إلى الأسبوع الأخير، حيث تقام عدة تمارين ليلية في الساحة الحمراء، إلى التمرين الأخير الذي سبق العرض هذه السنة يوم الخميس الماضي. وبالرغم من مركزية العرض الذي يقام في موسكو، ينبغي التذكير بباقي الاستعراضات التي تقام أيضاً سنوياً في عدد من المدن الروسية، وستقام في 28 مدينة هذا العام، من بينها سيباستوبول بعد استعادة روسيا لشبه جزيرة القرم.
وكما كانت المشاركة الغربية في العرض الأول في موسكو غداة الحرب العالمية الثانية تحمل مضامين سياسية، كذلك المشاركة في عرض 2010 في الذكرى الخامسة والستين للنصر، حيث شارك الرئيس الأميركي باراك أوباما شخصياً، إضافة إلى الفرنسيين والإنكليز والألمان والبولونيين... فإن للمشاركة أو عدمها في الذكرى هذه السنة مضامين سياسية. فموسكو وجهت دعوات إلى ثمانية وستين رئيس دولة وحكومة، إضافة إلى مسؤولي الأونيسكو والأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي والمجلس الأوروبي. وقد أكد أكثر من 30 رئيس دولة مشاركتهم في الاحتفالات، من بينهم رؤساء الصين، الهند، والرئيس المصري، فيما أعلن عدد آخر من الرؤساء عدم مشاكتهم في الاحتفالات، بينهم الرئيس الفرنسي الذي سيرسل وزير الخارجية لوضع إكليل من الزهر على ضريح الجندي المجهول دون حضور العرض، تماماً كالمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل. وفيما تأخذ المشاعر المعادية لروسيا بعداً آخر عند البولونيين، الذين بالرغم من أن بلدهم من أكثر البلدان تضرراً من الحرب العالمية الثانية، ومن مشاركة رئيسهم وجيشهم رمزياً في عرض 2010، اعتبر الرئيس البولوني، برونيسلاف كوموروفسكي أن العرض العسكري الروسي هذه السنة هو «استعراض للقوة» ولا علاقة له بالماضي، بل بالمستقبل، في إشارة إلى توجسه من عدوان روسي متخيل. ولم ينس البولونيون هذه السنة تنظيم احتفالاتهم الخاصة في الثامن من أيار، وهو التاريخ الذي تعتمده الدول الغربية لتوقيع الاستسلام الألماني بدل التاريخ الروسي في التاسع منه.
لا يقتصر الأمر على رسالة ديبلوماسية توجهها دول كفرنسا وبريطانيا وطبعاً الولايات المتحدة إضافة إلى بعض دول أوروبا الوسطى والشرقية التي حررها الجيش الأحمر من النازيين، والتي كانت للأمس القريب ضمن المعسكر الشرقي، لروسيا في هذه المناسبة، التي من المفترض أن تكون جامعة، على اعتبار أنها جمعت هذه الدول في مواجهة مع ألمانيا النازية، في حرب حفرت عميقاً في ذاكرة شعوبها، لكنها لم تحفر عميقاً بالقدر نفسه في أجسادها. فالجيش الألماني دمر 80% منه على الجبهة الشرقية وليس على أي جبهة أخرى، وقدم الاتحاد السوفياتي نحو 26 مليون قتيل. لا يمكن مقارنة ما حصل في شرق أوروبا بالكثير من الدول التي تدعي حصة الأسد في الانتصار على النازية، للسطو على الذكرى. ففرنسا مثلاً استسلمت بعد أسابيع قليلة من دخول الجيش الألماني أراضيها، ولم تتعرض للتدمير إطلاقاً كما تعرض الاتحاد السوفياتي، فيما قسم كبير من نخبها السياسية والثقافية كان متعاوناً جداً مع المحتل، بغض النظر عن كل الأدبيات التي تتحدث بتضخيم كبير عن مقاومة للنازيين، لا تعدو كونها خطاباً نرجسياً لمسح ذكرى هزيمة مهينة. أما بريطانيا التي تعرضت لقصف جوي مدمر خاصة العاصمة لندن فلم تنتقل المعارك إلى أراضيها، لأن الجزيرة لم تُغزَ. فيما الولايات المتحدة لم تدخل الحرب إلا بعد الاعتداء على أراضيها في «بيرل هاربور» وحاربت على أراضٍ ليست لها أيضاً. فمن دون التقليل من دور الحلفاء في هزيمة ألمانيا النازية، يبقى تقديم إنزال النورماندي دعائياً على أنه العامل الحاسم في هزيمة النازيين غير متوازن وغير منصف وسطواً وقحاً على تضحيات الشعوب السوفياتية والشعب الروسي خاصة. وأخيرا لا شك في أن لعدم مشاركة العديد من رؤساء الدول وقعاً ديبلوماسياً متفاوتاً، لكن الأكيد أيضاً أنهم سيفوتون على أنفسهم مشهدية جميلة في الساحة الحمراء اليوم.




عرض احترافي اليوم بمشاركة صينية

سيشارك في العرض الروسي هذه السنة نحو 16500 ألف عسكري، و2300 من المحاربين القدامى الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى 200 آلية عسكرية بينها الدبابة الروسية الجديدة «ارماتا»، و140 طائرة حربية، وأنواع أخرى من الأسلحة الحديثة كالمدافع الذاتيةالحركة «مستا-اس» و«كواليتسيا-اس»، دبابات «ت-90»، وأنظمة دفاعات جوية متوسطة المدى من طراز «بانتسير-اس1»، فضلاً عن منظومة «إس ـ400». وسيشارك أيضاً نوعان من المدرعات، هما «راكوشكا بي ام دي-4ام»، و«بي تي ار-ام دي ام»، والصواريخ الباليستية «ار اس-24 يارس»، وهي أسلحة تشارك للمرة الأولى في العرض، قبل أن يختتم العرض مع سلاح الطيران، باستعراض مقاتلات السوخوي «سو-30» و«سو-35»، وقاذفات توبوليف «تو-22» «م-3», «تو-95»، و«تو-160». إشارة إلى مشاركة بعض القطع التاريخية كدبابة من طراز «ت-34»، والمدفع المتحرك «اس يو-100»، اللذين سيفتتحان القسم المتحرك من العرض.
كذلك يشارك جنود حرس الشرف الصيني في العرض العسكري لأول مرة. إضافةمشاركة جنود من أذربيجان، أرمينيا، بيلاروسيا، كازاخستان، كيرغيكستان، طاجاكستان، الهند، منغوليا، صربيا.
(الأخبار)