واشنطن ــ محمد دلبح
  • قضية تفجير المقر اليهودي في الأرجنتين، والاتهام الجديد لإيران وحزب الله، لا يبدو خارجاً عن سياق الحملة الأميركية الإسرائيلية لزيادة الضغط على الطرفين، واستخدامه كعنصر إضافي في الملف النووي الإيراني، وتوجيه تهمة دعم الإرهاب إلى الحزب وطهران، مستخدمين في ذلك معلومات من «الموساد» والاستخبارات الأميركية

  • معلومات من الموساد و«سي آي إيه» لزيادة الضغط على إيران وحزب الله


    مضى 12 عاماً على تفجير مقر الجمعية التعاضدية اليهودية الأرجنتينية (آميا) في بوينس ايرس صباح الثامن عشر من تموز عام 1994، والذي أسفر عن تدمير المبنى ومقتل 85 شخصاً وجرح أكثر من 200، غالبيتهم من اليهود.
    ورغم مضي تلك المدة، فإن التحقيقات لا تزال بعيدة للغاية عن الكشف عن ملابسات ذلك الحادث، الذي يعدّ أكبر عملية تفجير شهدتها الأرجنتين في تاريخها، علماً بأنه كانت قد سبقتها عملية تفجير السفارة الإسرائيلية في بوينس ايرس عام 1992، والتي أسفرت عن مقتل 25 شخصاً من موظفي السفارة والعاملين فيها.
    وفيما أحيطت عملية تفجير السفارة الإسرائيلية باهتمام إعلامي محدود لما أثير حولها من علامات استفهام، نظراً لتضارب وجهات النظر حول ما إذا كان التفجير وقع خارج السفارة أم داخلها، فإن عملية تفجير «آميا» ظل حاضراً في وسائل الإعلام وفي الأوساط السياسية، وتحوّل مع الوقت إلى قضية تداخلت فيها التلاعبات وعمليات الرشوة والفساد وتبادل الاتهامات.
    ومنذ وقوع التفجير، وجّهت الحكومة الأرجنتينية أصابع الاتهام إلى إيران، ثم ركّز القضاء الأرجنتيني خلال سنوات سابقة على محاكمة عناصر من قوى الأمن الأرجنتيني بتهمة المسؤولية عن التفجير. ولكن المحاكمة العلنية النهائية، التي جرت في عام 2004، أسفرت عن تبرئة هؤلاء وفضح تلاعبات القاضي خوان خوسيه غاليانو، الذي تبيّن أنه اتفق مع رئيس الاستخبارات الأرجنتينية على دفع مبلغ 400 ألف دولار لبائع سيارة من أجل أن يتهم عناصر الشرطة بالقضية.
    وتم في ضوء ذلك الإفراج عن هؤلاء وطرد القاضي، لتعود القضية إلى نقطة البداية وتحال إلى القاضي الفيدرالي كانيكوبا كورال. وتم إنشاء مكتب ادعاء عام خاص برئاسة المدعي العام البرتو نيسمان لمتابعة القضيةولجأ نيسمان في مطلع شهر تشرين الثاني الجاري إلى إعداد دعوى بشأن القضية، اتهم فيها إيران مباشرة باتخاذ قرار الهجوم وتكليف حزب الله بتنفيذه. وطلب من القضاء إصدار أوامر باعتقال ثمانية من كبار المسؤولين الإيرانيين، بينهم الرئيس السابق علي أكبر هاشمي رفسنجاني والعديد من القياديين في حكومته.
    وبعد أسبوعين من ذلك، تدارس كورال الدعوى ووافق على مضمونها، وأصدر مذكرات توقيف بحق رفسنجاني وسبعة من كبار المسؤولين الإيرانيين السابقين ومسؤول في حزب الله لتتفجر القضية مجدداً، وتبشّر بأزمة بين الأرجنتين وإيران.

    خلفيات وحيثيات

    وكانت إسرائيل والولايات المتحدة قد انضمتا منذ التفجير إلى جانب متهمي إيران وحزب الله بالعملية، واتخذت الحكومة الارجنتينية التدابير لمراقبة الجالية اللبنانية الاسلامية، وخصوصاً الشيعية المقيمة في البلاد، ووضعت العراقيل امام سفر اللبنانيين إلى الأرجنتين. ووقف الإعلام الأرجنتيني إلى جانب هذا الموقف الرسمي، وتعرضت الجالية الاسلامية للكثير من الحملات وجرى التحقيق مع العديد من أفرادها من دون أي نتيجة.
    وكان القضاء الأرجنتيني قد استند في مجمل اتهاماته إلى معلومات قدّمها له جهاز الاستخبارات الاسرائيلي (الموساد) ووكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي آي إيه)، بالإضافة إلى إفادات حصل عليها من شاهد ايراني، قيل إنه «يعمل في الاستخبارات الإيرانية، وكان على علم ببعض التفاصيل».
    وقبيل سقوط نظرية اتهام عناصر قوى الأمن الأرجنتينية بتنفيذ العملية، حصلت اتصالات بين الاستخبارات الارجنتينية والأميركية عامي 2002 و2003، جرى على اثرها إعداد تقرير ارجنتيني رسمي يتهم ايران بالعملية. وسلّمت الأرجنتين اسرائيل التقرير الذي اعتمدته بدورها وثيقة رسمية لتوجيه الاتهام والمطالبة بقطع العلاقات معها.
    وأقدمت إيران في عام 2003 على تجميد علاقاتها التجارية والثقافية والاقتصادية مع الارجنتين، بعدما كانت العلاقات الدبلوماسية قد جرى خفضها إلى أدنى المستويات عام 1994.
    وبناءً على التقرير، وضع نيسمان نظرية جديدة مفادها أن «الانتحاري الذي نفذ العملية يدعى ابراهيم برو، وهو لبناني ينتمي إلى حزب الله».
    وأجرى نيسمان، بالتعاون مع الاستخبارات الأميركية، لقاءً مع شقيقين للمذكور يقيمان في الولايات المتحدة، وأذاع أنهما «أكدا له أن أخاهما قتل في عملية استشهادية». لكن الشقيقين نفيا ذلك لاحقاً. كما ان حزب الله أصدر بياناً أفاد فيه بأن ابراهيم برو استشهد في جنوب لبنان في معركة ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي في عام 1995 وأن جثمانه لدى إسرائيل.
    وأثارت وسائل الإعلام مراراً شكوكها في وجود سيارة مفخخة بتفجير مقر «آميا»، حتى أن بعضها ألمح إلى أن التفجير ربما حصل داخل المبنى، وهو ما زاد في غموض القضية وتشابكها.

    الاتهام الجديد

    وعلى الرغم من كل ذلك، وسعياً من الحكومة الأرجنتينية للاستجابة لإلحاح اليهود الأرجنتينيين والأميركيين، استأنف نيسمان التحقيقات مركّزاً على دور إيران في العملية، وحصل على معلومات تفيد بأن رفسنجاني ومعاونيه اتخذوا قرار تفجير «آميا» عام 1993 في اجتماع رسمي لهم، وأنهم كلّفوا حزب الله بتنفيذ العملية، وأن الأخير كلّف رئيس شعبة العمل الخارجي فيه عماد مغنية بترتيب الأمر، فأرسل ابراهيم برو إلى الأرجنتين لإنجاز المهمة.
    والاتهام الأرجنتيني الجديد لإيران لا يحمل أي معلومات جديدة، إذ إن كل المعلومات التي استند إليها كانت موجودة أصلاً في القضية، وكان القضاء الارجنتيني في السابق قد طلب في ضوئها تسليم 12 مسؤولاً إيرانياً في الماضي، ولكن الجمعية العامة في الشرطة الدولية (أنتربول) رأت أن الطلب غير مستوفي المستندات وألغته.
    وفي ضوء المعلومات نفسها، أصدر القضاء الأرجنتيني أوامره الجديدة، ولكنها لم تشمل جميع الأشخاص، الذين كانت تشملهم الأوامر السابقة، وهذا ما دل على وجود فجوة في التحقيقات وعدم الانسجام في تقييم تلك المعلومات.
    وشملت أوامر الاعتقال، إضافة إلى رفسنجاني، وزير الاعلام الايراني السابق علي فلاحيان ووزير الخارجية الايراني السابق علي أكبر ولايتي ورئيس الحرس الثوري الايراني السابق محسن رضائي ورئيس «الأمن الخارجي في حزب الله» عماد فايز مغنية، والمستشار الثقافي السابق في سفارة إيران لدى الأرجنتين محسن رباني والسكرتير الثالث السابق في السفارة أحمد رضا أصغري والقائد السابق لقوات القدس الإيرانية أحمد فاهيدي والسفير الإيراني السابق لدى الأرجنتين هادي سليمان بور.
    تجدر الإشارة إلى أن سليمان بور كان مشمولاً في أوامر الاعتقال السابقة منذ سنوات عديدة، وجرى اعتقاله في لندن، ولكن السلطات القضائية البريطانية أفرجت عنه بعد ذلك لعدم توافر الأدلة، ما شكل نكسة في حينه لموقف القضاء الأرجنتيني.

    الموقف الأرجنتيني الرسمي

    حاولت الحكومة الأرجنتينية منذ اندلاع الأزمة الجديدة التزام الصمت انطلاقاً من مبدأ استقلالية السلطة القضائية، ولتحاشي تفجير أزمة سياسية مع إيران.
    وأعرب وزير الخارجية الأرجنتيني خورخي تايانا عن استعداد وزارته لتطبيق القرارات التي قد تتخذها السلطة القضائية بشأن إحالة طلبات التسليم إلى إيران، وأنه يأمل من طهران، بعكس ما حصل حتى الآن، أن تقدّم التعاون اللازم للعدالة في هذه القضية.
    وعلى أثر صدور أوامر القاضي، رفضت وزارة الخارجية الإيرانية القرار، ورأت أنه لا يستند إلى أي أساس قانوني، واتهمت النظام القضائي الأرجنتيني بأنه نظام فاسد، وأن قرار القاضي صدر تحت ضغط اللوبي الصهيوني وله طابع سياسي ويشكل مؤامرة صهيونية أميركية ترمي إلى إضعاف إيران في الملف النووي، وكذلك للتعتيم على الهزيمة الأخيرة التي أصيبت بها إسرائيل في لبنان.

    تدخلات خارجية

    وعلى الرغم من حساسية القضية بالنسبة للعلاقات الثنائية بين إيران والأرجنتين، فإن التدخلات الخارجية الأخرى فيها توحي بأنها قد تتصاعد حدّتها، لتتحوّل إلى محور سياسي على الساحة الإقليمية والدولية.
    فما إن صدرت أوامر القاضي الأرجنتيني، حتى سارعت الولايات المتحدة إلى الترحيب بها، وأعرب البيت الأبيض عن سروره الكبير لموقف النظام القضائي الأرجنتيني «في سعيه الدائم للكشف عن هوية مرتكبي الاعتداء على آميا»، وكذلك عن استعداد الولايات المتحدة للمساعدة بأي شكل في هذه المسيرة، مشيراً إلى أن واشنطن ناشدت كافة الحكومات تقديم المساعدة للحكومة الأرجنتينية، معتبراً أن إيران وحزب الله يشكلان خطراً، وأن طهران مسؤولة عن مقتل مئات الأبرياء في العالم عبر دعمها للإرهاب.
    وتزامن ذلك أيضاً مع بيانات عديدة من المنظمات اليهودية الأميركية وقادتها تأييداً للأرجنتين وشجاعة حكومتها، وجرت اتصالات هاتفية بين قادة اليهود الأميركيين والرئيس الأرجنتيني نستور كيرشنر بشأن الموضوع، وكذلك اتصالات بين قادة اليهود في الأرجنتين وكبار المسؤولين الحكوميين.
    وإزاء هذا التحرك الكبير من جانب الأطراف الأميركية والإسرائيلية، قام مساعد وزير الدولة لشؤون الإسكان، لويس ديليا، وهو من المعروفين بالتزامهم التام بمواقف الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز، بزيارة السفارة الإيرانية وإعلان تضامنه مع إيران، ورأى أن قرار القضاء الأرجنتيني ناتج عن الضغوط الأميركية والصهيونية.
    وقد فسر هذا الموقف بأنه جاء نتيجة إيعاز مباشر من الرئيس الفنزويلي، حليف إيران في المنطقة، وخصوصاً أن العناصر الموالية لتشافيز شاركت بشكل قوي في التظاهرات والمواقف التي أعدّتها العناصر الإسلامية الموالية لإيران في الأيام الأخيرة.
    وكان لافتاً أن الرئيس الأرجنتيني، الذي كان قد تساهل مع ديليا في مواقف أخرى خطيرة، بينها هجومه على مخفر لقوى الأمن وهجومه على مزرعة لرجل أعمال أميركي، لم يتساهل معه في هذه المناسبة وأمر بطرده من الحكومة، ما فتح المجال أمام الكثير من التأويلات والتفسيرات.
    ومن هذه التفسيرات أن التحالف الذي أقامه كيرشنر مع الرئيس الفنزويلي، رغم متانته، بدأ يتراجع أمام التحالف الوطيد الذي أقامه الرئيس الأرجنتيني مع اللوبي اليهودي الأميركي والجالية اليهودية الأرجنتينية، وهو تحالف يتمثل بالمزيد من الاستثمارات التي يقوم بها رجال الأعمال اليهود الأميركيون في الأرجنتين، إضافة إلى فتح أبواب المسؤولين الأميركيين أمام المسؤولين الأرجنتينيين.
    ويرى البعض أن تقارب فنزويلا القوي مع إيران لم يرق لكيرشنر، الذي لا يريد الابتعاد عن الولايات المتحدة، ولذلك فإنه ربما انتهز هذه القضية لتوجيه رسالة إلى تشافيز، بما معناه أن أصدقاء تشافيز ليسوا بالضرورة أصدقاء كيرشنر.
    وفسّر الموقف الأرجنتيني في سرعة إقصاء المسؤول الأرجنتيني الموالي لتشافيز بأنه رسالة إلى الولايات المتحدة لفتح صفحة جديدة بعد التوتر الذي حصل بينهما على اثر قمة الدول الأميركية في الأرجنتين، والتي وقف فيها كيرشر الى جانب تشافيز ضد الرئيس جورج بوش في موضوع سوق «ألكا»، الذي يشمل كافة دول القارة الأميركية، وهو مشروع اقترحته الإدارة الأميركية منذ مطلع التسعينيات ولم تتمكن من تحقيقه حتى الآن.
    كذلك رأت أوساط أخرى بأن الرئيس الأرجنتيني سعى من وراء ذلك إلى تحسين علاقاته مع الأطراف اليهودية واليمينية، تمهيداً لخطب ودّها في الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2007، والتي ربما يترشح فيها ساعياً وراء التجديد لولاية ثانية.
    ولا تنحصر تفاعلات هذه القضية الخارجية في هذا المجال فقط، بل توجد مؤشرات إلى أن الولايات المتحدة عازمة على استخدام قضية «آميا» في إطار الأمم المتحدة من أجل ضم هذه القضية إلى مجمل القضايا الأخرى لإدانة إيران والضغط عليها، بالإضافة إلى استخدام القضية أيضاً لتكثيف اتهاماتها لحزب الله بأنه «مجموعة إرهابية، وأن إيران تموّل الإرهاب».